فرسان “الخدمة” وفيالق العبور إلى النور

نتيجة تأهيل رباني وتأديب رحماني في عالم الغيب، وبسبب امتلاك بعض النوادر من عمالقة الزمان لكثير من الخبايا البشرية والعطايا السبحانية، ونتيجة لتفعيل سائر المنح والمواهب في طريق الإصلاح الشامل الذي يخدم الخلق ويرضي الحق، فإن الله ييسرهم لما خلقوا له، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

ولا شك أن من هؤلاء، الأستاذ فتح الله كولن الذي أحدث في تركيا تغييرًا هائلاً من خلال تيار كبير أوجده بنعمة الله عليه وهو “تيار الخدمة” الذي بدأ منذ عقدين بالسير في جنبات الأرض، لينير الأنفاس الطيبة والنفائس الكريمة، وليوزع الخدمات الجليلة بدون منّ، ويشيع مشاعر الإسلام بدون شعارات بعد عقود من الكد الكادح داخل حدود تركيا العزيزة.

لقد أوجد جيلاً ذهبيًّا حُق له أن يُفاخر به الدنيا، فإن عامته من الرواحل ومن الفرسان؛ فرسان “الخدمة” الذين وصلوا إلى هذا المرتقى الصعب بمؤهلات كثيرة، إذ إن أكثرهم فرسان في كافة الجيهات والاتجاهات:

1- فرسان استنارة وعرفان

فهم يتبعون طريق الهدى، ويتجافون عن سُبل الهوى، ويمتطون مراكب التقوى في عروجهم نحو السماء، وذلك بمزيد من الالتحام مع أهل الأرض.

اعتقادهم أمل، وشكرهم عمل، متأسين بآل داوود الذين قال المولى -عز وجل- لهم: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا)(سبأ:13).

يجري “الطائف” منهم في أصقاع الأرض خادمًا، فيثيبه الله بالكثير من “اللطائف”.

ومن ذلك أنهم لا تتشابه عليهم البقر، ولا تلتبس عليهم السبل، ولا تتيه بهم المسالك، ولا تعجزهم كثرة المسائل.

2- فرسان حكمة وسداد

أقوالهم نبات تفكير، وأفعالهم تخرج من رحم التدبير، رأيتهم قليلي الكلام ويبدو أن مقولة الإمام علي كرم الله وجهه “إذا تم الفعل نقص الكلام” تنطبق عليهم، وتبدو قلة كلامهم من كثرة فعالهم، لأن الإناء الممتلئ أخف صوتا من الإناء الفارغ، والعربة الممتلئة أقل جلبة من العربة الفارغة.

ولأنهم قليلو كلام فإن أخطاءهم أقل، وسدادهم أكثر، إذ إن عقولهم راجحة وأفكارهم راقية، ولهذا ظلت دومًا أسهمهم غير طائشة بل رابحة.

لقد عرفوا بإحسان التدبير وتجفيف منابع الحماقة والتدمير، ولأنهم فرسان فإنهم لا يكفون عن ركوب أحصنة “التأني” ولا يدخلون حصون “التواني”، إذ إنهم يتأنون في نيل الأماني ولا يتوانون عنها.

ومن مفردات حكمتهم وسدادهم أنهم يعالجون ندوب الافتقار، وأدواء الجهالات، وآثار العثار.

3- فرسان تسامح وائتلاف

لقد رأيتهم يسدون الخُلل، ويصلحون الخَلل… يقيلون العثرات، ويغفرون الزلات، ويسترون العورات… يغضون الطرف، ويبحثون عن الأعذار… يقللون العتاب، ويُندرون اللوم.

لا يقطعون الحبال، ولا يَحُلّون العرى، ولا يصرمون العلائق، ولا يفصمون الأواصر، يرتدون أردية الحلم، ويأتزرون بمآزر العفو، ويضعون على رؤوسهم عمائم الكرم، وعلى العموم فإنهم يلبسون ألبسة التقوى.

