المنمنمات العثمانية.. تراث إسلامي مشترك

لقد أعقب فتح القسطنطينية وتحويلها إلى عاصمة الدولة، طفرة في تطور كل الفنون الجميلة ومن بينها فن المنمنمات. فقد بسط الفاتح جناحي رعايته لكل فروع الفكر والأدب والفن، واستدعى إلى قصره كبار العلماء والشعراء والفنانين ليس من الشرق فقط، بل ومن إيطاليا أيضًا، بل وصل الأمر بالسلطان محمد الفاتح أن افتتح في قصره الجديد “نَقِشْخانَه” (أي بيتًا للرسم)، واستدعى له “بابانقاش” الأوزبكي الأصل. وفي هذه الورشة أي المرسَم، أمر السلطان بنسخ المخطوطات النادرة لحساب مكتبته. وكان يجزل العطاء للمذهبين الذين يقومون بتذهيب هذه المخطوطات بنفس درجة السخاء التي كان يتعامل بها مع النسّاخ والمجلدين والخطاطين والمترجمين… وقد أبدع هؤلاء النُقّاش في رسوماتهم المنياتورية المنمنمة في هذه المخطوطات التي بدأت تظهر وترى النور، وتتناولها أيدي الباحثين والمهتمين.

لن نجافي الحقيقة لو قلنا إن السلطان محمد الفاتح قد افتتح عمليًّا في قصره الجديد ما يمكن أن نطلق عليه بلغة اليوم “أكاديمية للفنون والعلوم والترجمة”. فقوائم الكتب التي بدأت تظهر، تُقدم لكل مهتم الجديدَ كل يوم في هذا المضمار.

تسجل كتب التاريخ أن السلطان محمد الفاتح قد عيَّن رسامًا يدعى “سنان بك” كرئيس للنقَّاشين في قصره, كما يقال إن سنان بك هذا، قد درس فن الرسم في البندقية، وما زالت خزائن متحف قصر طوب قابي بإسطنبول، يحتوي على بورتريه للسلطان محمد الفاتح من أعمال هذا الفنان. بالإضافة إلى ذلك فقد دعى السلطان محمد الفاتح، الرسام الإيطالي “بلّليني” (Bellini) إلى إسطنبول للعيش في كنفه سنة (1480م)، حيث رسم له صورًا وصمم له ميدالياته ونياشينه التي كان يقدمها لكبار الزوار والمبدعين في كل ميادين العلوم والفنون.

ومن بين محتويات دائرة الخزينة في قصر طوب قابي، هناك ألبوم للصور المنياتورية يسمى “ألبوم الفاتح”، وتحمل بعض هذه الرسوم توقيعًا بالقلم الأسود لـ”يعقوب بك الآق قُويُنْلُو”، فضلاً عن وجود رسوم للآخرين.

إن التطور الذي بدأ مع السلطان محمد الفاتح في المنياتور في العصر العثماني، قد وصل إلى نضجه الكامل في عهد السلطان سليمان القانوني (1520-1566م).

ومن الثابت أن معظم بلدان العالم الإسلامي -في غالبيتها العظمى- قد خضعت للنفوذ العثماني في عصري السلطان سليم الأول (1512-1520م) والسلطان سليمان القانوني، وامتدت حدود الدولة في العالم الإسلامي إلى تلمسان غربًا وإلى تبريز وإيران وتفليس شرقًا. وقد شهد العالم الإسلامي امتزاجًا وانصهارًا بين أقوامه وأجناسه في هذه الفترة، بحيث يصعب أن نجد له مثيلاً في أي عصر آخر.

وكما أن عهد “القانوني” كان بمثابة العصر الذهبي في كل نواحي الحياة في البلاد العثمانية، فإن فن المنمنمات هو الآخر قد تطور وازدهر في هذا العصر ازدهارًا ملموسًا، ونشأ في كنفه العديد من المبدعين؛ أمثال “قينجي محمود” و”إبراهيم شلبي” و”نيكارى” و”حيدر رئيس” و”النقاش عثمان” و”محمد بك” و”كفلي محمد شلبي”… وهؤلاء جميعًا كانوا من الأساتذة والرواد الكبار في الفن.

