غائية الوجود في الأدب الإسلامي

تحدثنا في حلقتين سابقتين(1) عن انعكاس المضمون الفكري للأدب الإسلامي على بنيته الفنية فيما يجعل من “الإسلامية” مذهباً في الأدب يتميز عن المذاهب الأخرى، ليس في مضامينه حسب، وإنما في تكوينه الفني، ويسقط بالتالي مقولة البعض بأن الأدب الإسلامي أدب معياري، وهي الإشكالية التي ناقشناها في كتاب “الغايات المستهدفة للأدب الإسلامي”(2) في موضوع “الأدب الإسلامي بين المعيار والمنهج”.
في الحلقتين السابقتين تبيّن كم أن الرؤية الإسلامية لقضية القدر تقدّم فناً مسرحياً مغايراً في شكله ومضمونه للتراجيديا اليونانية، وكم أن الرؤية الإسلامية “للواقع” بأكثر مفاهيمه عمقاً واتساعاً، تشكل أدباً يتميز في بنيته الفنية عن سائر الواقعيات الأخرى.
وفي هذه الحلقة سنقف وبالإيجاز المطلوب، عند مسألة ثالثة وهي التصوّر الإسلامي للكون، ولغائية الوجود، وانعكاسها على الخصائص الفنية للأدب الإسلامي؛ تماماً كما أفرزت هناك -في الساحة الغربية- مذهبها “الطليعي” الذي يسمى صدقاً “بالعبثي” أو “اللامعقول”.

الطليعية ودكتاتورية العقل

تنطوي “الطليعية” على رؤية قاتمة تقوم على الاعتقاد بفوضوية الكون وعبث الحياة، ولاجدوى الكدح البشري. ومنذ البدء نجد أنفسنا بإزاء موقف تصوّري نقيض بالكلية لموقف “الإسلامية” القائم على الترابط الكوني، وغائية الحياة، وجدوى الكدح البشري، وعدالة المصير.
والكتاب العبثيون يشتركون جميعاً في الإلحاح على الفوضى التي تلف أقطار الكون الأربعة.. على الجنون الذي يضمّ العالم بين جوانحه.. على اللامعقولية التي تربط بين الإنسان والكون.
إن هؤلاء الكتاب قد غدوا، في النصف الثاني من القرن الماضي، مدرسة متميزة تقوم أوّل ما تقوم على القواعد التي يتفق عليها هؤلاء الكتاب جميعاً وهي الفوضى والعبث واللامعقول، تلك التي وضع “ألبير كامي” حجرها الأساس.
يذكر “ريتشارد كو” في كتابه عن “يونسكو” كيف “أن كل النـزعات التي كبحتها دكتاتورية العقل خلال قرنين من الزمان اندفعت على السطح، وشهد النصف الأول من قرننا العشرين، عدة حركات ثورية كالتكعيبية والمستقبلية والسريالية والتعبيرية والدادائية والوجودية، وكلها حركات تسعى بطرائقها الخاصة إلى إلقاء الضوء على موقف الروح الإنساني في كون غاب عنه المنطق. وعندما يختفي المنطق تختفي أيضاً مبررات الوجود. وهكذا نرى أن “يونسكو” -مثل كامي وسارتر- يرى في وجودنا حقيقة لا هي بالمنطقية ولا هي بالمبررة، إنها حقيقة، ولكنها حقيقة عبثية، فالوجود الذي لا يبرّره منطق عبث”.(3)
ويمضي “ريتشارد كو” يبين كيف سعى الطليعيون إلى إلغاء النظرة القديمة “الكلاسيكية” إلى قواعد الكون الأساسية: الزمان والمكان ووحدة الشخصية، وكيف أنهم كتبوا “دراما الساعات المكسورة” بمعنى أن أبطالهم يعيشون في عالم توقفت ساعاته، وحين يفقد الإنسان الشعور بالزمن، تصبح “السن” كلمة لا معنى لها، وما دمنا قد محونا الزمن فقد محونا “تراكم التجارب” التي يأتي بها الزمن، وعلى ذلك فلا معنى للقول بأن الشيخوخة مثلاً تأتي بالحكمة. وقوانين المكان -من ناحية أخرى- لا معنى لها، فهي تعسّفية، وغياب التتابع المنطقي يستلزم غياب وحدة الشخصية، فليست الشخصية سلسلة متصلة من الصفات كما يزعم الكلاسيكيون، وإنما هي حالات دائبة التغيّر يتبع بعضها بعضاً، وما يقوله “أ” يمكن ببساطة أن يقوله “ب” دون أن ينجم عن ذلك ضرر كبير. إن “الأنا” ما هي إلاّ انعكاس للعالم الخارجي، أو قل: إن العالم الصغير هو صورة مصغرة مثالية للعالم الكبير. ففوضى الأوّل وتشتته تتبدى في الثاني على نطاق واسع وليس هناك خط واضح يفصل بين الاثنين”.(4)
ويبين “يونسكو” -بعبارة واضحة- تهافت الشخصية الإنسانية، لأنها ليست -بعد أن تكشف عبث العالم- سوى قطعة من ملايين القطع التي يعبث بها الكون: “إن كل شخصياتي على خصام مع الدنيا.. لقد غمرهم القلق التاريخي الذي يسود العالم وتورطوا فيه”.. “إنه عالم رهيب -يقول يونسكو- إلاّ أنه عالم لا يمكن أن يؤخذ مأخذ الجدّ، فهو يوشك لفرط سخفه أن يكون مضحكاً”. ومن ثم فإن رؤية الطليعيين هذه للعبث لم تتح لهم أن يطمئنوا للشكل المسرحي العقلي “الأرسططالي” أداة للتعبير. فالمضمون في العمل الفني هو الذي يحدّد الشكل، لذا تمرد يونسكو ورفاقه على الواقعية المسرحية ورفضوا الواقع المنقوص الذي تصدر عنه وتصوره وتفرضه اعتسافاً، وانصرفوا إلى عرض ما كان يتراءى لحسّهم الفني ووعيهم الإنساني كواقع شامل، بكل ما فيه من مأساة ومن مهزلة، وكل ما فيه من عبث وخواء وتناقض.(5)

