جاء في معرض تحليل الأستاذ فتح الله كولن لجوانب أعماق النبوة من خلال قراءته لمسار العلوم ومنجزاتها: “إن العلوم المعاصرة اليوم قد تكتشف -من منظور كلي وبتقويم شمولي- أمورًا مهمة تتعلق بالنظام والانسجام والحركة في الوجود والحوادث، ونحن نتقبل ذلك بالتقدير والتوقير. لكن جمعًا من المجهّزين بجهاز خاص، قد أعلنوا في أقدم العصور وبواكير الزمان -ولو بشكل إجمالي- هذه المعلومات والتفسيرات التي توصل إليها العصر باستخدام أعظم التكنولوجيات”(1). فهل العالم اليوم مؤهل لفهم حقيقة النبوة؟
لا شك أن النبوة هي إخبار عن وحي لشمولية الواقع والعقل والغيب وفق منظور مجرد عن أبعاد الزمان والمكان. ونبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فاقت كل النبوات بمعجزة القرآن الخالدة، وبما تضمنته أحاديثه الشريفة التي استوعبت ببيانها المعجز لبَّ مدركات العقل المتجددة، بحيث إن هذه النبوة الخاتمة لم تضاهيها رسالة سابقة في ذروة التحدي لفكر الإنسان باستيعاب لب نتاجاته العقلية والسبق إلى الإشارة إليها بأوجز الأساليب والعبارات الإعجازية. وذلك هو السر في عدم ورود أي مجال للتعارض بين ما جاءت به تعاليمها، وما يفرزه الزمان من جديد الحقائق العلمية. ولعل في وقوفنا على الدلالات الإعجازية لحديثه صلى الله عليه وسلم عن عودة أرض العرب مروجًا وأنهارًا -وهي اليوم صحراء قفار- ما يفيد هذه المعاني. فهذه العودة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خمسة عشر قرنًا، نرى اليوم أشراطها تظهر في مجمل التقارير العلمية الحديثة من خلال ما تكشف عنه الدراسات الأكاديمية والبحوث الميدانية لمختلف التخصصات العلمية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدًا يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا”(رواه مسلم).

أشارت الأبحاث الجيولوجية أن التحرك المســتمر  لصفيحة شــبه الجزيرة العربيــة سيؤدي إلى تغير البيئات الطبيعية في منطقة الخليج

من خلال قراءتنا العلمية للتطورات البيئية للأرض، نجد أن البيئات الطبيعية شكلت في مختلف الحقب المتسلسلة لتاريخ الأرض، مجالات متميزة عن بعضها بأنواع الرواسب وأصناف الحياة اللتين شكلتا عند كل فترة خصوصيات البيئة الطبيعية المحددة بنوعية الهواء والماء والتربة والكائنات الحية. فهي إذن وحدات طبيعية ناتجة عن تفاعلات معقدة بين عناصر حيوية (الكائنات الحية) وغير حيوية (الهواء، الماء ومعادن التربة)، أدت في فترات التطور اللارجعي للأرض، إلى ظهور مجالات للترسب والحياة متميزة كل منها بخصوصياتها المحددة بظرفية زمانها ونوعية مكانها.
فمن خلال تصفحي لنتائج البحث الذي قام به عالم الرواسب الفرنسي “Purser” في مجال دراسته للتطورات الجيولوجية والرسوبية لمنطقة الخليج المحاذية لشبه الجزيرة العربية، وجدته يستنتج أن بحر الخليج كان قبل عشرين ألف سنة أرضًا يابسة، بحيث كتب في نتائج بحثه “إن قعر الخليج يحفظ آثار شبكة أودية تدل تشعباتها على أن الخليج كان في هذه الحقبة أرضًا يابسة تخترقها أنهار كثيرة كانت تصب مباشرة في المحيط الهندي”. وفي هذا إشارة إلى أن مياه الأنهار كانت تجري بشكل وافر فوق أرض الخليج الذي كان جزءًا يابسًا من الجزيرة العربية قبل أن تغمره مياه المحيط وتكوّن بحر الخليج.
ثم وجدته يقول بخصوص مصير منطقة الخليج في المستقبل: “إن الانخفاض التدريجي لمنسوب مياه الخليج وتقلص مجاله البحري الناجمين عن امتلاء حوض الخليج بالرواسب، سيؤدي مستقبلاً إلى انغلاقه مع ظهور مناطق مروج على طول الخط المحوري للخليج”. وهو ما يحمل الإشارة إلى عودة المنطقة إلى الظروف القارية التي كانت عليها من ذي قبل، مع تكون المروج التي هي مناطق التقاء مياه عذبة تسوقها الأنهار مع مياه مالحة تأتي بها البحار.
