صلاة بلا ركوع

وكأني بسائل يقول: وهل تصح الصلاة بلا ركوع؟ هل كانت الصلاة إلا ركوعًا وسجودًا؟ فإن سقط الركوع فماذا يبقى؟ إن هذا والله لشيء عُجاب!.

وأقوله له: حنانيك أخي… لا تُسِئْ الظنَّ بي؛ فإني والله مثلك لحريص على شعائر الله، وأرجو منه سبحانه أن يتمها لنا ظاهرًا وباطنًا، وأن نتحقق بها قلبًا وقالِبًا، وأن نستوفي حركاتِها كما نحيا خشوعَها.

غير أني ما قصدت بـ “الصلاة” هنا ما دارَ بِخَلَدِك من تعريف الصلاة بمعناها الاصطلاحي، وهو الذي عرَّفه الفقهاء بأنه أقوال وأفعال مخصوصة تُفتتح بالتكبير وتُختتم بالتسليم… حتى تسارع في الظن بأنني أدعو إلى صلاة بلا ركوع.

إنني أردت أن ألفت الانتباه إلى الصلاة بمعناها الأوَّلي اللغوي وهو: الصلة والدعاء.

فلم تكن صلة العبد بربه سبحانه مقصورةً على حركات وإشارات وعبارات… وإن كانت الصلاة بمعناها الاصطلاحي -حسب كيفيتها المطلوبة- هي قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال في حديثه الشريف يُعدِّد ما حُبِّب إليه في دنيا الناس: “…وجُعلت قرةُ عيني في الصلاة” (رواه النسائي وغيره عن أنس).

ويوم أن اكتفى المسلمون من الصلاة بحركاتها وتمتماتها، ينقرونها نَقْرَ الديكة؛ فقدت الصلاة تأثيرها وأثرها في النفس والروح والجوارح، وخبت ضياؤها في العقل والقلب!.

إن صلة العبد بربه لا يمكن أن تَحُدَّها حركاتٌ ولا إشارات ولا كلمات، ولا أن يحدها زمان ولا مكان ولا حال، فالمؤمنون الموصولون بالله (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)(سورة آل عمران:191)، إذْ هم قد فهموا كما ينبغي قولَه تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)(سورة البقرة:115)، فلا غَرْوَ أن جعلوا الله سبحانه قبلتَهم، والكونَ الفسيح محرابهم، والتأمل العميق في الخَلْق والمخلوقات وسيلتَهم لتجديد الصلة بخالقهم ورازقهم ومعبودِهم الحق.

الصلاة إذن -بمعناها الحقيقي- صلةٌ ممتدةٌ عبر الوجود الإنساني في اتساعه وعمقه وشموله، وعبر تقلُّب الليل والنهار والحوادث، والكونُ كلُّه هو محرابها الذي يتعبد فيه المؤمن لربه ومولاه.

فأينما وُجد الإنسان، وعلى أي حالٍ كان؛ فإنه يستطيع أن يستأنف… “لا”، بل أن يواصل سَيْرَه القلبيَّ إلى الله، وأن يقطع بهمته الوثَّابة في مدارج السالكين ومنازل السائرين، أضعافَ ما يقطعه غيرُه بخطواته الكليلة التي لا روح فيها ولا خشوع

وهو أيضًا يستطيع أن يجعل من هيئته الحاضرة، ومكانه المحدود؛ محرابًا لا محدودًا، وصلاةً بلا ركوع، وصلةً لا انقطاع لها فيذكرَ ربه بإجلال وتعظيم، ويتأمل في مخلوقاته بخشوع، ويعزم على ألا يعود إلى ذنبه بإصرار، ويُشهِد اللهَ على توبةٍ منه نصوحًا ودموعُه تَرْسُمُ وتُضيءُ له أولَّ عهدِه الجديد.