الإحساس بالزوال في عالم بلا فضاء

والطليعيون يخنقهم “إحساس بالزوال، في عالم بلا فضاء من الضوء واللون.. إحساس يبدو الوجودُ من خلاله عديم الجدوى، مستحيلاً، بلا مغزى.. وتلك هي ذروة الوعي بالعبث، حيث يتكشف العالم كخيال موهوم، بعيد عن الاحتمال والتصديق، ويبدو الواقع واللغة فيه كما لو كانا يتفككان ويتهاويان قِطَعاً متناثرة، ويفرغان من كل معنى، بحيث يبدو في النهاية أنه ما دام كل شيء قد تجرّد من الأهمية، فما الذي يسع المرء أن يفعله إلاّ أن يضحك من كل شيء؟”.(6)
وللطليعيين موقف من الموت.. كلنا نعرف كيف أن “كامي” اعتبره السبب الرئيسي في تجريد الحياة من المعنى: “ما دمنا سنموت فليس لأي شيء معنى”، وارتكن إليه في القول بعبثية العالم، إذ لو كان العالم مجدياً “فلماذا يموت الناس وهم ليسوا سعداء؟”.
إن “يونسكو” رائد اللامعقول، يقف -كبقية رفاقه- أمام الموت يتأمله، وتشيع هذه الوقفة في فنّه، على الأخص في “قاتل بلا أجر” و”الملك يحتضر”، كما تشيع في “الأيام السعيدة” لصموئيل بكت “إن الموت يثير الرعب لا لأنه واقعة فظيعة في حدّ ذاتها، بل لأنه يجعل كل الحياة التي سبقته عبثاً وسخفاً، فضلاً عن أنه في حدّ ذاته لا معنى له..” يقول يونسكو: “لقد خلقنا كي نكون خالدين ومع ذلك نموت. الأمر مخيف ولا يمكن أن يحمل محمل الجد”.(7)
العبثيون واللامعقولية بين الإنسان والكون
ما الذي يستطيعه الفنان إزاء عالم يراه “كابوساً لا يطاق، وشبه حلم مخيف.. عالم يبدو أنه في قبضة حمى رهيبة.. ألا نكون محقين إذا ما أحسسنا أن هذا العالم ليس لنا، إنه ليس عالمنا الحق؟ ما الذي يستطيعه الفنان إزاء عالم كهذا إلا أن يمزق قناع اللاواقع من حوله، قناع المظاهر الذي يصطنع للعالم منطقاً، ويدعي له عقلاً، بالرغم من كل ما يطالع العالم الإنسان به من لا عقل ولا منطق ولا قواعد؟”.(8)
وعند “صموئيل بكت” أن الإنسان “أشرف ما في الكون، والذي ينير حقيقته ليس هو الكون، لأن الكون أبكم أعمى لا ينطق ولا يبين ولا يدري من أمره شيئاً، وإنما يجد الإنسان في داخل نفسه ما يضيء له حقيقة نفسه”. وتلك هي خلاصة فلسفة “بكت” التي يدين بها لإمام الوجودية المسيحية “بسكال”. فعند الأخير إن الإنسان، وإن يكن نبتاً ضعيفاً، إلا أنه نبت مفكر. وإن الكون إن أهلك الإنسان، فإن الإنسان يكون أشرف ممن يهلكه، لأن الإنسان يعلم أنه يموت، أما الكون فلا يدري ماذا يفعل”.(9)