أسماء لامعة وأعمال خالدة

ومن أكبر الأسماء التي لمعت في هذا الفن خلال القرن السابع عشر؛ النقّاش أحمد مصطفى، أما الذي لوّن القرن الثامن عشر بزخارفه رسوماته فهو “لوني” (عبد الجليل شلبي الأدِرْنَوي). وقد عُيّن “لوني” رئيسًا لفناني السراي العثماني في عصر أحمد الثالث (1703-1730م)، وأعماله تستحق الإعجاب والتقدير، حيث قام برسم (137) لوحة منمنمات زيَّن بها “ديوان” الشاعر “وهبي” الذي نظمه بمناسبة حفلة الختان للأمير سليمان نجل السلطان أحمد الثالث. ولقد خط “لوني” لنفسه مدرسة خاصة به في فن المنياتور العثماني، وظل هو أستاذها الأمثل.

إن أهم الموضوعات التي تطرق إليها فن المنمنمات العثماني؛ “الشبيه” (البورتريهات) أيْ الصور الشخصية، والموضوعات التاريخية، وحياة السراي، والحروب التي خاضتها الدولة، وحصار السلاطين لمواقع الأعداء وقلاعهم… وأهم الخصائص التي تميز بها فن الرسم المنياتوري في العصر العثماني، إتقانه لرسم الموضوعات التي توضح المعارك التاريخية، وتزيين الكتب التي تقدم إلى السلاطين. كما أن “السورنامه”؛ أي كتب الاحتفالات والمهرجانات والمواكب واستعراض الجيش والأسطول، والـ”هُنَرْنامه”؛ أي كتب الحرف والمهن ومهارات الحرفيين، كانت من أهم الميادين التي أبدع فيها الفنانون العثمانيون حتى القرن السابع عشر الميلادي. ويُعتبر “لوني” الذي نشأ وتربى في القرن الثامن عشر، هو أول مَن غيّر النمط التقليدي الكلاسيكي للمنمنمات العثمانية.

وإذا كان فن رسم المنمنمات العثمانية قد خط لنفسه أسلوبًا خاصًّا به في الرسم والتلوين والتكوينات الفنية، إلا أنه أعطى أهمية عظمى للأسلوب؛ فلم يلتفت للأبعاد الثلاثة كما كان متبعًا، بل جعل الشخوص تصطف فوق بعضها البعض، ويدلل الفنان بالحجم على عظمة الشخصية المقصودة.

إن تصغير رسم الشخوص في خلفية الصورة لم يقلل بأي شكل من الأشكال من جمال اللون ودقة الخطوط. وبدلاً من فوران الرومانسية وسيطرتها على موضوع الصورة والطبيعة التي تحيط بالموضوع، فقد سادت الخطوط البسيطة والمريحة والمرحة في نفس الوقت. ولقد أشاع اللون البرّاق نوعًا من الرونق والبهجة على اللوحة، وحلَّت الألوان الأحمر والأزرق والأخضر والمور والأصفر والبرتقالي والبَمْبَه والبني في منمنمات العصر العثماني محل اللون الأحمر الكراميدي لرسومات الجدران في أواسط آسيا.

مرآة العصر العثماني

إن المنمنمات هي في العادة ترجمة حيّة ومتحركة للتاريخ والشعر والحكايات، قد تكون أشبه بفن السينما في عصرنا الحالي. فمجرد إمعان النظر في إحدى المنمنمات، يجعلنا نستحضر أمام أعيننا حياةَ المجتمع الذي عاش فيه الفنان الذي أبدعها، وفلسفاته الحياتية ونظام أخلاقياته وأعراف وعادات ذلك العصر. كما تجسد لنا ملبوساته وأفراحه ومباهجه، وتضع أحداثه التاريخية حيّة ومتحركة أمام أعيننا. فقد بيَّن الفنان في “بيان منازل سفر عراقين” المواقع المتعددة التي توقفت بها قوات السلطان سليمان القانوني عند توجهه لفتح العراق وفارس في عامي (1534-1535م). والصور تبيّن هذه المراحل على امتداد المسافة بين إسطنبول وتبريز ثم العودة عن طريق العراق، وجاء ذلك في 128 منمنمة. كما نجد في هذا العمل صورًا لعدد من المدن الكبيرة بالأوصاف التي كانت عليها تلك المدن، وجاء ذلك كله بمهارة فائقة. كذلك صورت الأماكن التي توقفت بها الحملة أو مرت عليها، وتم هذا خلال خطوط بسيطة وبحيوية ظاهرة تجلى في أسوار المدن والقلاع. هذا إلى جانب رسم الجبال والأشجار والحيوانات؛ ومنها الأرانب والغزلان والأيائل وأنواع البط، وكلها بألوان زاهية تنم عن حب غامر للطبيعة.

