رشف الجمال

على وقع نور خافت ينساب من مشكاة عتيقة يمين المحراب، وبِسَمْتِهِ الوقور ولحيته الخفيفة التي غزاها الشيب جلس مفترشًا حصيرًا باليًّا، وعلى وجهه أسارير تفصح عن سر غامر، وحوله وجوه مشرئبة تبدو مأسورة به غاية كأنها وجوه حواريين أو قل مريدين، دلف سعيد إلى المجلس وكأن فضولاً به يدفعه إلى شيء ما لم يعتده.

سمع أحدهم يحثه على الدنو أكثر؛ مرحبا، فلتتدثر بأجنحة ملائكته تغشاك رحمته، كانت أنفاس الشيخ الواثق ملفتة، كأنه يريد في جلسائه شيئًا أبعد غورًا، كان يحدثهم عن “الوَلُوه”ِ التي أحبت حتى جُنَّت، وعن “الوَلَهِ”، عن تحير الوجد وحنين الفقد، ها هو يرسل زفرة محرقة يكابد بها معنى “الإله” فيهم، بدأت أسئلة في الوافد الجديد تنشط من عقالها، غير أن الحديث كان آسرًا، فقد ظل يخترقه كما لم يألف من قبل، فكأنه لاقى فيه نهرا أصيلا لم يجد بدا من الانغمار في عذب زلاله، جرّبَ التمنُّع… ثم التريُّث.

ها هو يسلم نفسه لدفقه، يطلق عنانها لتياره يجري بها ما جرى، شعر لأول مرة أن زلزالاً عنيفًا بل لذيذًا، أو هو شيء بينهما أو منهما معًا، هو لا يدري، شعر به يجتاحه، ينتشله من لحظته التي بدت له حينها باهتة، بل فارغة إلا من أشيائه وما أكثرها، وما زالت نبرة الشيخ تعلو حتى بدا كأن العِبارات لم تعد طوعه، وكانت كلما ضاقت عليه اتسعت إشاراتٍ في خلد سعيد الذي اتقدت فيه رغبة عارمة يريد معانقته يطلب شيئا من سره، ما باله لم يعد يستسيغ حدا لهذا الرشف الذي اتشح فيه الجمال بالجلال؟ وقد كان يثقل عليه السماع قبله؛ انهال عليه ابتهال الشيخ يريد الختام كمن يقطع عنه وصلاً نديًّا، غير أنه ألفى في تكبيرة الإحرام الملاذ، كل الملاذ انتابه إحساس عائد من غربته، لم يستطع حبس دموعه اجتمعت عليه نفسه كأن الكون أصبح طوعه.