عالم الصوت الغامض

ما طبيعة الصوت، وما سر تنوعه، وكيف يتكون، وكيف ينتقل، وكيف يستقبل؟
تعدُّ الأوتار الصوتية هي المصدر الرئيس للصوت في الإنسان، وهي عبارة عن حزم صغيرة من النسيج الرقيق على امتداد الحنجرة؛ إذ تقوم الحنجرة بعملية شد الأوتار الصوتية وإرخائها في طرفي فتحة موجودة في القصبة الهوائية عندما يتكلم الشخص، تضغط عضلات الحنجرة على الأوتار فتضيق الفتحة، ويهز الهواءُ الخارج من الرئتين الأوتارَ المشدودة فينتج عن ذلك الصوت.
عند التنفس تسترخي الأوتار الصوتية فتكوّن فتحة على شكل حرف V تسمح بدخول الهواء، وعند التكلم تُجذب الأوتار الصوتية بالعضلات الملتصقة بها مما يضيّق الفتحة، ثم عند اندفاع الهواء من الرئتين عبْر الحنجرة، يهز الهواء الأوتار الصوتية المشدودة، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث الأصوات، فيكون صوت الرجل أكثر غلظة، بينما صوت المرأة أكثر رقة، والسبب في ذلك أن الأحبال الصوتية للرجل أطول وأكثر سماكة، وبالتالي تهتز الأحبال الصوتية عند الرجل بمعدل أقل من المرأة، لذلك ينشأ هذا الاختلاف في طبقة الصوت بين الجنسين.

تردد الصوت

تردد الصوت، هو عدد الاهتزازات الحادثة في مصدر الصوت، وهو يقاس بوحدة الهرتز. وقد وجد العلماء أن الأذن البشرية قادرة على تمييز الأصوات التي يتراوح ترددها بين 20 – 20000 هرتز، أما الأصوات الأقل من 20 هرتز والأعلى من 20000 هرتز هي أصوات غير محسوسة بالنسبة للأذن البشرية. فالإنسان إذا ما تقدم في العمر، يقل مدى الأصوات التي يستطيع سماعها؛ حيث ينخفض أعلى تردد محسوس للأذن عند كبار السن إلى نحو 12000 هرتز فقط. وبعض الحيوانات -مثل الكلاب- لديها القدرة على سماع الأصوات ذات الترددات الأدنى التي لا تستطيع الأذن البشرية التقاطها، وهذا ما يجعل هذه الحيوانات تستطيع الإحساس بصوت حركة انزلاق طبقات الأرض، التي تحدث الزلازل، ومن ثم يمكنها توقع حدوث الزلازل قبلها بوقت قليل.

طريقة انتشار الصوت

ينتشر الصوت خلال الفراغ والهواء والجماد على شكل موجات متضاغطة ومتخلخلة في بعضها البعض؛ حيث تبدأ على شكل دوائر صغيرة خارجة من مصدر الصوت، ثم يبدأ حجم هذه الدوائر بالاتساع، حتى تصل إلى أكبر حجم لها وتختفي تمامًا، وتتميز الموجات الأولى الخارجة من مصدر الصوت بقوتها ووضوحها، ثم تأخذ بالضعف والاختفاء شيئًا فشيئًا خلال انتشارها لمسافات طويلة.
وتعتمد سرعة الصوت على كثافة الوسط الذي تنتقل من خلاله، فكلما زادت كثافته زادت سرعة الموجات الصوتية، وقد تصل سرعة انتقال الصوت فيه إلى 330 متر/ثانية.

صوت الإنسان مفتاح شخصيته

يتفنن البعض في قراءة لغة العيون ليؤكد أن “العين مرآة الإنسان”، لكن بعض العلماء لهم رأي آخر؛ إذ يرون أن الصوت هو الذي يكشف الكثير عن شخصية الإنسان وطبعه بل وبعض الأمراض أحيانا. ويحاول الأطباء -في الوقت الحالي- الاستفادة من تحليل نغمة الصوت لمعرفة إصابة الإنسان ببعض الأمراض، مثل فرط الحركة والاكتئاب، ومرض “باركنسون” (اضطرابات في النظام الحركي).
فصوت الإنسان هو الباب الذي يمكن للآخرين الدخول منه إليه، وكشف الكثير من أسراره.
إذن كيف يمكن أن تنعكس شخصية الفرد بشكل كامل من خلال صوته؟

