قيام الليل وأثره الروحي في حياة الإنسان

إن المتأمل في فلسفة الدين، يجد فيه جمالية وحياة مفعمة بالحيوية والنشاط، فترفرف روحه في سماء المعارف الربّانية، والفيوضات الرحمانية، متأملة في جمال الكون، ومبتعدة عن هوس الحياة المادية وتطاحناتها اللامتناهية. ومن تلكم الأوقات التي يجد فيها الإنسان أنسه وضالته، “الليل”؛ فهو منتدى المحبّين وملتقى العشاق في سماء نجومه الساحرة.

فقد دأب العاشقون على إحياء الليل، فتراهم عند انسدال ستار الظلمة يُشمِّرون عن ساعد الجد، ينسجون من خيوط الظُلمة ورودًا من الودّ، ويُحوِّلُون وحشة الليل إلى أُنس وقُرب… فهم بذكر حبيبهم يتلذّذون، وبمناجاته يتنعّمون، وعن سواه لا يلتفتون. قال ابن المبارك:

إذا مــا الليل أظلــم كابــــدوه          فيــــسفر عنـهم وهــــم ركـــــــوع

أطار الخوف نومهم فقاموا             وأهل الأمن في الدنيا هجوع(1)

وقال أحدهم: “لذة قيام الليل ليست من الدنيا في شيء، إنما هي من نعيم الآخرة، عجّلها الله لأوليائه”(2). وفي هذا المعنى قال ابن النحوي في قصيدته المنفرجة:

وصلاة الليل مسافتها               فاذهب فيها بالفهم وجي

وتـأمــلــهـا ومــعـانــيــهــا           تأت الفردوس وتبتهج

واشرب تسنيم مُفَجِّرِها              لا مُمْتـزِجا وبمُـمْتَـــــزِج

فلا غرو أن يحتل الليل عند المحبين مكانة عظيمة ومنزلة كبيرة، كيف لا وقد أقسم الله به في عدة مناسبات في القرآن الكريم؟! قال سبحانه وتعالى: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ)(المدثر:33)، وقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ)(التكوير:17)، وقوله عز من قائل: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ)(الانشقاق:17) وقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ)(الفجر:4)، وقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا)(الشمس:4). ويكفي الليل شرفًا وفخرًا أن الإسراء والمعراج لم يكن إلا في ظلامه. فقد أكرم الله تعالى فيه حبيبه محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدرر الفاخرة والمقامات العالية والمشاهدات العظيمة، قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)(الإسراء:1).

ويكفيه شرفًا أن الله تعالى أنزل فيه القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾(القدر:1).

أما عن فضائل قيام الليل فقد وردت آيات وأحاديث كثيرة، تُبين الخير العميم والنفع العظيم الذي يحظى به أهل الليل.

قال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾(الإسراء:79).

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾(المزمل:1-6)، قال الرازي في التفسير الكبير: “واعلم أنه تعالى لما أمره (يقصد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخطاب موجه كذلك إلى أمته) بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها (…) لأن النفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية، ومَن ابتهج بشيء أحب ذكره، ومَن أحب شيئًا لم يمرّ عليه بسرعة، فظهر أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكمال المعرفة”(3).

ويقول مبيّنًا فوائد العبادة في الليل وثمارها على نفسية وروح الإنسان: “فإن الإنسان في الليلة الظلماء إذا اشتغل بعبادة الله تعالى وأقبل على ذكره والثناء عليه والتضرع بين يديه، ولم يكن هناك شيء من الشواغل الحسية والعوائق الجسمانية، استعدت النفس هنالك لإشراق جلال الله فيها، وتهيأت للتجرد التام، والانكشاف الأعظم بحسب الطاقة البشرية”(4).

هذا وقد مدح الله تعالى عباده المومنين الذين مدوا حبال الوصل في الليالي الظلماء، والمستمدين من الأمداد الفيحاء، بقوله: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(السجدة:16)، وقال: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)(الذاريات:17).

وأما ما ورد في الحديث من فضائل قيام الليل فكثير نكتفي بإيراد بعض الأحاديث على وجه التمثيل لا الحصر، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قُربة إلى الله، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد” (رواه الترمذي).

وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “إن في الجنة لَغرفًا يُرى بطونها من ظهورها، وظهورها من بطونها”، فقال أعرابي: يا رسول الله لمن هي؟ قال: “لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى لله بالليل والناس نيام” (رواه الإمام أحمد).

