دردشة تحت الشمس

 

جلس “إلياس” في صحن الحرم المكي وقال لـ”جواد” الذي تعرّف عليه في الفندق:

– الشمس في بلدكم لا تغيب، كل شيء يشع كالذهب، حتى الأشجار والأحجار تستمتع بهذا الضياء الوافر.

قال جواد:

– هذا من نعم الله على هذه البلاد، أما سمعت أنهم اكتشفوا الطاقة في تلك الأشعة الممتدة على آلاف الأميال مخترقة طبقات هوائية عديدة؟ من هذا الضياء سيزداد الإنسان سعادة وستزيد الشمس حياتنا رونقًا وجمالاً.

رد إلياس القادم لأداء فريضة الحج من تركيا:

– قد يخفف هذا الاكتشاف من التلوث البيئي الذي تحدثه أدخنة المحروقات البترولية.

ابتسم جواد وهو يعدل غطاء قطنيًّا خفيفًا فوق رأسه وقال:

– لقد برع أجدادنا الشعراء في التغني بالقمر، لأنهم يهتدون به في الظلمات، ويقطعون الأميال في ظلام مضيء ضوءًا وسطًا بين الظلمة والضياء، وهذا من آيات الله العظيمة.

قال إلياس ساخرًا:

– حقًّا يا جواد، أعتقد أن الشعراء اليوم سيتغنون بالشمس المضيئة شعرًا ونثرًا.

أردف جواد ضاحكًا:

– ههه، أعتقد أنهم سيسوقون سياراتهم المزودة بالطاقة الشمسية، ويحملون الحواسيب المعبأة بالطاقة الشمسية أيضًا، وسيستعملون في بيوتهم كل الأجهزة المتاحة ببطاريات تمتلئ حرارة.. هه، سيتملك الواحد منهم ثروة شمسية في بنوك مليئة بالأشعة.. ههه.

قال إلياس:

– يا إلهي، لست أدري ما الذي جعلني أفكر الآن في قوم سبأ الذين عبدوا الشمس من دون الله هيبة لضيائها، ماذا لو رأوا ما اكتشفته التكنولوجيا العلمية اليوم، الأشعة الذهبية في الصناعة لأجل راحة الإنسان والشمس سبيلاً لعبادة خالقها الذي أودع فيها تلك المنافع، وأمسكها في هذا الفضاء الشاسع، ووهبنا ضياءها وهي طائعة؟!

رد جواد واثقًا:

– لقد كان هدهد سليمان عليه السلام حكيمًا عندما أنكر على قوم بلقيس عبادتهم للشمس من دون الله.. فقد طاف في السماء العالية، وأدرك أن عقولهم لم تستقبل تلك الأشعة النيرة من أجل الإبصار والتأمل، كيف تغذي الأرض وتنضج الثمار وتنشر نورها عليهم، دون أن يوجهوا لأنفسهم سؤالاً واحدًا: أيعقل أن تنفذ تلك الأوامر من تلقاء نفسها؟ أين تلقت التدريبات لتدرك حاجة الإنسان الدقيقة والملحة إلى ضيائها.. هذا الإنسان الذي يبعد عنها آلاف الأميال ولا يكاد يظهر أمام أصغر جزء منها؟ بل إن خللاً بسيطًا في حركتها، قد يجعله ذائبًا كالشمعة المحترقة.. هل درست خلقه بهذه الدقة وتكيفت معها لحد هذا الإمتاع البهي الذي شملته أشعتها به؟

قال إلياس بصوت الواثق:

– لذلك فقد تحدى الهدهد عذاب سليمان عليه السلام وأخبره أنه أحاط بما لم يحط به هو، وهو النبي الذي سخر له الله تعالى ما شاء من مخلوقاته.. كان غاضبًا جدًّا وهو يرى مخلوقًا يعبد مخلوقًا آخر خلق من أجل خدمته وإنارته وإعانته على الاستخلاف.. لم يحتمل، وقرر أن يرفع تقريرًا عاجلاً لنبي الله الذي ينشر التوحيد الخالص.

ههه.. يقولون إنه أول صحفي أنجز تقريرًا في التاريخ. لقد كان أمينًا وصادق الغيرة، إلى درجة أنه كان سببًا في هداية قوم بلقيس بأكمله؛ حيث استعاد العقل البشري وعيه وتدبر في قول سليمان، وأدرك أن عبادة الموجد أولى من عبادة الموجودات.

لقد عادت صورة الشمس في حركتها الدؤوبة خلال اليوم وخلال الفصول إلى مخيالهم الأواب، ونحتت لبلقيس صورة المرأة الحكيمة التي نزلت عند دعوة سليمان، وعبدت إلهه الذي خلق كل شيء، مقتنعة أن الشمس لم تهبهم الضياء من تلقاء نفسها، وأنها مأمورة كما هو القمر والبحر والنجوم وغيرهم من المخلوقات.

ما أستغرب له -يا صديقي- هو أن هذا الهدهد مجرد طائر صغير، وأتى الله على يديه بالقوم كلهم مؤمنين.. كيف أخذته الغيرة وهو يرى ذلك المنكر المشين، وتحرك بطريقته لأجل إزالته؟ كيف حزن وقاوم المنكر بتلك الطريقة المؤدبة وهو غير مكلف ولا مسؤول؟

حقًّا إنه منكر عظيم أن ترى بشرًا كرّمه الله بالعقل البارع المبدع، يضع مؤهلاته تحت إشارة صنم مهما علا وكبر، يسجد لشمس أو لقمر أو ما شابه.

لقد امتد بنا الوقت مطولاً يا عزيزي، وغرقنا في هذه الدردشة، ولم نعلم أن الشمس قد ملأت السماء نورًا، فالساعة تشير إلى الحادية عشرة زوالاً.

– هكذا هي بلاد الحرم، يمتد الضياء طيلة اليوم، ويتيح لك أن تنجز الكثير من الأعمال وأنت تعانق أشعتها، خصوصًا حين تخترق غرفة نومك، وتتسلل من النوافذ ومن بين الثقوب إلى سائر أرجاء البيت، وتنتصب في السماء فوق الكعبة والناس صفًّا صفًّا من كل جنس ولون، كأنهم بنيان مرصوص يسجدون لخالقها ويلهجون بحمده في جو بديع.

– هذا ما أبهرني! ليت الهدهد يعود في زيارة تفقدية هذه المرة، ليرى العقل البشري السوي ساجدًا، ونور الشمس في عقله وقلبه ممتزجًا بنور الله الذي لا يخبو ليعود ويخبر سليمان عليه السلام أن الله قد أذن للتوحيد أن يسري في الأرض سريانًا، ويصل الحق إلى كل شيء غربت عليه شمس أو أشرقت.

استغرقا قليلاً في الصمت والتدبر، إلى أن سمعا مؤذن أذان الظهر مكبرًا ليتوجه الناس صفًّا واحدًا تحت ضياء الشمس الوارف.

(*) كاتبة وأديبة مغربية.