هذه النتائج التي استخلصها هذا العالم من أبحاثه الميدانية لمنطقة الخليج، أظهرت تفاصيلها الجيولوجية أن التحرك المستمر لصفيحة شبه الجزيرة العربية -ونحن نعرف في الجيولوجيا أن سطح الأرض ليس قطعة واحدة ولكن مجموعة قطع متجاورات ومتحركة تسمى صفائح تكتونية- يؤدي إلى تغيير البيئات الطبيعية للمنطقة. ويقترن ذلك بانفتاح البحر الأحمر على حساب انغلاق الخليج، بحيث اكتشف الباحث مجموعة أودية في عمق 120م بخليج عُمان بينت تحليلاتها الرسوبية أن الخليج كان قبل ما يناهز عشرين ألف سنة عبارة عن أرض يابسة تخترقها أنهار ووديان كانت تصب مباشرة في المحيط الهندي. لكن بعد ذوبان ثلوج الحقبة الجليدية الأخيرة، حدث طغيان لمياه المحيط الهندي الذي غمر المنطقة في وقت وجيز قدر فيه اجتياح المياه لليابسة بمعدل 100 إلى 120م في السنة. فتكوّن بحر الخليج وانفرد بعد انعزاله عن المحيط بشكله الخاص وخصائصه التي تختلف اليوم كثيرًا عن خصائص سلفه المحيط الهندي.
أما الترسبات التي يتلقاها الخليج، فبالإضافة إلى تلك الناتجة عن تعرية جبال زاجروس الإيرانية والهضاب الشرقية للجزيرة العربية، هناك كميات هامة تنجرف من الشمال عبر نهري دجلة والفرات اللذين يلتقيان عند المصب في شكل دلتا تتكدس فيها الرواسب بشكل فائق، حيث يُحتمل حسب نفس الدراسة أن يسجل الخليج امتلاء تدريجيًّا بالرواسب، وانخفاضًا موازيًا لمستوى مياهه التي ستسيح على أرض الجزيرة. فتظهر في بحر الخليج أراضي يابسة، وعلى أرض الجزيرة مروج وأنهار تذكر بالحالة التي كانت عليها المنطقة قبل الحقبة الجليدية الأخيرة.
هذه الظروف التي سادت قبل الحقبة الجليدية الأخيرة، تبدو أشراطها ملوّحة في هذا الزمان نظرًا لما أصبح يسجل من ارتفاع متزايد لحرارة الأرض. الشيء الذي يزيد من وتيرة ذوبان الثلوج المتواجدة على القطبين الشمالي والجنوبي، وعلى قمم الجبال والمرتفعات، ويقلص المجال الجليدي العام على سطح الأرض، مساهمًا بذلك في رفع مستوى مياه البحار والمحيطات، ومنذرًا بطغيان عام للبحر الذي قد يغمر مناطق كثيرة منخفضة من سطح اليابسة بما في ذلك الهضاب الشاطئية لشبه الجزيرة العربية.
لكن الشيء الأكثر إثارة في هذا التصاعد المستمر لحرارة الأرض، هو التزايد المهول للإفرازات الغازية في الجو، وخاصة ثنائي أكسيد الكربون الذي يؤجج ظاهرة الاحتباس الحراري. فهذا الغاز سيتكاثف في الجو ويتركز بصفة فائقة في المناطق الأكثر إصدارًا له وهي الصحاري، لأن المناطق الثلجية وخاصة القطبية التي كان من المفروض أن تجذب هذا الزائد من غاز الكربون وتمتصه، لم تعد قادرة على ذلك نظرًا لذوبان ثلوجها التي تلعب دور المصاصات لهذا الغاز. مما سيؤدي إلى تكتل غاز الكربون في المناطق الصحراوية -وصحراء الجزيرة العربية إحدى هذه المناطق- مشكلاً بذلك كتلاً سحابية من شأنها أن تعطي أمطارًا تحول الصحراء إلى مناطق رطبة خضراء.
