عندما سجّل الصبي المعدم حلم الطفولة أن يمتلك حقلاً وخيولاً ومضمارًا، شطب المعلّم على درجته وحرمه من متعة الحلم.

– كيف تحلم بهذا وأنت لا تمتلك قيمة الدفتر الذي تدوّن فيه حلمك، والذي كان هدية من جمعية خيرية؟
يعرض على تلميذه أن يعيد الامتحان، فيرد الصبي بكبرياء:
– احتفظ بدرجتك، وسأحتفظ بحلمي!
يا للعظمة، حين تتمثل موقفًا شامخًا يستعلي على الاستلاب، ويصرّ على المواصلة ليجد نفسه في نهاية المطاف حيث يحب! إنه التحدي الذي يضطرك أحيانًا إلى المضي قُدمًا في طريقك غير عابئ بسارقي الأحلام.
حين قال “مارتن لوثر كينغ” كلمته السائرة: “أنا لديّ حلمٌ” كان يتحدث بأكثر من لغة، أهمها لغة الإنسان.
أحلام المنام ضرب من الخيال، ما زال الإنسان يدأب حتى حقق معظمها، فطار في الفضاء، وأبدع وابتكر وذلل الصعاب وقهر المستحيل.

الحلم فوق الطموح

وَإِذا كانَتِ النُّفوسُ كِبارًا
تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ

الهدف حلم مؤقت له مدة ينتهي إليها، أما الحلم فهو شوق دائم متصل بنبض القلب وخفق الروح وتطلع العقل وسبح الخيال.
حين يتحقق الحلم كأنه يتبخّر، إذا قطفته مات. فأجمل ما في العمر هو الانتظار، لحظات الترقب مشحونة بتفاعل غريب هو ذروة الحياة. سيظل الحلم حلمًا يروى بدموعنا، ويقتات من سهرنا، ويستحوذ على يقظتنا ومنامنا.
كان “مارتن لوثر كينغ” يقول: “سأزرع شجرة التفاح ولو كنت أعلم أن نهاية العالم هي الغد”، وهو اقتباس من مكنون الحكمة الإنسانية الرفيعة.
مشكاة النبوة كانت أبلغ حين قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبخاري: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل”. مقام النبوة ذكر النخل “الرّاسخات في الوَحْلِ، المُطْعِمات في المَحْلِ”. وهي تشبه الرجل المؤمن رمزَ الصبر والانتظار والمقاومة واحتمال العطش.
إذا قيل هذا مَنْهلٌ قُلت قدْ أَرى
ولكنَّ نفسَ الحُرِّ تحتملُ الظَّمَا!
لم يقل: غدًا، وإنما قال: الآن.. لو اختلستَ بضع ثوانٍ لتغرس الفسيلة قبل أن يلحقك الفَوتُ فافعل.
حلم جميل لا يموت، لأنه لا يتمحور حول الذات، بل فيه حظ وافر للآخرين، ليس أنانيًّا.
الوعد الحق “الأجر” تغذية للطموح حتى في عمل الدنيا الذي يعلم أنه لا يثمر، مجرد “الفعل” هو حفظ لإنسانية البشر من التلاشي والانهيار، إنه “العلاج بمعنى”. هذا سر الغيب في الثواب الأخروي، وهو حافز آخر غير مجرد الإيمان بأهمية الفعل.
الحلم نقلة من ضيق اللحظة إلى سعة المستقبل، من الإحباط إلى الأمل والتفاؤل، من الخوف إلى الرجاء والتطلع. الطفل الفقير يحلم بتفاحة يقضمها، أو فراش وثير ينام عليه، أو دُمية يلعب بها.. الخائف يحلم بالأمان ولا يفكر بما سواه، والمخاوف هي عدو الأحلام، وحينما يستحوذ الخوف يبدو المرء مكبلاً بالقيود.
قد يعيش المرء في زنزانة يراها ويلمس قضبانها ويحس بأنه محبوس، وقد يعيش في زنزانة لا يراها ولا يلمس قضبانها ويظن بأنه حر وهو قنٌّ مثقل بأوزار الحديد.
تأمّل لغتك.. كم مرة في اليوم تقول: “نعم ولكن أخشى”.. العائلة حلم جميل، إشباع لرغبة الامتداد الإنساني، ورؤية الذات في الآخر بشكل منفصل جسديًّا متصل روحيًّا ووجدانيًّا.
قمة الهرم الثقة بالنفس وقدراتها والجرأة على بدء الخطوات الأولى نحو الحلم العظيم.
أعلِّلُ النفس بالآمال أرقُبُها
ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ.
ثم مَن يحاصر الحياة، وأسوأ منه، من يحاصر الأحلام فلا يريد من الناس أن يحلموا، أو أن يمتد خيالهم إلى أبعد من معاناتهم اليومية. السعادة حلم.. والنجاح حلم.. والحرية حلم؛ حتى لدى الطائر يضرب شباك القفص ويرنو إلى الفضاء، أو القطّ يموء ويتمسح بالباب يطلب الانعتاق من ذل القيد.
والعدالة حلم المجموع، حين تذوب الفوارق المصطنعة ويتساوى الكل أمام سلطة الدنيا أو سلطة الآخرة.
ولقد قُلت لنفسي، وأنا بين المقابر..