الصوت وجنسية المتحدث

تبدو الفروق بين الجنسين واضحة جدًّا من الصوت؛ فصوت المرأة في الغالب أعلى، وتظهر فيه المشاعر المختلفة بشكل أكبر من الرجل، وهو أمر له تفسير تشريحي يتعلق بكون حبالها الصوتية أرفع من مثيلاتها عند الرجل. فالذكور في مختلف الكائنات تتمتع بتجويف صوتي واسع تجعله يبدو أجشَّ، لذا تفضل الأنثى الذكر ذا الصوت العالي.
ولدى الإنسان الأمر مختلف؛ فالتجويف الصوتي للذكور يكون أطول بنسبة 20% من الإناث مع أن لديها أحبالاً صوتية أطول، ولكن على عكس الكائنات الأخرى، تجد أن معظم النساء يفضلن الرجل ذا الصوت المنخفض، أما الرجال فيفضلون المرأة ذات الصوت المرتفع.
ورغم الاعتياد على الربط بين نغمة الصوت ونوع الشخص، إلا أن بعض الدراسات أثبتت إمكانية تشابه الأصوات بين الذكور والإناث، وهذا يفسر السبب في أن بعض الممثلين يمكنهم التحول إلى النوع الثاني بمنتهى السهولة خلال أدائهم دورًا كوميديًّا.
وتحدد طبقة الصوت بعض المميزات الموجودة في الشخص، فالصوت الأجش (الذي يتسم بالعمق) مرتبط بالكفاءة العالية والقدرة على القيادة، والأشخاص الذين يتمتعون بصوت عالٍ أجش، يكونون -في الغالب- مسؤولين عن مهام كبيرة في الشركات التي يعملون بها، بينما الأمر يختلف بالنسبة للنساء؛ فقوة الصوت وعمقه يجعل المرأة تبدو أكثر قوةً وحزمًا.
ويرى بعض الخبراء أن اللهجة التي يتحدث بها المرء تلعب دورًا كبيرًا في تقييمه، كما يرسم الصوت بعض الملامح الشخصية لصاحبه من خلال الطريقة التي يتحدث بها، فالاختلافات اللغوية تساعد على معرفة هوية المرء الثقافية، بينما علماء الإنثروبولوجيا يؤكدون أن نطق مخارج الحروف بطريقة مميزة، ساعد الإنسان الأول على التمييز بين أقاربه. وإن إتقان الصوت يتطلب بعض الوقت، ومع التدريب يصبح أكثر مرونة، وهو جزء لا يتجزأ من الشخص مثل وجهه تمامًا، وينمو معه منذ بدء تعلمه للكلام، وتغيير الصوت ربما يجعل الشخص يتحول لآخر جديد.

الصوت ونفسية المتحدث

يبدو أن معرفة الحالة النفسية للمتحدث من خلال سماع صوته، أمر لم يحسم بعد. إلا أن هناك بعض الدراسات التي تربط بين الصوت والحالة النفسية للمتحدث؛ فالإنسان السعيد الذي يتمتع بصحة نفسية سليمة يتمتع أيضًا بصوت مملوء بالحيوية والانتعاش، على النقيض من الإنسان المطحون أو الذي يعاني من مشاكل نفسية، فصوته يقترب من الأنين، كما يكشف الصوت عن الصراعات النفسية، ويعبر عن الأمل، ويفضح الغضب أو الخوف.
ويحدد الصوت أيضًا عمر الشخص، فيقول “زند لماير”: “العمر أيضًا من الأمور التي يمكن الكشف عنها بسهولة من خلال الصوت، فالتقدم بالعمر يؤثر على وضع ومدى ارتخاء الحبال الصوتية ما يجعل أصوات كبار السن في الغالب مرتعشة غليظة، كما أنهم يتكلمون ببطء ويركزون على مخارج الحروف”.

بصمة الصوت

الأصوات كالبصمات لا تتطابق؛ فكلٌّ منّا يولد بصوت فريد مختلف عن الآخر، حتى التوائم على الرغم من تطابقهم في كل شيء، غير أن أصواتهم مختلفة. وإلا كيف سيكون شكل الحياة إن كانت أصوات البشر متطابقة بلا اختلاف؟! ولولا أن أودع الله عز وجل فينا القدرة على التفريق بين النبرات في الأصوات، لما كان لهذا الاختلاف معنى.
وهناك أجزاء مختلفة في الجسم تعمل على إنتاج الصوت وتمنحه لونًا مميزًا، وتتغير هذه الأجزاء مع مرور الأيام، فلهذا السبب قد يتغير صوتك مع مرور الوقت وحتى من يوم إلى آخر.
ويتحدد صوت كل إنسان وفقًا لأمور عدة، منها حجم منطقة الأنف، والحنجرة، ووضع اللسان، وشكل الشفاه، والطريقة التي يفتح بها كل إنسان فمه أثناء الكلام. وتلعب المشاعر كذلك دورًا في تغير صوتك حين تشعر بالفرح أو الغضب أو الخوف.. وهناك عوامل أخرى تساهم في إنتاج الصوت وتغيره؛ كالتلوث، والمناخ، والتدخين، والصراخ الكثير.
وتعتبر أصواتنا فريدة أو أكثر تميزًا، من بصمات أصابعنا، كما أن لها خصائص محددة يبلغ عددها أكثر من مئة خاصية، بعضها تتعلق بسماكة وطول أحبالنا الصوتية، وشكل ألسنتنا، وجيوبنا الأنفية. والأخرى تتعلق بشخصياتنا، مثل النبرة والنغمة والسرعة.
ولذلك يحاول العلماء اليوم استخدام الصوت بدلاً من كلمات السر أو إثبات الشخصية؛ فبصمة الصوت أدق من أي كلمة سر.