4- فرسان فضائل وأخلاق

فضائلهم كثيرة ووسائلهم عفيفة… لا يغرقون في مستنقع السياسة ولا يتسلقون سلّم الرياسة.

ينتمون إلى الفضائل لا إلى الفصائل، وينحدرون من الأدب لا من الحسب، وينتسبون إلى المكارم لا إلى الكرام، ويتسابقون في اتباع الأسباب لا الأنساب.

إنهم كريمو الخصال، طيبوا الوصال، يكتفون بالكفاف، ويتجملون بالعفاف، يسَعُون الناس بأخلاقهم ويحاولون أن يسَعُوهم بأموالهم.

وبالجملة فإن الفضيلة فرس جموح كما قال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله، لكن فرسان الخدمة أثبتوا براعتهم ومهارتهم، حيث نجحوا في امتطاء هذا الحصان بجدارة عالية.

5- فرسان حب وصفاء

لقد قالت العرب قديمًا: “لا يتصرف مع القلوب تصرف السحاب مع الجنوب”، حيث كانت وما تزال الأمطار تهطل غزيرة في جنوب الجزيرة أي اليمن، وهكذا هم أبناء الخدمة، إذ إن قلوبهم سحاب هطال، ومشاعرهم غيث مدرار، وما فتئت أفئدتهم ترعد وأيديهم تمطر.

بصفاء قلوبهم يعالجون أكدار الناس، وبحلاوة كلامهم يواجهون مرارات الخلق، وبأنوار عقولهم ينازلون كلمات الحياة، وبأيديهم الطويلة يعمرون أقاصي الأرض وأغوار الحياة.

لا يتربصون بكائن الدوائر، ولا يتمنون لأحد الغوائل، ولا يضمرون لشخص العداوات، ولا ينسجون لإنسان الحبائل.

6- فرسان عدل واستقامة

إنهم قائمون بالحق، قوامون بالقسط، مستقيمون في أبواب الحقيقة… تجدهم دائمي الاستقامة، لأنهم مملوؤون صدقًا وعدلاً، أما الكيّس الفارغ فإنه لا يستقيم.

يعشقون الإنصاف، ويرفعون عن المستضعَفين الإجحاف، يحاربون الجوع والخضوع… لا ينصرون الظَّلوم ولا يخذلون المظلوم.

لا يكفّون عن كفكفة دموع المظلومين والمحرومين، وعن رد الإشراق إلى وجوههم الكسيفة، وإعادة الاستقامة إلى أجسامهم الكسيحة… ولا يتعبون من العمل من أجل رد الأمر إلى نصابه، والحقِّ إلى أصحابه، ومن إعادة المياه إلى مجاريها، والسفن إلى مراسيها، والطيور إلى أعشاشها.

7- فرسان عطاء ومعروف

يضعون الأُعطيات والمِنَن قلائد في أعناق الرجال، بل ويقتلون خصومهم على طريقة الخليفة العباسي المأمون الذي قال: لقد بلوتُ رعيتي بالسيف والكرم، فكان الكرم أنجع فيها، حيث يقتلونهم بالمعروف، كما قال الشاعر العربي:

وإذا بغى باغ عليك بجهله

فاقتله بالمعروف لا بالمنكر

يؤمنون بما آمن به السلف، حيث يرون أن منع الموجود سوء ظن بالمعبود، وبعطائهم يصونون أعراض الكِرام، ويحمون أعراضهم من اللئام.

يكثرون من النوال بدون سؤال، بل يعطون ويشكرون، ولهذا فإن الله يزيدهم على الشكر اللفظي والشكر العملي، ولذلك تراهم في ازدياد متعاظم وتوسّع مستمر.

ويصح فيهم قول عاصم بن وائل:

وإنا لنقري الضيف قبل نزوله

ونشبعه بالبشر من وجه ضاحك

ويبدون مبتسمين وهم يعطون، لأنهم يتلذذون بصناعة المعروف وبذل الخير حتى يصح أن يقال في “ابن الخدمة” ما قاله زهير:

تراه إذا ما جئته متهللاً

لأنك تعطيه الذي أنت سائله

يُشعرونك أنهم إخوانك الذين لم تلدهم أمك وأنك أنت الذي أعطيتهم، ذلك أنهم دائمو البحث عن الأجر لا عن الشكر.