تلك هي -بإيجاز شديد- الخطوط العريضة للرؤية الطليعية التي مارست دورها الملحوظ في بناهم الفنية: فوضى تعم الكون والعالم، ولا تدع لحركة الإنسان فيهما هدفاً محدداً أو مصيراً معلوماً.. كون أنشأته الصدفة العمياء.. وعالم لا يقوم على قاعدة من العقل. وإذا كان الناس طيلة تاريخهم قد اتفقوا على مواضعات وأخلاق وقيم وتقاليد فما ذلك إلا لأنهم مجانين أو عميان، لم يروا بوضوح عبث الكون أو يعقلوا سخف العالم. إذ أنى لهم أن يصطلحوا على ما هو ثابت في حياتهم، وليس هناك شيء يمتلك عناصر الثبات لا الزمان ولا المكان ولا وحدة الشخصية أو اللغة أو العادات والأعراف والتقاليد؟ ثم إن العقل الأكبر الذي ظنوا أنه يسير الكون ثبت انتفاؤه إزاء العبث الطاغي الذي يلف الكون ولا يدع لشيء فيه أن يقرّ له قرار.
هذا هو -إذن- المضمون الفكري للعبثية، وهو في كل مفرداته يشكل معادلاته الفنية التي تجعل منه، -بإضافتها إلى خلفياتها التصوّرية- مذهباً في الأدب:
فوضوية الكون وعبث الحياة، ولاجدوى الكدح البشري، واللامعقولية التي تربط بين الإنسان والكون، والتمرد على “دكتاتورية العقل”، وربما إقصاؤه وإلغاء النظرة العتيقة “الكلاسيكية” لقواعد الكون الأساسية: الزمان والمكان ووحدة الشخصية، وتفكك هذه الشخصية.. القلق التاريخي الذي يسود الدنيا.. السخف واللامعنى اللذان يمسكان برقبة العالم.. الإحساس بالزوال في عالم بلا فضاء من الضوء واللون.. اللغة المفككة المفرغة من أي معنى.. الموت الذي يلغي مغزى الوجود البشري.. الأحلام والكوابيس باعتبارهما تكثيفاً لمأزق الإنسان ورعبه.. غياب الأمل في التصالح مع الكون.. وسخف ادّعاء اليقين.
هذا كله ينعكس على أدب العبثيين، لغة وحبكة وسرداً وحواراً ومنولوجات وفضاء وشخوصاً.. وعلى سبيل المثال لم تُتح لهم رؤيتهم للعبث أن يطمئنوا للشكل المسرحي العقلي “الأرسططالي” أداة للتعبير. فالمضمون في العمل الفني هو الذي يحدّد الشكل. لذا تمرد “يونسكو” ورفاقه على الواقعية المسرحية، ورفضوا ما اعتقدوه واقعاً منقوصاً تصدر عنه وتصوّره وتفرضه اعتسافاً، وانصرفوا إلى عرض ما كان يتراءى لحسّهم الفني ووعيهم الإنساني كواقع شامل بكل ما فيه من مأساة ومن مهزلة، وكل ما فيه من عبث وخواء وتناقض.

