شهود الحال في القضاء العثماني

لا شك أن العدالة من أسمى الغايات التي سعى الإنسان إلى تحقيقها منذ القدم. وإن الديانات السماوية نزلتْ لترسيخ العدالة وإرساء قواعد الأمن والاستقرار بين الناس. ثم إن مقولة “الظلم لا يدوم” تؤكد على أن الأمم التي عمّرت طويلاً، هي التي أرست دعائم العدل والعدالة بقوة بين أبناء مجتمعاتها. ولا نخطئ إن أدخلنا العثمانيين في قائمة الأمم والدول التي ساهمت بقوة في دعم ثقافة القانون ونشر قيم العدالة النبيلة المرتبطة بالمنظومة القيمية للحضارة الإسلامية.

الدواوين المركزية

إن مؤسسة القضاء في الدولة العثمانية تختلف من مدينة لأخرى. وإن “ديوان الهومايون” في العاصمة؛ هو المجلس الأعلى الذي يملك السلطة الكاملة في جهاز القضاء. كانت تُعقَد بعض المحاكم في ديوان الهومايون في الباب العالي بعد مجالس الاستشارة حول شؤون الدولة. وفضلاً عن الدواوين التي يعقدها الباب العالي يوميًّا، كانت هناك أيضًا محاكم تسمى بـ”دواوين العصر” وتعقد على مدى ثلاثة أيام في الأسبوع، ومحاكم تسمى بـ”دواوين الجمعة” ويشرف عليها قضاة عسكر الأناضول والروميلي، ومحاكم تسمى “دواوين الأربعاء” ويشرف عليها كل من قاضي إسطنبول، وقاضي منطقة غلطة، ومنطقة أيوب سلطان، ومنطقة أسكدار. هذا وإن هذه الدواوين هي التي شكلت العمود الفقري لنظام القضاء المركزي في الدولة العثمانية.

وبالتالي كان شيوخ الإسلام وقضاة العسكر يقومون بمراقبة القوانين التي يتم صدورها من أجل المصلحة العامة، وبالبحث عن مدى تطابقها مع مبادئ الإسلام وقيمه، وذلك لمنع وقوع الخطأ في المجال القضائي. أما مؤسسة الإفتاء، فبالرغم من عدم تواجدها بشكل مباشر في جهاز القضاء، إلا أنها بفضل فتاويها في مختلف النوازل، تتمتع بمكانة خاصة، وتشكل رقابة دقيقة على جهاز القضاء.

القضاة

يتبوأ القضاة منصبًا مهمًّا في جهاز القضاء وجهاز الإدارة داخل الدولة العثمانية. فالطلاب الذين يتخرجون من المدارس الراقية؛ كمدرسة السليمانية ومدرسة الصحن الثماني، كانوا يُعيَّنون حسب درجاتهم التعليمية، قضاة في أهم المراكز والمدن وعلى رأسها مكة المكرمة والمدينة المنورة. أما بالنسبة للنظام الإداري، فكان القاضي يملك السلطة الكبرى في المناطق التي يمارس مهامه فيها.

لقد كانت فرمانات السلطان وقراراته حول المناصب، تُرسَل مباشرة إلى القضاة. وكذلك كان كبار رجال الدولة، المسؤولون عن إرساء دعائم القوانين الشرعية والعرفية؛ مثل الصدر الأعظم (الوزير الأول) والقاضي عسكر، والوالي، وقائد القوات البحرية، يوجهون الأوامر إلى القاضي من خلال رسائل تسمى “الرجاء”. وكان القاضي يقوم أولاً بتسجيل هذه الأوامر في دفتر السجلات ثم يبدأ بالتنفيذ. كان القاضي يتولى مهمة القضاء، والإدارة، ورئاسة البلدية في آن واحد، وكان كذلك هو رئيس المحكمة الذي يقوم بحلّ النزاعات والاختلافات القانونية التي تنجم بين الناس.

