الرضاعة الطبيعية وتأثيرها على نفسية الطفل

تذكر كتب الطب الكلاسيكية أن مدة الرضاعة الطبيعية لدى الطفل ستة أشهر، ثم زوِّدت هذه المدة فيما بعد إلى تسعة أشهر. وقد ورد في الكتب الطبية الحديثة أن الطفل يحتاج إلى عامين من الرضاعة الطبيعية، وأكد “دليل واشنطن للعلاج الطبي” (Manual of Pediatric Therapeutics) في أعداده الأخيرة، أن مدة الرضاعة الطبيعية للطفل يجب أن تكون عامين كاملين.
وإذا أردنا أن نلقي نظرة سريعة على حليب الأم وطبيعته، نرى أن نسبة الحمض الأميني “تورين” فيه -وهي مادة ضرورية لنمو مخ الطفل- أزيد من حليب البقر بأربعين مرة، وذلك يعني أن إرضاع الطفل مدة طويلة يلعب دورًا مهمًّا في نمو ذكائه.
هذا ويعدُّ حليب الأم أقوى مضاد للجراثيم، ويلعب دورًا مهمًّا في صحة الطفل، شأنه في ذلك شأن تزويد الطفل بالمضادات الحيوية القوية عن طريق الوريد حال إصابته بتعفن الدم وتسممه.
وهناك اعتقاد خاطئ بأن الأطفال المصابين بالإسهال ينبغي إبعادهم عن الرضاعة، ولكن الأصح إرضاعهم وإعطاؤهم دواء الإسهال.. فقد ثبت أن نسبة وفاة الأطفال، وزيادة نسبة الصوديوم في الدم، تكون قليلة للغاية في حالة الرضاعة الطبيعية.. ويؤكد ذلك، الأبحاث العلمية التي قام بها علماء متخصصون في إنجلترا وويلز.

حماية الطفل من أمراض كثيرة

يحتوي لبن الأم على مكوّن من الغلوبولين المناعي (IgA) و”اللاكتوفيرين” الذي يسمى أحيانًا بـ”الاكتوترا تسفيرين”؛ وهذا المركب يمنع من نمو الميكروبات، بالإضافة إلى احتواء لبن الأم على “أنزيم ليزوزيم” الذي يقوم بالقضاء التام على البكتيريا. وبالتالي فلبن الأم، يعد أقوى دفاع لجسم الطفل حديث الولادة، أمام المرض الأكثر فتكًا بالأطفال، وهو “الاتهاب المعوي القولوني الناخر” (Necrotizing enterocolitis).
نعم، إن لبن الأم يقوم بدور مهم في وقاية الطفل من الفيروسات المتنوعة؛ فهو يقضي على أنواع شتى من الفيروسات، ويقوّي مناعة الطفل، ويقلل نسبة إصابته بالأمراض.. وقد أكد العلماء أن لبن الأم يحتوي على كافة الفيتامينات والمعادن والأملاح التي يحتاجها الرضيع، كما يحميه من الإصابة بالأمراض، ويجعله أقل عرضة لالتهابات الجهاز التنفسي، والهضمي، والتهابات الأذن، والالتهاب السحائي.
والفضل في الدور الوقائي والمناعي الذى يقوم به لبن الأم في حماية الطفل في بداية حياته، يرجع إلى احتوائه على نوع من البروتينات وأجسام مناعية تسمى “IGA”، حيث يلعب هذا البروتين دورًا مهمًّا في حماية الطفل من الإصابة بالأمراض.
وكذلك أثبتت الدراسات والأبحاث العلمية، أن الرضاعة الطبيعية تقلل أيضًا نسبة وفاة الأطفال؛ إذ الأطفال الذين يرضعون رضاعة طبيعية، يكونون أقل عرضة بنسبة 20% من غيرهم للوفاة حتى بلوغهم.
ثم إن الأطفال الذين يتغذون على حليب الأم، يكتسبون مناعة ضد صلابة الشرايين، وضد السمنة أيضًا؛ حيث أكدت الأبحاث الطبية التي أجراها “ليوبد” و”فولكنر”، أن نسبة السمنة عند الأطفال الذين يعتمدون على الرضاعة الطبيعية وقتًا طويلاً، أقل من الأطفال الذين يتغذون على غير حليب الأم، وذلك لوجود بروتينات في حليب الأم تساعد الجسم في تعامله مع المواد السكرية والدسمة في الدم، وأن انخفاض هذه البروتينات في الجسم يزيد من احتمالية تكوّن الخلايا الدسمة.
ويشاهَد مرض قصور الغدة الدرقية بصورة أقل عند الأطفال الذين يرضعون رضاعة طبيعية زمنًا طويلاً، كما تنعدم حساسية حليب البقر وحساسية الحليب لدى رضيعي حليب الأم.
ويشير “ستيفنسون” إلى أن عدوى الجهاز التنفسي تنخفض عند الأطفال الذين يأخذون حليب الثدي خلال الستة أشهر الثانية من الرضاعة. أما مرض النكاف، والانفلونزا، وجدري الماء، والتهاب الدماغ، فتمنعه المواد الموجودة في حليب الأم، كما تزيد الأجسام المضادة الموجودة في الحليب، من مقاومة الجهاز الهضمي للطفل، ولا سيما ضد بيكتيريا (E. coli) والتي تعرف طبيًّا بـ”بيكتيريا الإشريكية القولونية”.