غائية الكون والرؤية الإسلامية

الرؤية الإسلامية تبحر باتجاه معاكس تماماً، حيث التأكيد على غائية الكون، وجدية الحياة، وجدوى الكدح البشري، والعلائق المنطقية التي تربط بين الإنسان والكون، وتقدير قيمة “العقل” واحترام القواعد الأساسية للوجود: الزمان والمكان ووحدة الشخصية، والاعتقاد العميق بالمعنى الذي يسيّر العالم.. والإحساس بالصيرورة والدوام والامتداد، وبقدرة اللغة اللامتناهية على التواصل.. والاعتقاد بأن الموت تأكيد لمغزى الحياة وليس نفياً له.. والأمل الدائم بالتحقق بالوفاق والتصالح مع الكون.. ثم اليقين العميق الموغل حتى النخاع بقصدية الوجود البشري على الأرض ووظيفته الكبرى.
هذه كلها تنعكس بالضرورة على فنية الأداء أو أسلوبيته الإبداعية، وعبر الأجناس الأدبية كافة، تماماً كما انعكست هناك سلباً، ها هي ذي تنعكس ها هنا إيجاباً في الحبكة والسرد واللغة والحوار والمنولوج والشخوص والفضاء، وسائر المفردات الفنية التي تعين على بناء العمل الإبداعي.
والآن، فإننا لو جئنا إلى ما تلقته مكتبة الأدب الإسلامي من أعمال مسرحية وقصصية وروائية، فإننا ومنذ الوهلة الأولى سنلتقي بناءً فنياً يختلف في مواصفاته الأسلوبية عما قدّمه العبثيون.
وبقدر تجربتي المتواضعة في المسرح والرواية فإنني حاولت ما وسعني الجهد أن أقدّم المعادلات الفنية للمضامين الفكرية. وقد وقفت قليلاً في الحلقة الأولى من هذه المقالات عند مسرحية “المأسورون” وبنيتها الفنية المغايرة للتراجيديا اليونانية التي امتد تأثيرها إلى المسرح الغربي المعاصر.

رواية “السيف والكلمة”

وأريد في هذه الحلقة أن أقف عند روايتي الأخيرة “السيف والكلمة” للتأشير على مفاصلها الفنية الأساسية التي تناقض معطيات العبثيين، رغم أنها ترفض التشنج على التقاليد القديمة للجنس الروائي، وتمارس قدراً ملحوظاً من التجريب، لكن العبرة في المغزى الأخير. والمغزى الأخير يقدم للقارئ معادلات فنية مغايرة إلى حدّ كبير لمعادلات العبثيين.
كانت “الإعصار والمئذنة” خطوة على الطريق، ومعظم الكتاب -كما يؤكد “كولن ولسون”- “يتعلمون من روايتهم الأولى أكثر مما يتعلمونه من أية رواية أخرى”.(10)
أما هذه فإنني حاولت فيها -ما وسعني الجهد- أن أنجز عملاً يضيف قيماً فنية جديدة، وأركز على العبارة الأخيرة، لأن الأدباء الإسلاميين بحاجة إلى هذه.. إلى الإضافة الفنية التي لا يوليها الكثيرون منهم -للأسف- الاهتمام الكافي.

توظيف التقنيات في عمل فني إسلامي

تحاول الرواية توظيف الغزو المغولي لبغداد من خلال تنامي الحدث عبر أربعة أصوات، وبضمائر متغايرة يغيب فيها الراوي تماماً (والذي تختبئ خلفه في معظم الأحيان اقتحامات فجة للروائي نفسه كما فعلت في الإعصار والمئذنة)، وذلك في محاولة لتنفيذ معمار أكثر حداثة في العمل الروائي الإسلامي.
لقد تم كسر حاجز الزمن وتسلسله الرتيب، كما يحدث في بعض أعمال الحداثة الروائية في الغرب، إنه حاضر في نسيج السرد، وليس من الضروري أن يكون هذا الحضور كعقرب الساعة الذي يدور على نفسه ويظل يدور. إن الزمن الروائي في “السيف والكلمة” يماثل سيرورة الزمن الموضوعي في شكل تتابع أفقي “وهذا لم يمنع من رجوع السرد إلى الماضي، فهناك انقطاعات عديدة في سيرورة السرد المستقيم. والرجوع إلى الماضي جاء وفق نسق مزدوج، فهو إما في شكل ذكريات يستعرضها بعض الأبطال، أو يتولون استحضارها لتفسير سلوكهم”.(11)

