كيف تكون غالب أفكاري صحيحة؟

الفكرة الصحيحة تُنتج أفكارًا صحيحة، وأما الفكرة الخاطئة فلا تقتصر على إنتاج الأفكار الخاطئة، بل إنها تقوم بهدم الأفكار الصحيحة وتقويضها، إلا في حالة واحدة فقط؛ فيمكن في هذه الحالة وحدها للفكرة الخاطئة، أن تُنتج أفكارًا صحيحة، وهي فيما لو فكّرتَ في تصحيح الفِكرة. وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا بالفكرة الأولى نحو ذلك، وبالخطوة الكبرى، ألا وهي الاعتراف بالخطأ الذي هو أهم خطوات التصحيح.
ولقد جربتُ ذلك كله مرارًا.. إذا بدأتُ بالفكرة الصحيحة، وزدتُ تأملاً لها وتفريعًا عليها، وجدتُ أنها تزداد رسوخًا من جهة، ومن جهة أخرى فإنها تَدُلُّني على نتائج أخرى ربما تكون أكثر إبهارًا وأشد إبداعًا من فكرتي الأولى. وغالبًا ما تكون هذه النتائج الجديدة غيرَ مقصودة مني يوم أن وصلت إلى الفكرة الصحيحة الأولى، بل لم تكن هذه النتائج أصلاً في حسباني عندما هُديتُ للفكرة الأولى.
وهذا غريب جدًّا؛ إذ كيف أصل لغاية لم أكن أقصدها أصلاً؟! حتى كأن تلك الغاية هي التي قصدتْكَ، وهي التي تجيء إليك! نعم، إلى هذا الحد من الغرابة تصل هدايةُ الحق للحق، وتوفيقُ الصواب إلى الصواب.
بل من المواقف الغريبة التي مرت عليّ في هذا، أني ربما درستُ مسألة فوصلتُ فيها إلى فكرة صحيحة. ثم بعدها بمدة أدرس مسألة أخرى لا أتصور ولا أستحضر أن لها علاقة بالمسألة السابقة، وأتوصل في المسألة الجديدة إلى النتيجة التي أحسبها صحيحة. ثم بعد ذلك -ولربما بعده بزمن- أكتشف علاقة المسألتين ببعضهما، وأن نتائج كل واحدة من المسألتين تـتأيد وتتأكـد بنتائج الأخرى، وأن بينهما ترابطًا قويًّا، بل ربما كان ترابطًا ملزِمًا، فلو اختلفت نتائجُ إحدى المسألتين عما هي عليه في دَرْسي لها، لكان ذلك تناقضًا يوجِب إبطال كلا النتيجتين أو إحداهما.
والأغرب من ذلك والأهم، أن النتائج الصحيحة المتولِّدة من الفكرة الصحيحة، لا تنقطع أبدًا ولا تزال تتوالد.. فهي لن تنقطع حتى تنقطع أنت عن تأملها واستخراجِ متعلَّقاتها. فالفكرة الصحيحة أمٌّ لا تعرف سنَّ اليأس، فهي أمٌّ ولودٌ أبدًا ما استَوْلَدْتَها.
ولا أستطيع أن أفسر هذه الظاهرة الكونية اليقينية الغريبة، وهي ظاهرةُ تَوالدِ الأفكار الصحيحة من بعضها، إلا بناءً على أن الكون كلَّه مخلوق بالحق وللحق. ولذلك قال تعالى مبينًا هذه الحقيقة الكونية: “وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ”(المؤمنون:٧١)؛ فلولا أن السماوات والأرض ومن فيهن مخلوقون بالحق وللحق، ولولا أن صلاح الكون قائمٌ على الحق الإلهي المطلق الذي خُلق عليه، لما تَغيّر شيء باتباع أهواء المبطلين، ولما فسد الكون بذلك، إذ إنما يفسُد الصالح، ولا يَحيد الباطلُ إلا بعد وجود صراط الحق المستقيم. وكيف لا يكون الكون مخلوقًا بالحق وللحق وخالقه هو الحق سبحانه: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ”(الأنعام:٧٣).
ولذلك كان كل حق في هذا الكون يهدي لحقائق لا تنتهي. ولو لم يكن ذلك كذلك، لما هدتنا كل حقيقة فيه إلى حقيقة أخرى، ولما ارتبط كل حق فيه بحق آخر، إلى نهاية لا نعرف نهايتها من الحقائق إلا باستحضار قوله تعالى: “وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً”(الإسراء:85).