بالموازاة مع ذلك سيؤدي الارتفاع العام لمستوى البحار في العالم، إلى اجتياح المياه المالحة البحرية للمجال القاري، مكونة بذلك مناطق مروج عند التقائها مع المياه العذبة الآتية من الأنهار. الشيء الذي من شأنه أن يُظهر على أرض الجزيرة العربية، بعد أن يمتلئ الخليج بالرواسب وتسيح مياهه على الهضاب العربية، بيئات مروجية تتلاقى فيها المياه المالحة المندفعة من المحيط الهندي مع المياه العذبة الآتية من أنهار الشمال. وها هي أرض العرب تعود مروجًا وأنهارًا كما كانت في فترة غابرة من تاريخها، تمامًا كما أخبر بذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذلك الحديث الذي تؤكد مضامينه اليوم الدراسات والبحوث العلمية لأخصائيين من ميادين مختلفة.
ومن هنا نلمس مدى القدرة الخارقة للحديث الشريف في الهيمنة على لب المدركات العقلية، واستيعابه لمجمل قضايا البحث العلمي في مجال التطورات البيئية بأسلوب آية في الإيجاز وغاية في الإعجاز. بحيث نجد الحديث في منطوقه ركز على ثلاث كلمات جامعة: كلمة “تعود” التي مصدرها العودة، وكلمة “مروج” التي هي من فعل مرَج، وكلمة “أنهار”.
فالعودة تعني أن أرض العرب -وهي الجزيرة العربية- كانت في فترة سابقة من ماضيها الطبيعي مروجًا وأنهارًا، وأنها راجعة إلى هذا الوضع في تحولاتها المستقبلية. وهو ما أثبتته دراسات عالم الرواسب الفرنسي “Purser” لمنطقة الخليج كما رأينا، وتؤكده دراسات متخصصة أخرى، بحيث كتب المهندس جمال عبد المنعم الكومي استنادًا إلى أبحاث الجيولوجي الأمريكي “هال ماكلور” في رسالة دكتوراه عن الربع الخالي(2)؛ أن البحيرات كانت تغطي هذه المنطقة الصحراوية خلال العصور الجليدية التي كانت بالنسبة للجزيرة العربية عصورًا مطيرة، وأنها ظهرت مرتين الأولى قبل 37000 إلى 17000 سنة، والثانية ما بين 10000 و5000 سنة خلت. كما ذكر الكاتب في نفس البحث إشارات إلى صور جوية أظهرت تفاصيلها عن وجود مجرى لنهر عملاق قديم كان يخترق شبه الجزيرة العربية من الغرب إلى الشرق بقيت آثاره تحت الكثبان الرملية الهائلة، حيث كان يشكل دلتا في مصبه عند شمال غرب الكويت. وهذه الحالة ساهمت في تلك الفترة الغابرة من تاريخ الجزيرة في ترطيب جوها وتخصيب أراضيها، حيث أظهرت البقايا المتحجرة آثار نباتات دلت دراستها على امتداد المناطق الخضراء وازدهار العشب ووفرة الوحيش.
أما كلمة “مروج” التي هي جمع “مرْجة” فتعني في الاصطلاح العلمي المعاصر؛ منطقة التقاء مياه مالحة بحرية مع مياه عذبة برية، وهو نفس المعنى الذي نجده في الاصطلاح القرآني. إلا أن صيغة الجمع التي جاء بها منطوق الحديث “مروجًا”، تدل على الكثرة التي تفيد أهمية الظاهرة -ظاهرة المرْج- التي تحمل في طيها إشارة إلى مدى البعد الذي سيعرفه المد البحري في المجال البري.
وأخيرًا كلمة “أنهار” التي تفيد من جهة الاصطلاح اللغوي؛ وفرة المياه الجارية، ومن جهة الخصائص الطبيعية، سيادة الظروف الرطبة ووفرة الخصب والخضرة.