توظيف الرموز

الرمز وُظِّفَ هو الآخر في “السيف والكلمة”، ليس رمزاً تجريدياً على أية حال، ولكنه مكسّو لحماً ودماً. إن الأبطال المحوريين الأربعة في الرواية هم في حقيقتهم رموز مجسدة لقوى الإنسان في مجابهة المصير. شخوص تعيش الحياة وتنبض بالهم والوجع، وتأكل وتتنفس وتصارع وتحلم وتتعثر وتقوم العقل والروح والوجدان. كلهم يؤول إلى الضياع في نهاية الأمر، لأن الموقف الأحادي قبالة المصير محكوم عليه بالهزيمة، ليس بصيغة مجابهة غير متكافئة على الإطلاق، يتحكم فيها القدر بخناق الإنسان ويسحقه، كما هو الحال في التراجيديات اليونانية “الكلاسيكية”، ولكن بصيغة اختيار قد يكون خاطئاً، وعلى صاحبه -من ثم- أن يتحمل نتائج عمله.
هذا المنظور الفني الصرف يعكس معادلاً موضوعاً إسلامياً: حرية الإنسان، والعدل الإلهي المطلق الذي يرتّب الأسباب على المسببات. إننا بأمس الحاجة إلى قيم فنية تعكس حالتنا الإسلامية بكل مفرداتها وحلقاتها.. تعكسها جمالياً، وليس عبر مقولات العقل الخالص، وهذه هي مهمة الأدب. ومن هنا يمكن للمرء أن يُدِين العديد من الأدباء الإسلاميين الذين لا يُولُون اهتمامهم للجانب الفني، ويرمون بثقلهم صوب المضمون. إنهم في هذه الحالة لا يكادون يفعلون شيئاً إذا أردنا أن نحاكمهم إلى مطالب النوع الأدبي وليس إلى الخطابة أو التاريخ أو الإعلام.
مهما يكن من أمر فإن الذي ينتصر في “السيف والكلمة” هو واحد فقط من بين أربعة شخوص طوتهم المجابهة الصعبة. لماذا؟ لأنه استطاع أن يتجاوز أسر الأحادية وأن يتحقق إنسانياً وفق مطالب الشخصانية الإسلامية التي نادى بها هذا الدين.
مرة أخرى يحدث هذا من خلال نبض البطل ومعاناته وتعامله مع الموجودات والخبرات والأشياء والمرئيات، وليس من خلال تجريد ذهني صرف.

توظيف الجغرافية والتاريخ

حاولت أيضاً أن أوظف الجغرافيا والتاريخ قدر ما أطيق.. لقد درست بإمعان جغرافيةَ بغداد بأحيائها ودروبها وجسورها وأسواقها ومدارسها وملاعبها وحوانيتها… إلخ. درست أيضاً تاريخ بغداد لحظة الغزو المغولي.. عادات الناس وتقاليدهم وطبائعهم وأزياءهم وطعامهم وشرابهم.. جدّهم وهزلهم.. خفقانهم الاجتماعي هنا وهناك.. لم أرد -طبعاً- أن أكتب عن تاريخ بغداد وجغرافيتها، ولكن جعل الفضاء الروائي أكثر صدقاً فنياً. كان علي أن أعرف حتى مقالات المتصوفة، يومها، وتقاليد العلماء والطلبة والدارسين.
استعرت من “الآخر” بعض الخبرات الفنية. ولم لا؟ ما دام الهدف هو توظيف التقنيات لإنضاج عمل فني يطمح أن يكون إسلامياً؟ ويمكن أن أشير هنا إلى واحدة من تلك الخبرات: ضمير الشخص الثاني الذي اعتمده الأديب الفرنسي المعاصر “ميشيل بوتور” والذي يقول عنه إنه يؤدي دوراً سحرياً، وإنه يدعو القارئ إلى المشاركة بنشاط في حركة القصة.