وبجملة واحدة في هذه الخصلة، فإنهم يحرصون على أخذ المال من الحلال وصرفه في النوال.

8- فرسان عمل وإنجاز

يقللون من الأقوال ويُكثرون من الأفعال، يبخلون بالشعارات ويجدّون بالإنجازات.

يعظون الناس بأحوالهم لا بأقوالهم، ويربّوهنم بأفعالهم لا بأفكارهم، ويخدمونهم بمشاريعهم لا بشعاراتهم.

يصنعون الخطط، وينسجون البرامج، ويتسلحون بالأسباب والوسائل، بعيدًا عن التواكل الأجوف والأماني الفارغة والأحلام الحمقاء، وكأن لسان حالهم يقول ما قاله الشاعر العربي:

لسنا وإن أحسابنا كرمت

يومًا على الأحساب نتكل

نبنــي كـما كــانت أوائلـــنا

تبني ونفعل مثل ما فعلـــوا

ولأنهم عمَليّون من طراز رفيع، فإنهم لا يهذرون في الكلام، ولا يسفون في الخصام، ولا يتأثرون بالسفاسف، ولا ينقادون للرعاع، ولا يهتمون بسقط المتاع، ولا يقفون عند توافه الأمور.

9- فرسان إحسان وفاعلية

لا يمكن أن ترى ابنًا للخدمة يتيه في قفار السلبية، بل في أودية الإيجابية تراهم يزرعون، وفي سهوب الفاعلية تجدهم يصنعون، وفي سهول الحركية تجدهم يغزلون خيوط الشمس، حيث المجد القادم والتمكين المنشود.

لا يبخلون بخدمتهم، ولا يمنعون رفدهم، ولا يضِنون بمعروفهم، ولا يمنّون بإحسانهم… يُفرجون الكروب ويبردون غليل القلوب… يحاربون النوائب ويجابهون المصائب… يُشبعون الجائعين، ويُهدون الحيارى الضائعين، ويردون الشاردين الزائغين… يقيمون موازين العدل ويكثرون من مواسم البذل.

لقد نجح هؤلاء الفرسان في تحبيب الله إلى الكثير من خلقه، كما قال حكيم الصحابة أبو الدرداء -رضي الله عنه-: “إن أحب عباد الله إلى الله، الذين يحببون الله تعالى إلى عباده، ويعملون في الأرض نصحًا”… وكيف لا يحب الناس ربهم؟ وهؤلاء باسمه تعالى يكشفون الكروب، ويضيؤون الدروب، ويحاكمون الخطوب، ويحاربون الحروب.

وقبل أن يربح “أبناء الخدمة” كل أولئك الناس الذين أحبوا الله بسببهم، فقد ربحوا أنفسهم حيث صاروا أدوات لتنزل أقدار الله الرحمانية وألطافه السبحانية.

ومما يروى في هذا السياق قول الإمام علي -رضي الله عنه-: “إن لكل شيء ثمرة، وثمرة المعروف تعجيل السراح”… ولما كان هؤلاء صنّاعًا للمعروف، فإن الله وقاهم مصارع السوء، بل وعجّل سراح أرواحهم من أسر الأنانية وأسرار الطين، حيث ارتقت في آفاق الإحسان ومجرّات الفاعلية.

10- فرسان خدمة وتضحية

لقد كانت الخصال التسع السابقة مؤهلات لاصطفاء الله لهم واستخلاصهم للخدمة الدانية قطوفها، السائغ شرابها، السابغة تربيتها، السامقة مشاريعها.

لقد صارت الخدمة منارًا للحيارى، وفنارًا للسادرين، وأمست قاربًا للغرقى، وملجأ للمستضعفين، وأصبحت بعد ذلك كله مطعمًا للجائعين، ومدرسة للجاهلين، ومصحة للسقيمين، وكهفًا للملهوفين.

