يقول الأستاذ فتح الله كولن بخصوص أهمية الإشارات الكونية الواردة في القرآن وآفاق دلالاتها العلمية: “ما أخبر به القرآن بشكل رؤوس أقلام مختصرة ومركّزة حول بعض الحقائق العلمية، أشياء مدهشة لا يمكن تجاهلها”(1). وفعلاً هي أشياء مدهشة تلك الإشارات القرآنية التي جاءت في خباياها دلالات عميقة على حقائق علمية لم تفهم إلا مؤخرًا. ومن بين هذه الإشارات ذكر كتاب الله لجانب الطور الأيمن.

فقد ورد ذكر جانب الطور الأيمن في موضعين من كتاب الله في قوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا((مريم:52)، وفي قوله سبحانه: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ((طه:80)، ووردت في سورة القصص الإشارة إليه بالجانب الغربي، وذلك في قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ((القصص:44). فما الدلالات العلمية التي تحملها هذه الإشارات القرآنية بخصوص أسرار حركة الجبال على سطح الأرض؟

من المعلوم أن تحديد يمين الشيء من شماله، لا يتأتى إلا إذا عُلم أمامه من خلفه، وذلك من خلال حركته أو شكله. فكيف يخاطب كتاب الله بجانب الطور الأيمن، علمًا بأن الطور -وهو جبل في صحراء سيناء- إنما هو كتله صخرية لا يُعرف لها أمام من خلف؟ ذلك هو السر الذي يجب البحث فيه من خلال تلك الإشارات المركّزة، التي جاء بها إخبار الوحي في شكل رؤوس أقلام مختصرة في بضع كلمات، والتي احتاج العلم لتوضيح الرؤية حولها إلى آلاف الصفحات من البحوث والدراسات المتخصصة.

فآخر ما وصل إليه العلم اليوم بشأن ديناميكية الجبال، هو الإقرار بأنها متحركة تمامًا كما يصفها كتاب الله في قوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ((النمل:88). ذلك الوصف الذي قد يظن المتوقف عنده، أنه من قبيل التذكير بمشهد من مشاهد يوم القيامة على اعتبار أنه جاء تبعًا للآية التي سبقت في سياق تلك المشاهد. لكن ورود هذا التشبيه بين مر الجبال ومر السحاب مقرونًا بفعل حسب الذي يفيد الظن، ينفي ذلك لأن في الآخرة لن يكون هناك مجال للظن، بل كل ما سيراه الإنسان هو من صميم اليقين. كما أن ختم الآية بقوله تعالى: (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) يدل على أن هذا التشبيه هو من مظاهر التذكير الإلهي للعباد بقدرته المطلقة، التي تحمل في مضمونها إشارة إلى نسبية الإدراك البشري لظواهر الكون في هذه الحياة الدنيا. فهي إشارة إذن، إلى أن الإنسان -وهو محمول فوق هذه الجبال التي تتحرك مع حركة الأرض- لا يرى مَرّها، وإنما يرى مر السحاب الذي يقابله في السماء.تمامًا كما لو كان هذا الإنسان محمولاً فوق السحاب لما رأى حركة السحاب، بل لحسبه جامدًا وهو يمر مر الجبال التي يراها من هناك. وهذا الوصف نجد له شبيهًا في قوله تعالى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ(الكهف:17)؛ حيث نحسب من خلاله أن الشمس هي التي تطلع على الأرض، علمًا بأن الأرض -وهي تدور حول نفسها- تجعل الإنسان يرى الشمس تطلع، مما يدل على أن هذه الأوصاف وأمثالها، هي إشارات إلى نسبية الإدراك البشري لمجريات الأمور. تمامًا كما لو كنت راكبًا في قطار يسير وعلى السكة المجاورة قطار متوقف، إذا رأيته حسبت نفسك متوقفًا وهو يسير. فهذا الذي يرمز إليه كتاب الله من خلال هذه الإشارات الكونية إنما يدل على أن الله  أضفى صفة النسبية على كل مجريات الكون، وأبقى المطلق لذاته وقدرته العلية.

