قيم وأسس التعايش مع الآخر

التصور الأسلم لما ينبغي أن تكون عليه علاقات المسلمين مع غيرهم من أبناء إنسانيتهم المواطنين من النصارى واليهود، أو غيرهم من أهل الملل الأخرى، مغاير تماما لما هو عليه واقع الدول العربية والإسلامية في الوقت المعاصر، فالواقع شيء والتصور الأمثل لهذه العلاقات شيء آخر، والعمل على تنزيل هذا التصور الراقي في التعامل مع المختلفين يحتاج إلى استيعاب هذه الرؤية ومحاولة فهمها، وفهم مقاصدها الدينية وأبعادها الوطنية، والتي من شأنها أن تسهم في الحد من الاستقطابات العنصرية سواء كانت دينية أو سياسية أو عرقية، في كثير من الدول التي تكثر فيها الأقليات الدينية المختلفة.

لذلك لا بد أن يعرف المسلم على ماذا تنبنى هذه العلاقة الإنسانية؟ وكيف هو التصور الإسلامي لما ينبغي أن تكون عليه؟

لقد كان الهدف من بعثة الرسل عليهم السلام، وإنزال الكتب والرسائل السماوية، هو ترسيخ مجموعة من القيم السامية، التي ترقى بالإنسان إلى مستوى إنسانيته، وفطرته السليمة التي خلقه الله عليها، وذلك من خلال ما انطوت عليه هذه الرسائل من فضائل وأخلاق كريمة وقيم إنسانية، تدعو الأمم والشعوب أن يتخذوها دستورًا ومنهجًا في الحياة؛ فجعلتها الشرائع السماوية لحمة لها، وأساسًا ثابتًا فيها، من أجل بناء صرح الدعوة إلى الحق التي كانت وما تزال رحمة للعالمين، والتي من أجلها أنزلت الرسالات.

وهنا ينفرد القرآن الكريم برؤيته السمحة الراقية، التي تشمل كافة الأجناس الإنسانية دون استثناء على إنسانية الإنسان، ومحاولة البحث عن المشترك الإنساني الذي يجمع ولا يفرق، ويصل ولا يقطع.

وفي هذا يخاطب القرآن الكريم أهل الكتاب من اليهود والنصارى خطابًا يعتبر مرجعيًّا لكل الناس، بشأن اللقاء والتلاقي على أسس متينة تشكل “الكلمة السواء”، والجامع المشترك، الذي تجتمع عليها الديانات والثقافات.

لقد كان الهدف من بعثة الرسل عليهم السلام، وإنزال الكتب والرسائل السماوية، هو ترسيخ مجموعة من القيم السامية، التي ترقى بالإنسان إلى مستوى إنسانيته، وفطرته السليمة التي خلقه الله عليها.

وهذه الأسس يمكن أن نجسدها في مجموعة من الالتزامات والقوانين المحددة لهذا اللقاء وهي:

  • التوحيد ووحدة الكلمة.
  • تحقيق المواطنة والمساواة بين الناس وفي الحقوق والواجبات.
  • رفض التسلط والاستبداد بكل أشكاله.
  • التزام السلم والأمن داخليًّا وخارجيًّا.

وبذلك نجد أن القرآن الكريم تحدث عن قيم وأخلاق عالمية، يمكن أن يتلاقى عليها ويجتمع عليها كافة البشر، على اختلاف أديانهم ومشاربهم وأوطانهم ومصالحهم، منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمن.

فالتوحيد هو غاية وجود البشر، ووحدة الكلمة، ووحدة الصف من شأنها أن تبعد الخلافات بين الدول والطوائف الدينية والعرقية. ومعلوم أن من أهم مقومات العيش الكريم، ونيل القوة والتمكين، والرقي والتعمير؛ هو الاستقرار بكل أنواعه، وفي كل مجالاته، ولا سيما في المجالين السياسي والاقتصادي، ولا يكون هذا الاستقرار واقعًا ملموسًا ينعم به المواطنين، إلا بوجود وتحقق مطلب وحدة الكلمة ووحدة الصف، لأن من شأن اضطرابهما اضطراب حياة الناس، ولذا يكثر في الاستعمال السياسي والاقتصادي استخدام كلمة الاستقرار بوحدة الصف، والكلمة الواحدة ذلك أن الاستقرار ضرورة من ضرورات العيش الكريم.

أما المواطنة الحقيقية فتتحقق بالمساواة بين الناس في القيم الإنسانية المشتركة؛ وهي تتمثل في الاعتقاد بأن الناس جميعا متساوون في طبيعتهم البشرية، وأن ليس هناك جماعة تفضل عن الأخرى بحسب عنصرها الإنساني، فالتفاضل بين الناس إنما يقوم على أمور أخرى خارجة عن طبيعتهم في الكفاءة والعلم والأخلاق والأعمال.
لذلك كان الإسلام حريصًا على أن تكون المساواة في أكمل صورها، فقرر أن الناس سواسية في الحقوق والواجبات، فلا فضل لأحدهم على الآخر إلا في الأعمال.