لقد وجدتُ من عرفتُ من أبناء الخدمة يزدلفون إلى الخالق بخدمة الخلق، ويتوسّلون إلى مرضاة الرب باستلطاف المربوبين، ويتخذون من خدمة الورى مرقاة للصعود إلى فردوس الطاعة الإلهية، ويتعبدون الله بتقديم عونهم للعبيد… لقد وجدتُ ربيعهم دعوة، وصيفهم منجزات، وخريفهم توبة، وشتاءهم متعة ببرد الرضا عن أقدار الله التي اصطفتهم تشريفًا وتكليفًا، وما زالوا في هذا الدرب سائرين حيث يجددون غزْل الأفكار ويجيدون نحت الأفعال، يجودون بكريم الأموال ويستجدون تقديم أطيب الخدمات، ولا يبالون بما يكرعون في هذا الطريق من تضحيات، كأن الشاعر العربي القديم قد عناهم بقوله:

إن أخا الهيجاء من يسعى معك

ومــــن يضــرّ نفـــسه لينفعــك

ومن إذا ريب الزمان صدعك

شتت فيك شمله ليجمعك

إنهم دائمو الدأب لجعل وطنهم وأمتهم في المقدمة ويقفون في الخلف، فهم عند بذر الأسباب في الأمام، وعند حصد النتائج في الوراء الخلف، يتزاحمون في “المبادارت”، ويتسللون لواذًا من أمام “البيادر”.

يبرزون عند المغارم، ويختفون عند المغانم… يكثرون في أخاديد التضحية، ويقلون في أودية المكاسب… يتقدمون في زمن الانكسارات، ويتأخرون عند مجيء الانتصارات.

11- فرسان قيادة وكفاءة

لا تستطيع كثير من الأمم العبور إلى المستقبل المشرق، لأنه في العادة يكون بعيدًا وسامقًا، ومن لا يملك الزاد والمراقي لا يمكن أن يعبُر أو يصعد.

وبالنسبة لفرسان الخدمة، يبدو أن الصفات العشر السابقة هي المراقي التي اعتلوها للصعود إلى المستقبل الوضيء، ولا سيما أنهم قد أصبحوا سادة في هذا الزمن، إذ ارتقوا إلى السيادة عبْر سُلّم الخدمة كما قال -صلى الله عليه وسلّم-: “سيد القوم خادمهم”.

عندما رأيتُ مهارتهم في مُعاركة أمواج الحياة، أيقنت بأن أمتنا بدأت بامتلاك قنطرة العبور إلى المستقبل، إذ يتميزون بأنهم في ابتلاء النقم يصبرون وفي ابتلاء النعم يشكرون، ومن هذا وذاك تتكون المادة التي تُصنع منها جسور العبور الآمن إلى المستقبل المشرق حيث الاستخلاف الكريم والتمكين المكين.

لقد جعلوا الخدمة مصباحًا لتبديد دياجير التخلّف وقنديلاً لجلب فراش السرور، وجعلوها مغلاقًا للشرور ومهلكة للآثام، ومحرقة للكبائر، حيث تُشيع قيم الإنصاف وتجتثّ أشواك الفجور، وتُشعّ بشموع العطاء وصنائع المعروف، وتضيء بفضل مواقد الخير وأنوار المعرفة وبدور العرفان.

وبالجملة فإن أبناء الخدمة هم من فرسان أمتنا الذين سيعبرون بها من مرحلة التيه الحالك إلى مراحلة الفرقان النوراني، ومن مربع الغثائية السوداء إلى دائرة الفاعلية البيضاء، وإن معرفتي بنماذج منهم تعطيني ثقة بفروسيتهم، فإن اختبارك إياهم لا يزيدك إلا اختيارًا لهم، إذ في أيديهم تسكين للروعات وفي قلوبهم تسكن الروائع.

(*) أستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز / اليمن.