الرضاعة الطبيعية تفيد الأمّ

إن للرضاعة الطبيعية فوائد شتى للأم أيضًا؛ فطبقًا للأبحاث الطبية، فإن الرضاعة الطبيعية تقلل مخاطر إصابة المرأة بسرطان الثدي. كما لا يحتاج الطفل إلى أي تغذية إضافية غير لبن الأم، ونادرًا ما تحدث حالات فقر الدم عند الأطفال خلال التسعة الأشهر الأولى إذا ما استمروا يرضعون حليب أمهم.
لقد أجريت أبحاث ودراسات حول مرض “الإنيميا”، وتبين أن 50% من الأطفال الذين يتناولون لبن البقر بصورة يومية، يتعرضون لفقدان 7 سم3 من الدم، لأن لبن البقر يحتوي على نسبة قليلة من الحديد، مما يؤدي إلى تطور مرض الأنيميا. ويعتقد أن العامل المسبب لفقدان الدم هو جزيء الاكتالبومين الكبير الذي يؤثر على الأمعاء، والموجود في لبن البقر. المراد قوله هنا، إن قطْع الرضاعة الطبيعية مبكرًا عن الطفل، وإبدالها بأنواع الألبان الأخرى، يكون فيه أضرار للطفل الرضيع.

تأثيرات نفسية

إن قطع الرضاعة المبكر عن الطفل، يؤدي إلى أضرار نفسية للطفل، يقول الدكتور “أدسال”: “إن قطع الرضاعة الطبيعية عن الطفل بصورة مبكرة، تولد في الطفل حب التوبيخ والعنف، كما أن قطع الرضاعة الطبيعية بصورة مفاجئة، قد يؤدي إلى ظهور أمراض نفسية لدى الطفل”. أما الدكتور “كوكنيل” فيقول: “إن قطع الرضاعة الطبيعية عن الطفل بصورة مفاجئة، تعرّض الطفل الرضيع لأعراض مماثلة لما يعانيه الرجل النهِم عندما يمنع من الطعام، أو ما يعانيه المدخن المدمن من ضيق واضطراب في النفس”.
إن حرمان الطفل من الرضاعة الطبيعية قبل الوقت اللازم، يؤدي إلى أضرار نفسية كبيرة، ووفقًا للدراسات، تبين أن حرمان الأطفال من الرضاعة الطبيعية والاستعاضة عنها بالمغذيات الأخرى، يؤدي إلى تأثيرات نفسية سلبية على شخصية الطفل.
وبناء على الدراسات الاجتماعية التي أجريت حول الموضوع، تبين أن الأطفال الذين حرموا من الحنان والعطف والتقصير في التغذية، ظهرت عليهم أعراض العنف والهجوم على الآخرين، وأصبحوا غير جديرين بالثقة، بينما الذين استمرت رضاعتهم الطبيعية لعامين، أصبحوا أشخاصًا متزنين يتمتعون بالشفقة والعطف على الآخرين.
ولقد أشار الدكتور “هارلوف”، إلى أن الأم فضلاً عن تقديمها دعمًا ماديًّا لطفلها خلال الرضاعة، تقدّم دعمًّا نفسيًّا أيضًا، وتوكيدًا على ذلك، جاء بقفص فيه قرد صغير، ثم وضع في القفص ماكيت قرد مصنوع من الأسلاك المعدنية وفي داخله زجاجة رضاعة، ثم جاء بماكيت قرد آخر مكسوّ بفرو قرد ولكن لم يضع داخله زجاجة رضاعة.. فكانت النتيجة أن القرد الصغير كان يذهب للرضاعة إلى القرد السلكي دائمًا، وإلى قرد الفرو عندما يريد النوم.. وإذا أُخيف الصغير فسرعان ما كان يحتمي بالقرد المكسو بالفرو ويلجأ إلى حضنه، مما يدل على ميول الصغير بطبيعته إلى الجلد المكسو بالشعر، ليهدأ ويشعر بأمان.. مثل طفل بني الإنسان تمامًا، حيث يتغذى الرضيع في حضن أمه من جانب، ويشعر بالأمان من جانب آخر. يقول الدكتور “جابر أوغلو”: “إن الأمّ، تزيل جوع طفلها وتدفع الرطوبة والبرودة عنه، بالإضافة إلى أن الطفل يشعر في كل مرة تحتضنه أمه، برائحتها ولمستها ويسمع صوتها، حيث ينظر إلى وجه أمه، وبعد شهرين يبدأ يبتسم لها ويبكي. ولذلك تتميز الرضاعة الطبيعية عن الرضاعة من الزجاجة، وإذا حرم الطفل من الرضاعة الطبيعية مبكرًا يقوم بمص إصبعه ليشبع رغبته في ذلك”.
نعم، أثناء الرضاعة الطبيعية يكون الطفل في حضن أمه، يشعر بالطمأنينة والراحة والأمان، إلى جانب التغذية المثلى لنموه. ولقد وجد الدكتور “بوولبي” أن حصول الطفل على الأمان في ذلك السن المبكر ضروري ولازم لصحته النفسية.. ولقد أعلن الدكتور “مسرمان” أن حضن الأم للطفل أمر في غاية الأهمية.
إن الأطفال الذين يتمتعون برضاعة كاملة، يملكون الثقة بأنفسهم، وتكون حالتهم المزاجية والنفسية أكثر استقرارًا من غيرهم.. أما إذا حرم الطفل من الرضاعة الطبيعية مبكرًا، يؤدي ذلك إلى إصابته بالأمراض النفسية الخطيرة والتي يصعب معالجتها عند الكبر.

(*) أكاديمي وطبيب تركي. الترجمة عن التركية: صالح القاضي.