وحتى نستبين أسرار ما تخفيه هذه الإشارات، سنقف -وبالله التوفيق- على إظهار تفاصيل حركة الجبال التي هي أعقد مما صورناه، معتمدين في ذلك على فهم الآيات التي وردت في شأنها، من خلال توظيف ما جاءت به الكشوف العلمية الحديثة من مفاهيم توضيحية جديدة.

ما جاءت به الكشوف العلمية

لما دعانا الله تعالى للنظر إلى الجبال كيف نصبت، دعانا كذلك للنظر إلى الأرض كيف سطحت، لأن هذا السطح الذي يُلبّس الأرض هو الذي يحمل الجبال، فقال في ذلك: (أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ((الغاشية:17-20)؛ فقد يحسب المشاهد أن سطح الأرض قطعة واحدة لا تتجزأ، لكنه مجموعة قطع متحركة تكونت بكيفية دقيقة وتطورت في شكل بديع، لتظل في حركة دائمة ونشاط مستمر، كما نجد الإشارة إلى ذلك واردة في قوله تعالى: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ((الرعد:4).فالأبحاث الجيولوجية أثبتت أن الأرض عند ميلادها، لم تكن سوى كتلة ملتهبة كُوّرت من جرّاء تكتل مواد انصهرت جميعها في شكل كرة كانت حرارتها تفوق بكثير ما هي عليه الآن. ثم بعد ذلك بملايين السنين، بدأت تبرد شيئًا فشيئًا، فتصلب سطحها وتكوّنت القشرة الأرضية التي كان سمكها ضعيفًا، ثم ارتفع تدريجيًّا مع تبرّد الأرض وتصلُّب المواد التي تحاذي السطح، بينما بقيت الطبقة السفلية تحت السطح في انصهار دائم، مما جعل طبقة السطح تبقى متحركة فوقها. فوقعت على إثر ذلك، تشققات وتصدعات قطّعت هذا السطح إلى قِطَع أعطت فجوات تُقذف منها المواد المنصهرة تحت تأثير الضغط المفرط والحرارة الهائلة، بحيث كلما تدفقت هذه المواد المنصهرة على السطح، انخفضت درجة حرارتها فتصلّبت بدورها والتحمت بقطعه ممددةً إياها في اتجاهات أفقية مختلفة، ومرسية جبالها بإلقاءاتها المتراكمة فوقه، كما نستشف ذلك من قول الله تعالى: (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ((الحجر:19).

وبذلك ارتفع سمك السطح، وتشكلت الجبال بفعل الإلقاءات المتراكمة فوقه. فتحددت في أماكن معينة من هذا السطح خطوط الصدع، مقطعة بذلك الأرض إلى قطع محاذية لبعضها تتحرك في شكل صفائح فوق صهارة لزجة. وظلت أنشطة الزلازل والبراكين مرتبطة بالحركة الناتجة عن هذه التقطعات، بحيث نجد التوزيع الحالي للقارات فوق هذا السطح، إنما نتج عن التحولات الناجمة عن تحرك الصفائح التي قد تكون بحرية أو قارية أو مزدوجة تتحرك كل منها صوب وجهة لا رجعة فيها.

إلا أن حركة هذه الصفائح لا نلمسها نظرًا لشدة بطئها؛ إذ لا تتعدى في أقصى الحالات بضع سنتمترات في السنة. ويمكن تشبيه الواحدة منها، ببساط صخري ينشأ عند حزام الصدع في مناطق الاتساع، حيث تتنافر قطع السطح وتطفو الصهارة فتلقى على جنبات الصفائح، ثم تبرد تدريجيًّا وتقسو، لتكوّن تراكمات بركانية تمد الصفيحة أفقيًّا في اتجاهات محددة بحركة الصفيحة. فإذا وصل مد الصفيحة بعد مئات الملايين من السنين إلى نقطة النهاية في الجانب المعاكس حيث التصادم مع صفيحة أخرى، انضوى طرفها تدريجيًّا تحت هذه الأخيرة (Subduction)، وتناقص بانصهاره من جديد في باطن الأرض. وهو جانب مما يحمله معنى قوله تعالى: (أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا((الأنبياء:44).