الصوت والكشف عن الجريمة

استغل البحث الجنائي بصمة الصوت في التحقق من شخصية الإنسان؛ ويتم ذلك بتحويل رنين صوته إلى ذبذبات مرئية بواسطة جهاز تحليل الصوت “الإسبكتروجراف”، وتستخدمها الآن البنوك في أوروبا حيث يخصص لبعض العملاء خزائن لا تفتح إلا ببصمة الصوت.
وقد بدأت أجهزة الشرطة في الاستفادة من ذبذبات الصوت للكشف عن المجرمين، وخاصة في حالات البلاغات المجهولة التي تتم عن طريق الهاتف، ويتم ذلك عن طريق رسم بياني للصوت يحدد أبعاده الثلاثة: الوقت والقوة والذبذبات.

الأصوات عند الحيوانات

تتمتع كثير من الحيوانات “بشُعَيرات” حساسة لذبذبات الهواء وبالتالي للأصوات، وبعضها لديه “أذن” في قوائمه؛ كفراش الليل أو صرصار الليل.
والكلاب والدرافيل والطيور والضفادع تتمكن من رصد ذبذبات فوق صوتية، وهو ما لا يمكننا سماعه.
أما الأسماك فليس لديها إلا الأذن الداخلية، ولكنها تتمتع بعضو حسي إضافي بطول جسمها (الخط الجانبي) يمكّنها من الإحساس بالأصوات (الذبذبات). كذلك تبين أن أجنة الطيور تستجيب للمثيرات الصوتية الخارجية (كصوت الآباء) منذ اليوم الثاني عشر من تطور نموهم داخل البيض.
وعندما نتحدث عن الحيوان، نجد أن قدرته السمعية تختلف عن الإنسان؛ فهي عند الخيول أقوى من مثيلتها عند الإنسان، فالخيل تملك آذانًا كبيرة ومتحركة تدور بحرّية لالتقاط الصوت من كل الجهات، كما يميزها ردة الفعل الخاص لصوت الإنسان.
ولقد أثبتت الدراسات أن بعض أنواع الحيوان تستخدم أنظمة اتصالية متطورة نسبيًّا، فلديها عدد من الرسائل التعبيرية الخاصة بموضوعات معينة. ومن اللافت للنظر نجاة الحيوانات والطيور في زلزال جنوب آسيا (تسونامي ديسمبر 2004)، إذ لم يُر نفوقًا واضحًا لها، بينما زادت جثث البشر عن ربع المليون. تُرى كيف تخاطبت هذه الحيوانات وأنذرت بعضها قبل ساعة الصفر، في حين لم تفلح أجهزة الإنذار المبكر لدى البشر؟
والبحوث التي أجريت في الصين بعد إقامة جهاز “السيسموغراف” المتنبئ بالزلازل بينت أن الحيوانات هي أكثر المخلوقات تنبؤًا بالزلازل، وأنها تقوم بتصرفات مخالفة لطبيعتها قبل وقوع تلك الزلازل.
فالأفاعي -مثلاً- تهجر جحورها، والخنازير تهيج في حظائرها، والدجاج يهجر الحظيرة، والكلاب ترفض إطاعة أي أمر، والإوز يهرب من برك الماء ويعتصم بقمم الأشجار، أما الأبقار فتحطم حظائرها لتنطلق إلى الخارج، والكلاب لا تهدأ عن النُباح، والفئران تتجه إلى الشوارع على غير عاداتها. أما سمك “الويلز”، فإنه يغير من عاداته في السير ويضطرب كثيرًا، وهذا يعني أن زلزالاً ما على وشك الحدوث. والأمر لا يقتصر على الحيوانات الأليفة، بل يتعداها إلى الحيوانات المفترسة التي تشعر بالزلازل على بعد أكثر من 150 كم.
بعد كل ذلك نقول، سيظل عالم الصوت المثير هذا ميدان بحث دائم لكثير من المجالات والتي تُظهر كل يوم الجديد والغريب في هذا المجال، وهذا ما ستكشفه لنا الأيام المقبلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.