النظام القرآني للحضارة، نظام لمّا يُكتشف بعدُ

ظلَّ العالِم الفلكيُّ “يوهانز كبلر” خمسًا وعشرين عامًا يبحث عن العلاقة بين فترات دوران الكواكب وبين أبعادها عن الشمس، وقد قضى نفس المدة تقريبًا في إتمام “الجداول الرودلفية” التي شرع فيها قبله العالِم “تايكو براهي”، والتي مكَّنته -بعد إنهائها- من وصف ألف سنة من حركة الكواكب قبل هذا الاكتشاف، ومن توقع ألف سنة مستقبلية من الظواهر الطبيعية بدقة عالية تجاوزت ما أنجِز قبله من جداول فلكية بعشرات المرات.
أردتُ من خلال هذه المقالة التي كتبتُها غداة مطالعتي لكتاب من تأليف “جيمس فويلكل” بعنوان “يوهانز كبلر: وعلم الفلك الجديد”، وبعد دقائق من الانتهاء من مطالعة “شروط النهضة” لمالك بن نبي، في إطار إعداد ما أسميه “أطلس الأفكار”… أردتُ أن أشير إلى ملامح منهجية حضارية، لها دلالتها في “عالَم الأفكار”، ولم أشأ أن أبين مدى الجهود التي بذلها “كبلر” في تطوير علم الفلك، إذ ليس ذلك من اختصاصي ولا يندرج ضمن اهتماماتي.
• أما الملمح الأول فهو “الصبر على البحث العلمي”؛ فخمس وعشرون سنة يشغرها رجل في “الرصد الفلكي” وفي “متابعة الجداول وتدقيق الحسابات” ليست بالأمر الهين، وإني لأسأل اليوم: هل من علماء مسلمين صبورين في مراقبة حال الأمة وحركيتها، ومدى قربِها وبعدها من منهج القرآن الكريم، ومن الفكر الإسلامي النير؟
وهل من علماء مسلمين يقيسون بحكمة وشمولية وضع الأمة الإسلامية، بعيدًا عن الطرح “التجزيئي-الذَّري الاختزالي”، فيصفون لنا سبيل النجاة، ويبلغوننا برَّ الأمان بعلمية وفعالية، لا نظريًّا بالاقتصار على الطرح النصي الجاف فقط؟
• أما الملمح الثاني فهو أنَّ القرآن الكريم يستلزم منا -على الأقل- نفس الجهد الذي بذله الغرب -ومن قبله المسلمون في قمة تألقهم- لاستكشاف الكون عبر القرون، سواء في مستوى عدد العلماء، أو عدد ساعات البحث، أو جودة المناهج وتكامل النظريات، أو شبكة العلاقات البحثية بين العلماء من مختلف البلاد الغربية، أو في مستوى الوسائل المخبرية، أو التمويل السخي من قبل الحكام والسياسيين، أو الحرية والأريحية التي تُمنح للباحث من قِبل بيئته ومحيطه.
وإنا لندرك أنَّ هذا المقام الحضاري لا يتأتى دون تضحيات جسام يسخو بها العالِم وطالب العلم، ثم السياسي وصاحب الثروة بالتبع… وإلا دخلنا في مشكلة الدَّوْر الذي لا يقدم في سلم الحضارة شيئًا، بل يؤخر.

 نظام قرآني متكامل

ثم إنني في الملمح الثالث تأملت آيات القرآن الكريم طويلا وتفكَّرت فيها، وأعتقد اليوم أنَّ “نظامًا” دلاليًّا، وصوتيًّا، واجتماعيًّا، ونفسيًّا، وفكريًّا، وحضاريًّا… يحكم هذا الكتاب الكريم، ومن خلاله يحكم واقع البشرية في كل حين. وأجزم أنَّ البشرية -إلى اليوم- لم تكتشف هذا النظام ولم تلمس أسراره وإن أحست آثاره، باستثناء ما كان من رسول الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمدرسة التي أسسها وسهر عليها من صحابته وخلفائه والطاهرين من الرعيل الأول، غير أن الأمة أضاعت معالم هذا النظام حين ابتعدت عن مبادئ هذه المدرسة، فاختفت أنوار هذا النظام بفعل “السياسة”، وبسبب “الحنين إلى البداوة”، وجراء “تكديس أشياء الحضارة” في العهد الأموي ثم العباسي وما والاهما.
وعلينا اليوم -إذا أردنا العودة إلى مقدمة البشرية- أن نعيد اكتشاف هذا النظام من جديد، لكن يستحيل ذلك بجهود فردية، أحادية، زعامية، ادعائية، مبتَسرَة… يقول “مالك بن نبي” عن هذا المنحى الأحادي المشؤوم: “وهكذا ننتقل من وهم لنتخبط في وهم، ولا ندري كم من السنين سوف نقضيها لندرك عجز الأشياء الوحيدة عن حل المشكلات… إنما لا يجوز لنا أن يظل سيرنا نحو الحضارة فوضويًّا يستغله الرجل الواحد أو يضلِّله الشيء الواحد، بل ليكن سيرنا علميًّا عقليًّا حتى نرى أنَّ الحضارة ليست أجزاء مبعثرة ملفَّقة، ولا مظاهر خلابة وليست الشيءَ الوحيد، بل هي جوهرٌ ينتظم جميع أشيائها وأفكارها وأرواحها ومظاهرها، وقطبٌ يتجه نحوه تاريخ الإنسانية”.