ويضم كتاب تاريخ السلطان “بايزيد” عشرة منمنمات تحكي قصة الصراع بين “بايزيد الثاني” و”جَمْ سلطان”. إنها تحوي عددًا من الموانئ إلى جانب الحصون والقلاع بطريقة دقيقة ومنظمة، بينما تحوي “سليمان نامه” على 32 منمنمة تصور هي الأخرى مدنًا وقلاعًا وموانيًا تتصل كلها بحملات السلطان سليمان القانوني على بلاد المجر عام (1543م)، وكذا غارات “خير الدين بربروس باشا” في البحر المتوسط.

ولم يمنع هذا من تصوير الكثير من أنواع الأشجار والأزهار والجبال والتلال وشتى أنواع التضاريس الطبوغرافية. وهناك شبه، بل يمكن القول إنها متطابقة مع ما ورد في منازل سفر عراقين. وهناك عمل عظيم الأهمية، ثنائي أو مثنوي المقاطع، مكتوب بالفارسية على يد الخطاط الأذربيجاني “علي بن أمير بك الشرواني”، وتضم المخطوطة 69 منمنمة، وتصور أحداثًا مختلفة في عصر سليمان القانوني؛ حيث تبدو فيها أبهة حفلات الاستقبال ببلاطه، وخروجه للصيد، ومعاركه وانتصاراته… وجاءت المنمنمات كلها رائعة، سواء تلك التي رسمها الفنانون المحليّون بأساليبهم المختلفة، أو تلك التي رسمها الفنانون الأجانب. وامتزجت في هذا العمل المؤثرات الشرقية بالمؤثرات الغربية، وظهر أسلوب وطراز يفيض بالحيوية وينطق بالواقعية. وتعطينا المناظر المتنوعة التي جمعت بين ترك وفرس وعرب ومجر… الكثيرَ من الملاحظات والمعلومات عن أنواع الملابس والأسلحة؛ فأشكال الدروع ومختلف الأسلحة والأعلام والملابس… كلها قد رسمت بدقة فائقة وواقعية تُظهر هيئة الفرسان الثقيلة التسليح، وما هناك من فوارق بينها وبين رجال الخيَّالة وحركتهم الخفيفة السريعة.

أما كتاب “هُنَرْنامه”؛ أي المهارات والحرف -وهو من رسومات الفنان “لقمان”- فيغطي الجزء الأول منه، حياة ومعارك السلاطين من عثمان غازي إلى سليم الأول، وبه 45 منمنمة، كما خُصصت منمنمات الجزء الثاني كلها للسلطان سليمان القانوني، وعددها 95 منمنمة. ومن الأعمال الأخرى الهامة والتي سبق الإشارة إليها “السُورْنامه”، تضم 437 منمنمة، وتصور احتفالات السلطان مراد الثالث بختان ولده شاه زاده.

وتمتاز صور هذه المرحلة بتوزيعات واضحة؛ حيث تنقسم الصورة إلى ساحات منفصلة، ومجموعات متجانسة، وصور لآدميين موزعة على جوانب اللوحات تاركة المجال للمنظر الطبيعي الخَلَوي، ولكنها تنم عن أن المنظر الخَلَوي وحركات الفرسان والحيوانات قد درست دراسة دقيقة ومتأنية.

ومن صور “السُورْنامه” التي تتناول المهارات والحرف، نتعرف على مجموعاتٍ تناولها الفنان في تكوينات مستقلة، وعالج كل واحد من هذه التجمعات بأعلى درجات المهارة، وبالتالي أظهرت هذه الصور دقة وانضباطًا كبيرين لحياة وأعمال صناع وحرفيّي هذا العصر.