لكن اللافت للنظر في سياق الحديث، تقديمه لظاهرة المرْج “مروجًا” على وقع الأنهار، فالمرج هو ظاهرة تحدث عند التقاء مياه مختلفة الخصائص وتداخلها فيما بينها. وقد يكون هذا التداخل بين مياه البحار المختلفة، كما يمكن أن يكون عند مناطق التقاء مياه مالحة بحرية مع مياه عذبة برية على خطوط التماس الفاصلة بين البر والبحر. هنالك تندفع المياه البحرية لتجتاح الأراضي المنبسطة والمنخفضة من البر فتمرج مع المياه العذبة الآتية من الأنهار. الشيء الذي ينجم عنه تراكب للمياه في طبقات تعلو فيها المياه العذبة نظرًا لضعف كثافتها فوق المياه المالحة. فلا تذوب خصائص أي من هذه المياه في بعضها رغم التداخل الحاصل بينها -كما عاينا ذلك ميدانيًّا في دراستنا لإحدى المروج الشاطئية بالمغرب- بل تتنضد (stratification) في شكل فرشات مائية متراكبة فوق بعضها، ومائلة في تناقص تدريجي للملوحة باتجاه الطرف النهري للمرجة. بحيث تنحدر الطبقات المائية الأكثر ملوحة المتاخمة للممر البحري إلى عمق المرجة نظرًا لكثافتها المرتفعة، بينما تعلو الطبقات المائية الأقل ملوحة المتواجدة إلى الطرف النهري للمرجة فوق الكتل المائية المالحة نظرًا لضعف كثافتها، فينجم عن هذا الوضع جريان للمياه يجعل الطبقات المائية العليا تساق في اتجاه البحر، بينما تتحرك المياه السفلى الأكثر ملوحة نحو وسط المرجة.
وهكذا تظل هذه الكتل المائية رغم تداخلها غير متساوية في خصائصها، محتفظة كل منها بدرجة ملوحة متميزة، لا تبغي إحداها على الأخرى مهما تغيرت حركات المد والجزر من الجهة البحرية أو سيول الأنهار من الجهة البرية، تمامًا كما وردت الإشارة إلى ذلك في قول الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا)(الفرقان:53).
وهكذا نجد أن ما جاء به الحديث الشريف في موضوع عودة أرض العرب مروجًا وأنهارًا، يحمل من الدلالات العلمية ما لا يمكن فك رموزه إلا بحس علمي عميق، جامع بين دراسات من شتى التخصصات الجيولوجية والمناخية والبيئية، وغيرها من المدركات العلمية التي مكنت من توضيح الرؤيا حول مفهوم الحديث في إثبات حقيقة التطور الطبيعي لبيئات الأرض، ذلك التطور الذي كما أظهرته صيغة الحديث، يجري في سياق التحولات العامة التي يشهدها سطح الأرض، وهي التحولات التي تُجمع عليها التقارير العلمية لمختلف الدراسات والأبحاث الأكاديمية. وهنا تظهر قدرة النبوة الخارقة على استيعاب المدركات العلمية المتجددة، ذلك أن ما وصل إلى إدراكه العلم الحديث بعد قرون من التراكمات المعرفية وعشرات السنين من الأبحاث العلمية بخصوص ظاهرة الاحترار وارتفاع مستوى البحار، ها هو الحديث الشريف يختزله بإعجاز وإيجاز في كلمة “مروج” التي تحمل في طيها إشارة ضمنية إلى ظاهرة الطغيان البحري الناجم عن ارتفاع مستوى البحر، إذ هو المسبب لتكوّن المروج على سطح اليابسة.
فكأن الحديث بذكره للمروج يكون حمل الإشارة إلى ظاهرة الاحترار، لأن كوْنه قرَن قيام الساعة بتكوّن المروج على أرض العرب يعني حسب الاستقراء العلمي، أنه جعلها رهينة باحترار الأرض. فهذا الاحترار هو الذي يؤدي إلى ذوبان الثلوج وبالتالي إلى ارتفاع مستوى البحار. فإذا تجاوز هذا المستوى حدًّا معيّنًا، ساحت المياه البحرية المالحة على الأراضي المنبسطة فتكوّنت المروج.
وهذا هو بيت القصيد وموضوع الساعة الذي له تُعقد المؤتمرات العالمية، وتصاغ التقارير الإنذارية في محاولات جاهدة لاحتوائه قبل أن يصل الأمر ذروته. فالاحترار أصبح يشكل أكبر خطر يهدد الأرض، والحد منه بات يشكل أكبر هاجس يؤرق الإنسان. ومن هنا أعود من حيث ابتدأت إلى السؤال المطروح، تاركًا الإجابة عنه للقارئ من خلال ما تفرزه مدركات عصره من تجليات علمية شاهدة على صدق النبوة.

(*) كلية العلوم، جامعة ابن طفيل / المغرب.
الهوامش
(1) ونحن نبني حضارتنا، لمحمد فتح الله كولن، ترجمة: عوني عمر لطفي أوغلو، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2013، ص:135.
(2) مجلة الإعجاز العلمي، جدة، عدد 6، محرم 1431، ص:32-39.