هل رأيتِ الأمن والراحة إلا في الحفائر؟
فأشارت، فإذا للدود عَيْثٌ في المحاجر
ثم قالت: أيها السائل إني لست أدري!
انظري كيف تساوى الكل في هذا المكان
وتلاشى في بقايا العبد رب الصولجان
والتقى العاشق والقالي فما يفترقان.
شعورك بأنك يجب أن تضيف شيئًا إلى الحياة، أنك تعيش مخلصًا لحلم تنتظره.. هذا يكفي.
مُنًى إن تَكُن حقًّا تَكُن أحسَنَ المُنى
وإلا فَقَد عِشنا بها زمنًا رَغدا
أمانيُّ مِن سُعدى عِذابٌ كأنما
سَقَتنا بها سُعدى على ظمإٍ بَردا

أن تكون مثالاً لمبدع أو متفوق، أو نمطًا جديدًا يفتح آفاقًا لآخرين، أو نموذجًا مركبًا من نماذج عديدة. سألني فتى عن أهم أحلامي؟ فقلت: أن أموت وأحلامي تنبض بالحياة وتواجه التحدي، وتنفخ روح الأمل في ضمائر البائسين واليائسين والمحبطين.
لا تَخفْ على حلمك متى كنت مخلصًا وصبورًا، لأن العالم حينئذ سيتآمر كله لتحقيق حلمك كما قال “باولو كيليو” ذات مرة. يجب أن يكون الحلم عشقًا رائعًا، يخالط اللحم والدم، ويتخلل العظم، ويطل من العيون، ويسكن اللغة، ويندفع مع الزفير ليعود مع الشهيق.
الفتى يرسم الحلم في سيارته أو دفتره، والفتاة ترسمه في غرفتها أو شنطة يدها، وقبل هذا، يجب أن يكون مرسومًا في سويداء القلب وأعماق الوجدان ومسكن الروح.
ستلقي هنا بالأعذار والمعوقات في سلة المهملات، ولن تسمح للإخفاق أن يكسب الجولة. “احرص على ما ينفعك”؛ دعوة نبوية للتعاطي الجاد مع الفرص الإيجابية بروح المبادرة والإنجاز. “واستعن بالله”؛ فحين تربط حلمك بالله تمنحه أزلية وسرمدية ليتحول من حلمِ فردٍ إلى أحلام أمة، من حلمٍ دنيوي معزولٍ إلى أفق فسيح ممتد إلى حيث الآخرة والعدل والقسط والفضل الرباني في نعيم لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال. “ولا تعجزْ”؛ وكيف يعجز مَنْ وقودُ روحه من جذوة الإيمان؟ “وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل قدَرُ الله وما شاء فعل”.
فالإيمان ليس جبرية عمياء ولا استسلامًا ولا جحودًا للطاقة الإنسانية الهائلة، وليس بكاء على الأطلال، ولا جزعًا من تغيُّرات الأحوال، إنه اليقين بأن الخير حيث يضعك الله، وأنك كل يوم تنشئ حلمًا جديدًا، وأملاً جديدًا، ونجاحًا جديدًا. وما لم تمتلك القدرة على الحلم؛ فلن تفعل شيئًا.
عليك أن تحذر أن تدجّن حلمك لتجعله صورة مشوهة مسكونة بتعرجات الواقع واعوجاجاته.. احلم دون قيود.. أطلق خيالك.. واصنع عالمك الافتراضي الذي سيغدو حقيقة ملموسة متى آمنت بها.
“لوحة الأحلام” فكرة بسيطة، اكتب عليها أهدافك، وضَعْها في مكان ظاهر تراه كل يوم، أهداف قريبة بعيدة المدى. اكتب معها آية كريمة أو حديثًا أو حكمة تؤمن بها.
سوف نتفوق حينما نمتلك أحلامًا ورديَّة بعدد شخوصنا، أو حينما يفلح أولئك الذين يمتلكون الأحلام الجميلة من الإمساك بناصية الحياة. سوف نتفوق حينما يصبح الخطاب المتدين حافزًا للأحلام وليس رقيبًا عليها.