الصراع بين العقل والروح

الحق أنني وجدت في هذا الضمير ليس تنويعاً فحسب لضمائر الشخوص في “السيف والكلمة”، ولكنه -فضلاً عن ذلك- فرصة مناسبة تماماً للمناخ الدرامي والمتوتّر والسريع الذي كانت الشخصيات الأساسية تعيشه.
سأضرب مثلاً واحداً فحسب.. منولوج يديره الأب بصيغة الضمير المذكور:
“ذهبت إلى الكيلاني على استحياء والشوق يدفعك.. أشياء كثيرة أردت أن تفضي بها إليه.. قلبك الذي وسع بغداد كلّها ينوء اليوم بهموم بغداد.. ليس هيّناً أن ترى أصدقاءك وإخوانك يقتَّلون أو يرحلون.. ليس هيّناً أن تجتاز سوق الكتب فلا تجد فيه شيئاً.. لا أحداً ولا حانوتاً مفتوحاً ولا كتاباً.. ليس هيّناً أن ترى كل شيء جميل يحترق، وكل عزيز عليك يمضغ عذابه بصمت.. لم يكن هيّناً -أيضاً- أن ترى ابنك يغيب في الدروب فلا تكاد تلتقيه أو تعثر عليه، ولا أن تعطي ابنتك السكين وتقول لها: اقطعي الحبل الذي يشدّك إلى المحبوب.. الزمن المغولي يضرسك، وجناحك يهيض فيتطاير منه الريش.. طال يوم الخلاص يا عبد القادر فكيف السبيل؟
“ذهبت على عجل، مجتازاً أحياء البدرية والجعفرية الأقل زحمة، فقالوا لك: خير لك أن ترجع.. تساءلت ووجع القلب يشدّد عليك الخناق: لماذا؟ قالوا: إنهم يسدّون عليه الطرق.. صرخت: لماذا؟ قالوا: لن يسمحوا لأحد أن يزوره أو يلتقيه بعد اليوم.. صرخت كرة أخرى: لماذا؟ لم يجبك أحد، وكان عليك أن تسترجع الصرخة المدوّمة في الفضاء الذي لا شيء فيه.. إن تعتقلها في روحك الموجعة، فها هو ذا الفضاء الوحيد المتبقّي الذي لن يخترقه المغول”.
لقد تعامل “المؤرخ” مع الغزو المغولي من الخارج، وهو لا يتابع الدقائق والتفاصيل، ولا يحاول النفاذ إلى العمق الإنساني للواقعة التاريخية، وإنما يكتفي برسم الهياكل الخارجية لها، في حين نحن بحاجة إلى رؤية الفنان لكي نسبر انعكاسات الحدث على النفس البشرية في أزقة بغداد ودُورها وأحيائها ومساجدها وأسواقها وملاعبها ومكتباتها.. لقد حاولت الرواية أن تقدم انطباعاً مأساوياً للاجتياح المغولي لبغداد، وأن تومض -من وراء الحزن والانكسار- بسبل النهوض والخلاص.
ولقد حاولتُ أن أقيم معمار الرواية وفق صيغة رباعية الأدوار والأصوات ينمو فيها الحدث عبر نقلات أربع لزاوية الرؤية، ومن خلال فعل وتداعيات أبطال أربعة وهم يشاركون في صناعة الوقائع والأحداث، ويغرقون في تيارات وعيهم الباطن، ويدخلون سيلاً من المنولوجات التي تعكس رؤيتهم الانطباعية لتلك الوقائع والأحداث.. وهم ينطلقون منذ اللحظات الأولى، كل من اختياره الحر، لكي ما يلبث أن يجتاز شبكة من الدروب والصدمات والخبرات يجاهد كي يجعل خياره قديراً على تجاوزها بنجاح. ولكنه ينهزم في نهاية الأمر لأنه رمى بثقله صوب نقطة ارتكاز واحدة في الكينونة البشرية.
إنها دراما الصراع بين العقل والروح والوجدان والجسد.. ولن يُقدَّر لأحد فيها الخلاص إلا من خلال بذل جهد استثنائي للتحقّق بالوفاق، وذلك ما تومئ به شخصية البطل الرئيسي.
ــــــــــــــ
الهوامش
(1) تناولت أولاهما قضية “القدر والحرية” ووقفت ثانيتهما عند مفهوم “الواقعية”، حيث نشرت أولاهما في مجلة “الأدب الإسلامي” ونشرت ثانيتهما في مجلة “حراء”.
(2) دار الضياء، عمان 2000 م، وسيعاد طبعه بعنوانه الأصلي “حول استراتيجية الأدب الإسلامي” في دار ابن كثير، بيروت – دمشق.
(3) ماهر شفيق فريد، مجلة المسرح، القاهرة، العدد 9، ص:83.
(4) المرجع نفسه، ص:83-85.
(5) يوجين يونسكو: 5 مسرحيات طليعية، ترجمة وتقديم شفيق مقار، المقدمة، ص:21-22.
(6) المرجع نفسه، ص:23-24.
(7) الدكتور نعيم عطية: الخطوط العريضة في مسرح يونسكو، مجلة المسرح، القاهرة، العدد 11، ص:95، عن يوجين يونسكو: ملاحظات وملاحظات عكسية، ص:91.
(8) يوجين يونسكو: 5 مسرحيات طليعية، المقدمة، ص:38-39.
(9) جلال العشري: صمويل بكت والأيام السعيدة، مجلة المسرح، القاهرة، العدد 8، ص:104.
(10) فن الرواية، ترجمة محمد درويش، دار المأمون، بغداد 1986 م، ص:270.
(11) محمد عزام، وعي العالم الروائي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1990 م، ص:122.