ومن منمنمات الصفحات المتقابلة، نجد صورًا للمهرجانات التي كانت تُقيمها نقابات الحرفيين لإظهار مهاراتهم… ومنها نتعرف على الولائم وحفلات المرح والترفيه التي كانت تستمر ما يزيد عن أربعين يومًا في “آت ميداني”؛ أي منطقة مضمار سباق الخيل… وظهرت في خلفية الصور قصر إبراهيم باشا مع مقاصير السلطان وعلية القوم.المهم أننا نتعرف من هذه الصور على طبقات المجتمع وحياة الناس في إسطنبول، وأحوال التجار والصنّاع، وأنواع المهن السائدة… كما تبيّن هذه الصور ملابس العصر، وأدوات الصناعات السائدة. فمشاهدة هذه الصور إلى جانب أنها تبعث في المشاهد المرح والبهجة اللذين تُشيعهما تلك الاحتفالات، فإنها تجعله يستعير صورًا من أحاسيس الناس ومشاعرهم في تلك المرحلة، وتعطيه معلومات وافية عن شتى مناحي العصر الذي يشاهده.

مرحلة النضج الفني

والصور التي ظهرت في عصر زهرة “اللاله” والتي أبدعها المصور “لونى” في “سرنامه وهبي”، أحسن وثيقة لذلك العصر؛ إذ إنها تمثل مميزات التصوير في تلك الفترة أصدق تمثيل، فهي تمتاز من حيث الموضوع بالدقة والحرص على النِّسب والأشكال، وخلفية الصور كانت بسيطة وغير مزدحمة بالتفاصيل، مما أعطى الفنان فرصة إظهار الرسوم الآدمية والتمييز بينها، كما مكّنه من وضعها في موضع مناسب للموضوع ولمركز الشخصية.

كذلك حرص المصور العثماني على إظهار الأبعاد الثلاثة للرسوم الآدمية عن طريق الظل وطريقة معالجة المنسوجات والملابس، مما يدل على أن فنان ذلك العصر كان على علم ودراية واسعة بالفنون والتأثيرات، سواء أكانت شرقية أم غربية، مع محافظته التامة على التقاليد والأصول والأساليب القديمة.

كذلك استمرت الصور الشخصية في التصوير العثماني دون انقطاع ولم تكن قاصرة على السلاطين وعلية القوم، بل امتدت حتى شملت عامة الناس والحرفيين وأرباب الفنون وجنود الإنكشارية، وكذا السفراء الأجانب.

ويمكن اختصار القول بأن عصر “اللاله” في تاريخ الفن المنياتوري العثماني، يعبّر عن مرحلة نضوج تام لشخصية التصوير العثماني جمعت بين الفهم الكامل للتأثيرات والتيارات الغربية المعاصرة مع الإبقاء والحفاظ على الشخصية والهوية العثمانية التراثية الأصيلة.

وتوجد أروع النماذج الفنية التي تعبّر عن فن المنياتور العثماني المشترك في متحف “طوب قابي” بمدينة إسطنبول، ومكتبة جامعة إسطنبول، والمكتبة القومية بها، إلى جانب مكتبة المتحف البريطاني في لندن، والمكتبة القومية في باريس، وكذا المكتبات العامة في برلين وفينا ومعظم دول أوربا وأمريكا… والذي يُقلّب صفحات فهارس المخطوطات وما بها من صور نمنمية، يرى مدى الثراء الإسلامي في هذا الصدد.

ويكفي أن نعرف أن هناك 13.533 لوحة منياتورية داخل الكتب والمخطوطات والألبومات الموجودة في متحف “طوب قابي” وحده، وأن هذه الكتب والمخطوطات والألبومات تبلغ 451 مجلدًا تعود إلى الفترة المحصورة فيما بين القرن الثاني عشر والثامن عشر فقط. إذا ما عرفنا ذلك وفهمناه وأدركنا مغزاه، عرفنا أهمية الثروة والكنوز التي يمتلكها العالم الإسلامي، كتراث مشترك يصعب على كل الدسائس أن تنسبه إلى قوم دون آخر من الشعوب الإسلامية بقصد الوقيعة وإبعاد بعضها عن بعض.