وأما الفكرة الخاطئة، فهي فكرة بتراء مبتوتة، فهي أمٌّ عاقر لا تلد أبدًا وإن ظنها المتعجل أمًّا للأفكار الخاطئة، وأنها تلد أفكارًا خاطئة. واللطيف (غير اللطيف) أن هذا الظن خطأ جديد، ربما يكون هو الخطأ الوحيد المتولِّد من الخطأ. فالخطأ لا يلد خطأ ولا صوابًا، وإنما يجمع الخطأُ بعضَه إلى بعضه، وتجذب فيه الفكرةُ الخاطئة أفكارًا مشتـتة لا أواصر حقيقية بينها، إلا أن المتعجل قد يظنها أفكارًا مترابطة، والواقع أنها لا ترتبط إلا برباط واحد وهو رباط الخطأ، ورباط الخطأ خطأٌ ولا بد. ولذلك فهو رباطٌ متوهَّم، ما أشبهه بملجأ لأبناء الخطيئة الذين لا ارتباط بينهم إلا في كونهم أبناء الخطيئة(1).
والفرق بين توالد الفكرة الصحيحة وتجاذب الأفكار الخاطئة، فرقٌ ظاهرٌ ظهورَ الفرق بين الحق والباطل. فتوالدُ الأفكار الصحيحة تَوالُدٌ طبيعيٌّ، ولذلك فالترابط بين أفكاره مفهومٌ لقوته ووضوحه، ولذلك -أيضًا- فإن النفس تنشرح له، وبه تتضح رؤية صاحبها، ويزداد يقينًا من صحة فكرته الأولى. وأما تجاذُب الأفكار الخاطئة فهو تَجمُّع مشبوه مصطنع، لا يكاد يستطيع أحدٌ -غير صاحب تلك الأفكار حسب توهمه- أن يعرف وجه ترابطها وسبب تَجمُّعها، وهو تَجمُّع تضيق به النفس وتُظلم به الرؤية، وكأنه تَكاثُفٌ لحُجُبٍ من الظلام، فيزيد صاحبَه شكًّا في فكرته الخاطئة الأولى إن لم يزده يقينًا من خطئها.
ولذلك كانت الفكرة الخاطئة فكرة عاقرًا لا تلد أبدًا، كما كانت من قبل فكرةً لا تعرف لها أمًّا ولا أبًا. فهي فكرةٌ بتراء مبتوتة بلا أصل ولا فرع.
فلا تستغرب بعد ذلك إن قلنا: إن الفكرة الصحيحة الوحيدة التي يمكن أن تتولد من الفكرة الخاطئة، هي فكرة الاعتراف بخطئها كما سبق، والتي سيتولد عنها فكرة صحيحة أخرى هي فكرةُ تصحيحها، ليكون هذا التصحيح هو الحفيدَ الشرعيَّ الوحيدَ للفكرة الخاطئة.. ولكن لصعوبة هذا المخاض الذي يبدأ باعتراف خطير وكبير، ألا وهو الاعتراف بالخطأ، والذي ينتهي بتصحيحه سيكون الوليد الذي يخرج منه وليدًا معجزًا في نفْعه وفي دلالته للحق؛ لأن ولادته كانت خارقة للعادة، ما أشبهها بإخراج الحي من الميت.
فهنيئًا لمن عرف حقًّا فاستنطقَه فأنشأ الحقُّ له ديوانًا كبيرًا من فصيح القول وبليغ الكلام الناطق بالحق والصادح بالصدق، فبه يهتدي ويهدي. ورحمةً بمن وقع على باطل فاستنطقه فأوقعه في دَوِيِّ الصمت وضجيج السكوت المطبِق، فبه يَضِل ويُضِل. وما أسعدَ من عرف حقًّا فاستولده، وما أتعس وأشأم من وقع على الباطل فما زاده إلا عقمًا، وكان كشانئ النبي صلى الله عليه وسلم: مقطوعًا مبتورًا: “إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ”(الكوثر:3).

(*) كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى/ المملكة العربية السعودية.
الهوامش
(1) ولا أقصد بهذا التشبيه تحقيرًا لبريء مظلوم يعاقَب من بعض المجتمعات الجاهلة بجريرة غيره، وإنما أردتُ به استثمار شعورٍ خاطئ موجود تجاه أبناء الخطيئة (المولودين من غير نكاح شرعي)، مع وجهِ شبهٍ مؤلم بينهم وبين الأفكار الخاطئة، وهو جهالة الأصل والمنشأ.