السِّر

سألني أحد الشباب عن كتاب “السِّر” من تأليف الأسترالية “روندا بايرن”؛ فأحوجني إلى شرائه وقراءته، وصَحبتُه في بعض سفري، فرأيت نظرية تقوم على تحفيز كوامن النّفس للتفاؤل والعمل، والثقة بأن ما يريده المرء أو يحاوله ممكن، بل هو واقع لا محالة متى قاله المرء بلسانه واعتقده بجنانه ورفعَ الأفكار السوداوية المتشائمة..
وأن على الإنسان أن يكرّس ذهنه وفكره لما يريد وما يحب أن يكون، وليس على ما يكره أو ما يحاذر ويخشى. وذكّرني هذا بكلمة للإمام ابن القيم في مدارجه، يقول فيها: “لو توكّل العبد على الله حقّ توكّله في إزالة جبل عن مكانه، وكان مأمورًا بإزالته لأزاله”.
وذكّرني أيضًا بالكلمة السابقة لـ”مارتن لوثر”: “أنا لديّ حلم”، ولم يقل: أنا لدي مشكلة.
نعم، كان هناك مشكلة ولا تزال، بيد أننا إذا دخلنا الحياة من بوابة المشكلات دخلناها من أضيق أبوابها.
وجدتُ فكرة الكتاب في الأصل، فكرة بحاجة إلى أن نُرسّخها في ضمائرنا بعيدًا عن الجدل حولها، حتى لا يخبو وهجُها ولا تنطفئ روحُها، نفعل ذلك لأن هذه الفكرة هي أحد المحفّزات الحقيقية للعمل والإنجاز والصبر.
وجدت أن مئات النصوص والكلمات التي أوردتْها المؤلفةُ وعلّقت عليها -وهي تدور حول تفصيلات الفكرة وقوانينها- لا تكاد تخرج في مؤدّاها عن مضمون حديثين أو ثلاثة، أحدها قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رواية عن ربه جل وتعالى في الحديث القدسي: “أنا عند ظنِّ عبدي بي” كما في صحيح البخاري ومسلم، وفي لفظ: “فليظُنَّ بي ما شاء” كما أخرجه أحمد، وابن حبان، والحاكم.
وفي لفظ “إنْ ظَنّ بي خيرًا فله، وإن ظن شرًّا فله”؛ إن الظن هنا يشمل الدنيا والآخرة، وحُسْنُ الظن من حُسْن العمل. وحين نذهب إلى ترسيخ فكرة علينا ألّا نُوغل في حكحكتها أو نفرط في افتراض ضوابط واستثناءات؛ لأنها تبهت أو تموت. وإذا استقرت الفكرة سهل بعدُ تعديلها وتصويبها.
والحديث الثاني قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة“، وهو حديث لا بأس بإسناده، وأخرجه والترمذي، والطبراني، والحاكم. والمعنى أن يدعو العبد وهو موقن بأن الله سيجيبه، وليس على سبيل التجريب أو الشك أو التردد.
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول: “إني لا أحمل همّ الإجابة، ولكن همّ الدعاء، فإذا أُلهمتُ الدعاءَ فإن معه الإجابة”.
وأرى هذه الكلمة من إلهاماته ـ رضي الله عنه ـ، وكأن مقصوده ليس مجرد التلفظ بألفاظ الدعاء -وإن كان هذا حَسَنًا وصاحبه مأجور- بل ما هو أبعد من ذلك من استجماع القلب والفكر على الثقة بالله، وصدقِ وعده في الكتاب الكريم: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(غافر:60)، (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)(النمل:62)، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(البقرة:186). إن النظرة السوداوية كفيلة بسجن صاحبها في قبو مظلم مكثّف الرطوبة فاسد الهواء، يذكرك بالقبر الذي وصفه بدر السيّاب بقوله:

أُمّاهُ لَيْتَكِ لَمْ تَغِيبِي تَحْتَ سَقْفٍ مِن حجَارْ
لاَ بَابَ فِيهِ لِكَي أَدُقَّ وَلاَ نَوَافِذَ فِي الْجِدَارْ!

وكأنه استعجل الموت قبل أوانه، ولا غرابة أن تجد ضحايا التشاؤم والانعزالية والانغلاق النفسي، يردّدون عبارات الحنين إلى الرحيل دون مناسبة، بل وينتقدون من يحاول حرمانهم من هذه المتعة الوحيدة المتبقية لهم في الحياة إنْ صحّ أنهم أحياء.
وفي الحديث وقد سُئل ـ صلى الله عليه وسلم ـ: مَن خير الناس؟ فقال: “مَنْ طال عمرُه وحَسُنَ عمَلُه” (أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه). وفي آخر: “لا يَتَمَنَّ أحدُكم الموتَ ولا يَدْعُ به مِنْ قبْلِ أن يأتيَه. إنه إذا مات أحدُكم انقطعَ عملُه وإنه لا يزيدُ المؤمنَ عُمْرُه إلا خَيْرًا” (أخرجه البخاري ومسلم).
والحياة نعمة امتنّ الله بها على الأحياء، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا استيقظ من نومه شكر الله وقال: “الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور” (أخرجه البخاري ومسلم). إن الاتصال بهدي الأنبياء ليس زادًا إلى الآخرة فحسب، بل هو زاد إلى الحياة الطيبة في دار الدنيا كذلك.

(*) عالم ومفكر وداعية / المملكة العربية السعودية.