نحو منهج قرآني للتاريخ والمستقبل

والملمح الرابع ينبِّهنا إلى أنَّ الأوان قد حان ليكون لنا “علم وفلسفة للتاريخ”، أو علم جديد ليس له اسم بعدُ؛ يحلّل ما مضى من إنجازاتنا الحضارية، ويلج إلى خفايا معابد العلماء وزوايا الصناعيين وإبداعات الفلاحين، ويعالج نظام الحسبة والأوقاف والعسكر… كما يدرس إخفاقاتنا السياسية ويرصد الحماقات والسقطات، متخذًا في ذلك ميزانًا واحدًا هو ميزان القسط والعدل، مبتعدًا أوان ذلك ما استطاع عن تأثير العصبية والانتماء، وقاصدًا من وراء ذلك هدفًا واحدًا هو معرفة الحق لتمثله، وإدراك الباطل لتفاديه.
والعيب كل العيب في علومنا اليوم، أنها تترعرع في جزر متباعدة، فلا التاريخ يلتقي بالشريعة، ولا الفكر يلتحم مع علوم الطبيعة، ولا علم النفس يخدم مناهج الدعوة… إلا ما يكون مبادرات ومؤلفات لا ترقى إلى درجة المنحى المعرفي العام.
فإن نوفَّق اليوم في إنتاج مثل هذا التاريخ المتكامل الجوانب والتخصصات، في شكل موسوعات تحليلية جماعية ذات أبعاد إسلامية إنسانية شمولية، نكن -بلا شك- قد خطونا الخطوة الصحيحة الأولى نحو “المنهج القرآني” للتاريخ، وخطوة أخرى نحو التصحيح الحضاري وبناء المستقبل.
• والتوجه وجهة المستقبل هو الملمح الخامس، فإنَّ التاريخ سنن لا تتبدل ولا تتغير، ونتائج لمقدمات لا تغيب ولا تتخلف، والمستقبل يصبح ممكن التصور والرصد، تمامًا مثل رصد الأحوال الجوية بناء على مقدمات ومشاهدات آنية، ويشبه ذلك عملية إدراك تكسر الإناء بعد لحظات من إلقائه من علٍ إذا كان من زجاج… فديدن السحب أن تمطر في ظروف الإمكان، وقانون الزجاج أن يتكسر بالصدمات، ومن سنة التاريخ أن النهايات تأتي ظلا لمؤشراتها، والخواتم تتبع مقدماتها.
ولا ينبغي أن يستهوينا الشاذُّ فنقيس عليه، بل علينا أن نعتبره -بعد حفظه- مثبِّتًا للقاعدة. فإذا أردنا مستقبلاً يمكَّن فيه لديننا، فعلينا أن نزرع أسباب الحضارة والتمكين بهدوء وتُؤَدَةٍ ووعي، وذلك بإعداد رؤى مستقبلية ذات صبغة عالمية، وبإنجاز مخططات واقعية جريئة ذات صفة شمولية.
فكما أن “الجداول الرودلفية” تمكننا من توقع قد يصل إلى ألف سنة، وكما أن الجداول الفلكية في عصرنا تستشرف حسابات دقيقة لملايين السنين في المستقبل، فإن بالإمكان بناء جداول تتخذ من القرآن منطلقها، ومن النفس والتاريخ والحضارة والطبيعة البشرية ومخططات الحضارات وسائلها، لتدلنا على مستقبل يقدَّر بعشرات السنين، بنسبة من الخطأ صغيرة غير معتبرة.

المطلوب “إعادة قراءة” القرآن

و”النظام القرآني” فنٌّ يجب أن يُلتفت إليه في ميزان الفهم والإدراك الحضاري، فقول الله تعالى لعيسى عليه السلام: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾(آل عمران:55) حق لا ريب فيه، لكن ينبغي أن نفهم مكوناته وأجزاءه: فما معنى “الجعل”؟ ومَن هُم “أتباع عيسى “؟ وما دلالة “الكفر”؟ وما شكل “الفوقيّة”؟ وكيف نطبق الآية على مسار التاريخ والأنفس والحضارات؟ وهذا هو السؤال الأهم. هذا هو المنهج الأمثل لصناعة التوقع والتخطيط المستقبلي لأمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي لنا أن نتوقف عند نقطة الفهم اللغوي، ثم نترك الدرس الحضاري بين يدي أناس لا يفقهون من كلام الله شيئًا.
وملخص هذه الأطروحة دعوة إلى الصبر في البحث العلمي، ونداء إلى إعادة قراءة القرآن الكريم (الكتاب المسطور) بنفس الجهد الذي بذله الغرب -ومن قبله المسلمون- في قراءة الكون (الكتاب المنظور). والقصد من هذه القراءة هو اكتشاف “النظام القرآني” الذي غاب عن الأمة، وكرست غيابَه السياسة الجائرة ولا تزال، وإنها في ذلك لمن المتفوقين. ثم إني أذكِّر بضرورة الاجتهاد في تحليل تاريخ الأمة بشمولية وروح إسلامية إنسانية عالمية، وبوجوب التوجه وجهة الدراسات المستقبلية، والتخطيط الحضاري الواعي، من منطلق قرآني يعتمد السنن والرؤى الكونية الكلية الحضارية.
ولعل الوسيلة -في تقديري- تكمن في العودة إلى آلية “المطياف القرآني” التي طرحتُها منذ أزيد من عشر سنوات، ولم تلق الاهتمام المرجو إما لأنني لم أحسن عرضها، أو لأنها كانت في غير زمانها وفي غير مكانها. والأهم أولاً وآخرًا هو إرساء قواعد ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، بكل مقايس الخيرية.