وبالتالي كان القضاة -باعتبارهم المكلَّفين بتطبيق قوانين العرف- ملزمين أيضًا بالإشراف على شؤون مالية الدولة، والعقود المبرمة بين الأفراد والدولة، وكذلك تنظيم مصادر الدخل للدولة، وتنظيم قوانين الضرائب، ومتابعة أحكام الحظر والمنع.

كما كان القضاة أيضًا، مسوؤلين عن متابعة شؤون التجار والحرفيين، وتنظيم أمور النقابات، وتحديد أسعار السوق، وتفتيش نظام الإعمار، ومراقبة الأوقاف، بالإضافة إلى تعيينهم النوابَ، ومديري الأوقاف، والأئمة، والخطباء، وكذلك تفتيش كتّاب العدل، وتفتيش عقود الميراث والزواج، وتفتيش قضاة التنفيذ، وتفتيش الزوايا والتكايا. وكان القاضي أيضًا يشرف على مجموعة واسعة من النواب، والكتّاب، والخدم، والمحضِرين أثناء تسيير الشؤون القضائية. هذا ويملك شيخ الإسلام والقاضي عسكر، حق الطعن في قرارات القاضي، وفي حالات استثنائية، يمكن أن يحال قرار القاضي إلى ديوان الهمايون للطعن أو الاستئناف.

شهود الحال

من الملفت للانتباه في المحاكم الشرعية داخل الدولة العثمانية، وجود هيئة رقابية تسمى “شهود الحال” تتابع سير المحكمة حيث يستشير القاضي مع هذه الهيئة ليتلقى منها المعلومات حول القانون العرفي والعادات المحلية.

يشارك شهود الحال في المحاكم بصفة شهودٍ لمؤازرة القاضي على تحقيق العدالة، فهم يتواجدون أثناء المحاكمة من أجل متابعة سير المحكمة ومراقبتها. أما أعضاء شهود الحال فكان يتم اختيارهم من المدرسين، والأعيان، والأشراف في المدينة. وفي بعض الأحيان كان القاضي عسكر ممن يشتركون في هذه الهئية. كما كان يطلق على هذه الهيئة كذلك اسم “المسلمين العدول” أو “الشهود العدول”، مما يبرز أهمية هذه الهيئة في مجال القضاء.

والجدير بالذكر أن عدد أعضاء شهود الحال غير محدد، إذ بعد ما تسجَّل بعض أسماء شهود الحال، يضاف إلى القائمة عبارة “وغيرهم”، وهذا يشير إلى أن هناك أعضاء آخرين قاموا بالتوقيع على قرار المحكمة لم تُكتَب أسماؤهم. ومن جانب آخر كان يوجد عضو واحد -على الأقل- في هذه الهيئة يمثل المدعي، وعضو آخر يمثل المدعى عليه. ومن الملاحَظ أن عدد أعضاء شهود الحال يزداد في القضايا المهمة الكبرى، ولا سيما في القضايا الخطيرة.

ولا بد في هذا الصدد من الإشارة إلى أن شهود الحال لم يتدخّلوا في قرار القاضي ولم يكن لهم تأثير عليه بالمرة، ولكن وجودهم كان بمثابة العنصر الضامن للعدل في المحكمة، حيث كان القاضي قبل إصدار حكمه يلجأ إلى شهود الحال ويستشير معهم، ثم يصدر الحكم. وهذا دليل واضح على دور شهود الحال في تجلّي العدالة في المحكمة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن شهود الحال ليسوا شهود عيان على القضية، بل إنهم المراقبون في المحكمة.

كل ذلك يشير إلى آلية الرقابة الموجودة في المحاكم العثمانية من جانب، ومن جانب آخر إلى شفافية المحكمة في انفتاحها للعموم، ومن ثم حياديتها في إصدار القرارات.