وعندما نقول المساواة تكون العبارة شاملة في مدلولها ومعانيها؛ وهي تعني مساواة الفقير والغني الأبيض والأسود القوي والضعيف.

أما العنصر الآخر والذي يعتبر ذا أهمية بالغة نظرا لارتباطه بشكل أساسي بالعناصر الأخرى، بحيث إذا فقد اضطربت تلك العناصر، وهو ركيزة السلم والأمن؛ فالسلم والأمن يحتلان مكانًا بارزًا في الدولة وعند المسؤولين والمواطنين في المجتمع المعاصر، نظرًا لاتصاله بالحياة اليومية، وبما يوفره من طمأنينة النفوس وسلامة التصرف والتعامل. كما يعتبر الأمن نعمة من نعم الله التي منَّ بها على عباده المؤمنين.

فالتوحيد هو غاية وجود البشر، ووحدة الكلمة، ووحدة الصف من شأنها أن تبعد الخلافات بين الدول والطوائف الدينية والعرقية.

إلا أنه مهما تعددت أجناس الإنسان واختلفت عقائده الدينية وأوضاعه المعيشة وتفاوتت مستوياته الحضارية، فإن جميع تلك القيم الإنسانية التي تشترك فيها الثقافات والأديان السماوية، والكفيلة بإقامة جسور من التعارف والتفاهم والتلاقح والتعاون بين شعوب وأجناس العالم، يمكن أن نصنفها في خانة المشترك الإنساني التي لا يمكن أن تتأسس إلا على قواعد المنطق العقلي، والحوار المثمر، والقيم الأخلاقية.

ذلك أنه لا سبيل لتبادل الخبرات بين البشر، ولا فرصة للتفاهم وتقريب شقة الخلاف بينهم دون التزام واضح بمنطق العقل؛ كأسلوب معرفي للتفاهم، وكوسيلة ناجعة لتدبير الاختلاف الديني والثقافي، وكحكم يرشد إلى الحق ويهدي إليه. لذلك طلب إلينا الله -عز وجل- في القرآن الكريم أن نحتكم إلى العقل لأنه مناط التكليف، وليس إلى النفوس والأهواء.

لكن لا يمكن للدول العربية والإسلامية، وحتى الشعوب أن يحتكموا إلى منطق العقل ويمارسوا تلك العقلانية في تدبير الاختلافات، وإدارة شؤونهم الخاصة، والعلاقات البينية إن لم يعترفوا بـشرعية الاختلاف، وبإمكان وروده على حياتهم، وهو متحقق لا محالة، رغم تناظرهم وتماثلهم في الأصل. مما يتطلب معه ضرورة التحلي بقيم الحوار المثمر، التي تمثل المنهج الأسلم والأقرب المؤدي إلى المناظرة والتعارف، والمساعد على استثمار تلك المعرفة العقلانية والدفع بها إلى تحديد مقاصدها.

ومن ثمة فإن الحوار والتواصل المثمر كقيمة إنسانية لا تنفك عن المنهج العقلي المنفتح، بل هي التجلي الأمثل والتعبير المنظم لها، وهذا الحوار هو تعبير عملي عن القيم والأخلاق الدينية التي تؤسس لمعاني التنوع والتعارف وكرامة الإنسان المطلقة، وقيم العدل والحق والإحسان، والمودة والمحبة والرحمة، وعمارة الأرض.

وإذا ما تأكدت حاجة الإنسانية جمعاء إلى استخدام العقل كضرورة فكرية ومعرفية، وإلى قيم الحوار كمنهجية علمية للتواصل وتقريب التباين والاختلاف، تبين أن البعد الإنساني لهاتين الركيزتين لن يتحقق على الوجه الأفضل إلا في ظل قيمة ثالثة تنزل منهما منزلة القصد والهدف الواقعي المعاش، ألا وهي القيم الأخلاقية والروحية، الكفيلة بضبط المقاصد الكبرى لكل ممارسة دينية أو سياسية أوفكرية، تلك القيم الأخلاقية التي تسعى عبر التوسل بالعقل كآلية منطقية ضرورية، وإلى الحوار والتواصل والمناظرة في سبيل تدبير الاختلاف لترسيخ مبدأ التعايش والتسامح. وهي قيم متكاملة مترابطة تبتغي اللقاء والتلاقي على أسس “الكلمة السواء”، والجامع المشترك، الذي تجتمع عليه كل الديانات والحضارات والثقافات.