يقول محمد التهامي كنون: “واعلم أن في قيام الليل فوائد جليلة منها الاقتداء به ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد قام ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى تورّمت قدماه وكانت دموعه تقع في مصلاّه كوكف المطر (…) ومنها أن في الليل ساعة لا يُوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه وذلك عند السحر (…) ومنها أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضمن لقائمه رحمةَ الله حيًّا وميتًا ومقبورًا ومبعوثًا، ففي الحديث: “يا أبا هريرة أتريد أن تكون رحمة الله عليك حيًّا وميتًا ومقبورًا ومبعوثًا، فقم من الليل وصلّ وأنت تريد رضا ربك، يا أبا هريرة صلّ في زوايا بيتك يكون نور بيتك في السماء كنور الكواكب”. ومنها أنه يطرد الداء عن الجسد، فقد ذكر الإمام الشعراني في الفلك المشحون عن الشيخ زكريا الأنصاري أنه كان يقول: “نسيم السَّحَر يُشفي السقيم”. ومنها أنه يَظهَر على وجه قائمه بالنهار حسنٌ فائق وجمال باهر لقوله عليه الصلاة والسلام: “من كثرت صلاته بالليل حسُن وجهه بالنهار”، وقيل للحسن: ما بال المجتهدين من أحسن الناس وجوها، فقال: لأنهم خَلَوْا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره”(5).

فأهل الله وجدوا في الليل لذة وحلاوة لو خُيروا بينها وبين نعيم الدنيا ما زادهم ذلك إلا تعلقًا ومحبة بالليل، كيف لا وهو موعد لقاء حبيبهم وبهجةِ روحهم وقرةِ عينهم. فمن علامات محبة الإنسان لربه كما يقول الغزالي: “أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى وتلاوة كتابه، فيواظب على التهجد ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق. وأقلُّ درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب والتنعم بمناجاته، فمن كان النوم والاشتغال بالحديث ألذَّ عنده وأطيب من مناجاة الله كيف تصح محبته؟ قيل لـ”إبراهيم بن أَدْهَم” وقد نزل من الجبل: من أين أقبلت؟ فقال: من الأنس بالله (…) وعلامة الأنس مصير العقل والفهم كله مستغرقًا بلذة المناجاة، كالذي يُخاطب معشوقه ويُناجيه، وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به، وقُطعت رِجْل بعضهم بسبب علة أصابته وهو في الصلاة فلم يشعر به، ومهما غلب عليه الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرّة عينه يدفع بها جميع الهموم (…) فالمحب من لا يطمئن إلا بمحبوبه. وقال قتادة في قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد:28)، قال: هشت إليه واستأنست به”(6).

وقيل لبعضهم: كيف الليل عليك؟ فقال: ساعة أنا فيها بين حالتين، أفرح بظلمته إذا جاء، وأغتم بفجره إذا طلع، ما تم فرحي به قط. وقال علي بن بكار: منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر (…) وقال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا”(7).

ومن شدة حبهم لهذه الفترة من الزمن، عابوا على من نام الليل، لأن فيه سوء الأدب مع الحضرة الإلهية. قال الفضيل بن عياض: “إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النهار، فاعلم أنك محروم”(8)، وقال الإمام القشيري: “ولهذا قال دلف الشبلي: نعسة في ألف سنة فضيحة (…) وقالوا في هذا المعنى:

عجبًا للمحب كيف ينام كلُّ نوم على المحب حرام

وقيل: المريد أَكلُه فاقة، ونومه غلبة، وكلامه ضرورة”(9).

وقال أحد الصوفية:

كيف يسلوا من قد بلي          عـن هـــواه أو يغفـــــل

قالـوا إن كنـــت صـادقًا          فقم في الليل واسأل

إن في الليــــل ســــاعـــة       لا تنمهــــا يـــا غافـــــل

بل يتمنون أن يطول الليل ولا ينكشف الصباح حتى يصيبوا من الأمداد والبركات، وينهلوا من الفوائد والتحف التي يذرها مولاهم، عسى تُشفي غليلهم وتروي ظمأ قلوبهم، وكلهم أمل وشوق في تجديد الصلة مع محبوبهم. يقول الشيخ أحمد عز الدين البيانوني (ت1395هـ/1975م):

كم قضينا في حماكم                    من لــــــيال تـتــسامـــــى

وعشقــــنا فيـــه ربعــــــــا              وقبـــابًــــا وخــــــيامــــــــــا

ونــعــمـــنا بـــوصـــــــــال            قد قـضـيــناه غــــــرامــــا

وتـلـقـيـــنا المــعانـــــــــي             لا نُــــؤديـــها كـــلامـــــــا

يا نجوم الليل غيبــــي                  واتركي الكون ظلاما

ودعينا فــــــي هــوانـــــا               نتــــهاوى نــتــرامــــــــــى

قد نهلنا الحب راحا                     وشـــــربــناه مُــدامـــــــــــا

ما أُحَيْـــلاه وصــــــالا                 لــ يـــتــه واللهِ دامــــــــا

(*) باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والأبحاث الصوفية المتخصصة التابع للرابطة المحمدية للعلماء / المغرب.

الهوامش

(1) إحياء علوم الدين، 1/366.

(2) أقرب المسالك إلى موطأ الإمام مالك، لمحمد التهامي كنون، ص:128.

(3) التفسير الكبير، 30/160.

(4) التفسير الكبير، 30/161.

(5) أقرب المسالك إلى موطأ الإمام مالك، 128.

(6) إحياء علوم الدين، 3/414.

(7) إحياء علوم الدين، 1/467.

(8) سير أعلام النبلاء، 8/435.

(9) الرسالة القشيرية، 366.