بين الوصف القرآني والكشف العلمي

إذن، فالجبال التي نصبت فوق هذه الصفائح، تتحرك مع تحرك الصفيحة التي تحملها وفق اتجاه لا رجعة فيه، الشيء الذي يحدد لها الأمام وبالتالي اليمين من الشمال. وبذلك تكون الجبال تمر في اتجاه واحد محكم بحركة الصفيحة التي تحملها كما يمر السحاب. فالسحاب ينشأ في أماكن تبخر المياه في البحار والمحيطات، ثم يساق بالرياح في اتجاه معين، إلى أن ينتهي بنزوله مطرًا كما تشير إلى ذلك الآية في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ((الأعراف:57)؛ وهي الآية التي تفيد أن السحاب يساق -أي يمر- في اتجاه واحد كما تساق مياه الأنهار بموجب عامل الانحدار انطلاقًا من منابعها التي تتركها في الخلف ومرورًا بالأراضي التي ترويها، إلى أن تنتهي في مصباتها، مصداقًا لقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ((السجدة:27). وبما أن النص القرآني يقر بأن حركة الجبال هي شبيهة بحركة السحاب، وبكون السحاب يساق في اتجاه واحد كما تساق مياه الأنهار من المنبع إلى المصب، فإن المنطق يفرض أن تكون لكل من هذه الظواهر وجهة واحدة تسير إليها، انطلاقًا من نقطة البداية التي تتركها خلفها، إلى نقطة النهاية التي تظل أمامها.

ولما كانت الجبال تمر بدورها وفق هذا التوجّه مُرسية سطح الأرض بقاعدة موتَّدة في القطعة التي تُقلها، فإن وجهتها تكون ألزمت بوجوب تحديد جانب أيمن وهو ما على يمين الاتجاه الذي تسير فيه الصفيحة التي تحمل الجبل، وجانب أيسر وهو ما على شماله، تمامًا كما للوادي ضفة يمنى وضفة يسرى، وكما للبشر يمين ويسار. فإذا كان جبل طور محمولاً على شبه جزيرة سيناء، التي هي جزء من الصفيحة الإفريقية التي تتجه نحو الجنوب على طول حزام الصدع الفاصل بينها وبين صفيحة الجزيرة العربية التي تتحرك نحو الشمال، فإن الجانب الغربي للجبل المنصوص عليه في سورة القصص: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ)، والمقابل لأرض مصر، يكون وافق جانب الطور الأيمن.

أوجه الشبه بين حركتي الجبال والسحاب

من خلال هذا التحليل، وبوقوفنا على تحليل مواصفات كل من الجبال والسحاب، نجد أن الجبال في الأرض يقابلها السحاب في السماء. وعليه فقد يتصور المتأمل لهذا التشبيه -الذي جاء به كتاب الله- أن المقصود بمر الجبال وهي الثابتة على الأرض؛ دورانها معها، كما نرى السحاب من الأرض يمر في جو السماء، وهذا وارد. إلا أن المعاينة الدقيقة لهذه المقابلة، تفرز عن أوجه خفية ومعقدة للشبه تتعدد بتعدد القواسم المشتركة بين السحاب والجبال. فإذا كان السحاب هو كتل هوائية من الغلاف الغازي للأرض، محمولة في شكل قطع تحركها تيارات الرياح الناتجة عن الفارق في الضغط والكثافة بين مستويات جو الأرض الغازية، فإن الجبال هي أيضًا كتل من الغلاف الصخري للأرض، محمولة على قطعه المتجاورات التي تحركها تيارات الحمل الحراري الناتجة عن فارق الضغط والكثافة بين مستويات باطن الأرض النارية.