بداية نشاط شهود الحال

يبدو في وثائق الأوقاف العثمانية أن هيئة شهود الحال تشكّلت استلهامًا من الآيتين الكريمتين اللتين يقول الله تعالى فيهما: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾(البقرة:282)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(المائدة:106)، ولعل انتقال الوقف عن طريق الوصية بين الأجيال يعزز هذه القناعة. ولا شك أن تطبيق نظام شهود الحال في المحاكم المحلية، أعطى شكلاً جديدًا للنظام القضائي في الدولة العثمانية.

والجدير بالذكر أن الدولة العثمانية أخذت نموذج شهود الحال من سابقتها الدولة السلجوقية. مثلاً كان وقف “طُرُومْتاي” الذي كان محافظًا على مدينة أماسيا في عهد السلطان غياث الدين كَيْهوسرو السلجوقي (1237-1246)، واحدًا من هذه الأوقاف التي نرى فيها عبارة “شهود الحال” وبوضوح. ونجد عبارة “شهود الحال” كذلك في وقف مسجد “إبْلِيكْجي” الذي تم تشييده في عهد إمارة “كرامان أوغولاري”. وبالتالي نجد في الجزء الأخير من النص الذي نقش على مدخل وقف السلطان مراد الثاني عبارة: “يقول الله عز وجل: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ وقد حكم قاضٍ من قضاة المسلمين وبحضور شهود، على صلاحية وشرعية هذا الوقف”.

أعضاء شهود الحال

النواب: وهم من كبار رجال المدينة المحترمين. وكانوا يحضرون كل القضايا.

المفتي: فضلاً عن الإفتاء، كان المفتي يحضر القضايا المهمة أيضًا. وكان القاضي إذا تعذّر عليه حلّ قضية، سرعان ما يراجع المفتي ويطلب منه الفتوى حولها. ولا شك أن وجود المفتي بين أعضاء شهود الحال، أكسب لمؤسسة العدالة ميزة خاصة تستحق التقدير.

نقيب الأشراف: وهو موظف مهمته رعاية الأشراف وحماية حقوق الأسياد الذين ينحدرون من نسل الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم.

أخي بابا (رئيس التجار والحرفيين): وهو من أعضاء شهود الحال في المحاكم التي تدور حول التجار والحرفيين. بالإضافة إلى عضويته في شهود الحال في القضايا التي تتعلق بالضرائب، والزواج، والطلاق، والأوقاف، والنزاعات التجارية، والميراث، وتعيينِ وصيّ للأيتام، وبرعاية العجزة والاعتناء بهم.

الدفتردار (أمين المال): كان دفتردار ولاية قبرص، عضوًا في شهود الحال أيضًا، وهو يسعى أثناء القضايا إلى حل النزاعات التي تقع بين الأطراف من جانب، ومن جانب آخر إلى تأمين حيادية قاضي المحكمة.

إلى جانب هؤلاء الأعضاء ثمة أعضاء آخرون في شهود الحال؛ مثل المُحضِرين الذين يُحضِرون إلى القاضي أصحابَ الدعاوى، ورؤساء الكتّاب الذين يقومون بتحقيق الشكاوى، والكتّاب المُقْسِمين الذين يقسمون الميراث لأصحابها بالعدل، والمقيِّدين الذين يقومون بمهمة التسجيل في السجلات، وقرّاء الفتح الذين يتلون سورة الفتح في كل صباح داخل المحكمة.

الخلاصة

في فترة من الفترات كانت مقولة “عدلُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة ستين سنة” راسخة في نفوس المسلمين والمجتمعات الإسلامية، لذا لم يتعذر عليهم إيجاد سبلٍ تُحقِّق لهم العدل والعدالة بين أبنائها. من هذا المنطلق يمكن القول إن السر في استمرارية الدولة العثمانية ستة قرون، يكمن في إدراك المعنى الحقيقي للعدالة وتطبيقها في القضاء. ويتضح مما ذكرناه آنفًا، أن النظام القضائي في الدولة العثمانية كان قائمًا على مبادئ وأسس إسلامية سامية.

 

(*) كاتب وباحث تركي. الترجمة عن التركية: رضوان يوسفي.