هذا عن الشكل، أما عن الحركة؛ فكما أن السحاب يبدأ سيره بحركة عمودية ناتجة عن تبخر مياه سطح الأرض التي تصعد في شكل كتل هوائية دافئة إلى الأجواء الباردة، ثم تتحرك أفقيًّا بعد تضاؤل كثافتها إلى أن تصل رطوبتها إلى درجة التشبع فتنتهي بنزولها مطرًا، كذلك الجبال تبدأ نشأتها من حركة عمودية ناتجة عن مور باطن الأرض الذي يصعّد الصهارة المحركة لقطع السطح، فينجم عن ذلك إما التواء طبقات القشرة الأرضية تحت وقع الضغوط الجانبية وارتفاع جزءها الأعلى وتلك هي الجبال البنيوية، وإما تدفق الصهارة التي تقسو على السطح بعد تبردها وتشكل نتوءات مرتفعة وهي الجبال البركانية. ثم تتحرك كل من هذه الجبال أفقيًّا مع حركة الصفائح التي تقلها، إلى أن تنتهي بعد مئات الملايين من السنين بالانضواء والانصهار في باطن الأرض، أو بالتعرية على سطحها.

وعليه، فإن العناصر الأساسية في تحريك كل من السحاب والجبال، تكاد تكون مطابقة لبعضها. فجاءت الآية الكريمة على إثر ذلك، مشبهة حركة الجبال بمر السحاب وليس بمروره لبيان القصد من المعنى، لأن المر، هو سير لمرة واحدة في اتجاه واحد صوب وجهة لا رجعة فيها، أما المرور، فقد يكون لعدة مرات وفي اتجاهات مختلفة. فكان المقصود -والله أعلم- بذلك التشبيه، إرجاع أبصارنا إلى تلك الحركة التي يبديها لنا السحاب بين نشوئه ونهايته، لعلنا إذا استوعبناها ببصائرنا، وجدناها دالة بالحس والمعنى على حقيقة حركة الجبال؛ تلك الحركة الحثيثة التي لا تلمس إلا بقياسات جيوفيزيائية دقيقة، نظرًا لعظمة بنيان الجبال وطول أعمارها وبطء حركتها، مقابل محدودية أبصارنا وقصر أعمارنا وسرعة حركتنا، فنحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب.

وبذلك يتضح لنا أن مفهوم جانب الطور الأيمن المنصوص عليه في القرآن الكريم، يعني الجانب الأيمن للجبل. وهذا تلميح علمي إلى حقيقة حركة الجبال، يتناسب مع تطور الفهم وتقدم المعرفة؛ بحيث وإن لم نقصد من خلال هذه الإشارات الوقوف على هذه الحقيقة، إلا أن قراءتنا لها بمعطيات علم هذا الزمان، جعلنا ندرك من سياقها هذا العمق المعنوي الذي يعطي دليلاً ملموسًا على تحرك الجبال وفق اتجاهات قطع السطح التي تقلها، كما يتحرك السحاب وفق اتجاه الرياح التي تسوقه. وهي الحقيقة التي لم يتنبه الإنسان إليها إلا بعد اكتشاف نظرية الصفائح التكتونية (Plate Tectonics) من قبل العالم الألماني “Alfred Wegner” سنة 1910م، والتي اكتسبت مصداقيتها بعد سنة 1960م، حيث مكنت كبريات الرحلات الاستكشافية لأعماق البحار، من توضيح المفاهيم حول كيفية تحرك قطع السطح. فوضعت بذلك الخريطة البنيوية لسطح الأرض، وسطرت عليها الاتجاهات التي تتحرك فيها كل قطعة من قطعه. فجاء ذلك شاهدًا على البُعد العلمي للقرآن الذي يريد من خلال تلك الإشارات المركّزة، استنهاض همة البحث لتقويم فكر الإنسان على درب الاستقامة الكونية.

(*) كلية العلوم، جامعة ابن طفيل / المغرب.

الهامش

(1)             أسئلة العصر المحيرة، لمحمد فتح الله كولن، القاهرة، دار النيل للطباعة والنشر، ص:79.