المجريطي بين الكيمياء وعلم الفلك

يُعتبر أبو القاسم المجريطي (338هـ/950م) من نوابغ علماء العرب والمسلمين في الأندلس، إذ كان موسوعة زمانه في جميع فروع المعرفة، يقول ديفيد يوجين سميث في كتابه “تاريخ الرياضيات”: “إن أبَا القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي كان مُغرَمًا بالأعداد المتحابَّة، ومشهورًا بتفوقه على غيره من علماء العرب والمسلمين في الأندلس في علمَي الفلك والهندسة”. ويضيف سيد حسين نصر في كتابه “العلوم والحضارة في الإسلام”: “عُرِفَ المجريطي عند الأوربيين بأنه أوَّل من علَّق على الخريطة الفلكية لبطليموس ورسائل إخوان الصفا والجداول الفلكية لمحمد بن موسى الخوارزمي من علماء العرب والمسلمين في الأندلس. كان له شهرة عظيمة في الرياضيات والفلك، إضافة إلى ما ناله من احترام وتقدير لمجهوداته الجيدة في علم الكيمياء”.
وقد عُرِفَ المجريطي بهذا الاسم لأنه وُلِدَ في مجريط (مدريد عاصمة إسبانيا اليوم) وإليها يُنسَب. وانتقل إلى قرطبة حيث عاش وتُوُفِّيَ هناك في أوج ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في بلاد الأندلس.

ولقد اعتمد المجريطي في بحوثه الكيميائية على التجربة المخبرية، والملاحظة للتفاعلات الكيميائية، وما تنتجه من صور وتفاعلات كيميائية جديدة. كذلك انتبه المجريطي منذ وقت مبكِّر إلى قاعدة كيميائية أصيلة هي قاعدة “بقاء المادَّة”، وهي التي لم ينتبه إليها أحد من الكيميائيين قبله، ولم ينتبه إليها أحد بعده إلا بعد أكثر من سبعة قرون، حين انتبه إليها العالمان بريستلي الإنجليزي ولافوازييه الفرنسي، وطوَّراها، وتُعَدُّ قاعدة بقاء المادَّة من أُسُس الكيمياء الحديثة.

وقد دعا المجريطي -ربما لأول مرة- إلى ضرورة اشتغال من يريد دراسة علم الكيمياء بدراسة العلوم الرياضية أولاً وتفهُّم أصولها، ليس لهذا فحسب تَعَمَّق المجريطي في العلوم الرياضية والهندسية، بل لإحساسه بأهمية الدقة والضبط التي تتصف بها العلوم الرياضية، والتي يمكن أن تمتدَّ إلى بقية العلوم الطبيعية المشتبهة بها أو المرتبطة بها، كأنه كان يتنبأ بأهمية استخدام العلوم الطبيعية خصوصًا الفلك والكيمياء بالمنهج الرياضي الكَمِّي الذي سوف تتبناه العلوم الطبيعية في العصر الحديث للتعبير عن ظواهرها وحقائقها بأساليب ورموز كمِّية رياضية بدلاً من الألفاظ والمصطلحات الكيفية والذاتية التي كانت تستخدمها قديمًا تلك العلوم.

ولا يمكن أن نُغفِل اهتمام المجريطي أيضًا بعلم الحيل أو الميكانيكا، وبالتاريخ الطبيعي، وقد اهتمّ بأثر النشأة والبيئة على تكوين ونموّ الكائنات الحية، وأيضًا بتاريخ تطور الحضارات البشرية. وقد نقَّح المجريطي زيج “السند هند” للخوارزمي في قرطبة نحو عام 390هـ/1000م، وقد ترجم من بعده أديلارد الباثيّ هذا الزيج المنقَّح إلى اللاتينية، مِمَّا ساعد على تطوُّر علم الفلك في بداية النهضة الأوربية.

المجريطي بين الرياضيات والفلك

لم يبرع المجريطي في علوم الرياضيات فحسب، بل برزت موهبته العلمية أيضًا في علم الفلك، وقد كان هذا العلم من العلوم الرياضية قديمًا، لذلك وجدنا المجريطي لا يكتفي بتحرير زيج الخوارزمي بل إنه يغيِّر تاريخه الفارسي إلى التاريخ الهجري، الذي يأخذ به العرب والمسلمون، ويختصر جداول البتاني الفلكية وينقلها مع كثير من العلوم التي يأخذها من المشرق العربي إلى بلاد الأندلس، حيث بقِيَت من أهَمِّ مصادر المعرفة هناك، وحيث وُجدَت لها مسارب ومنافذ عبَرَها إلى أوروبا عصر النهضة بعد أن تُرجمت إلى اللغة اللاتينية. لذلك نجد رسالته عن الإسطرلاب يترجمها جون هبالينيس إلى اللاتينية، وكذلك تعليقه على إنتاج بطليموس، يترجمه رودلف أوف برجس إلى اللاتينية، إضافة إلى كتاب “الحساب التجاري”.

ويذكر نفيس أحمد في كتاب “الفكر الجغرافي في التُّراث الإسلامي” أن المجريطي اختصر جداول البتاني الفلكية، فصار هذا المختصَر مرجعًا لعلماء الفلك، إضافة إلى كتبه في ثمار علم العدد، وتعديل الكواكب، والعمل على الإسطرلاب.

وعندما درس المجريطي إنتاج علماء اليونان في حقل الرياضيات، وجد نفسه مُلزَمًا بالتعليق عليها، ثم التأليف في هذا المجال الجديد على العرب والمسلمين، فكان بهذا من علماء العرب الذين طوَّروا نظريات الأعداد وهندسة إقليدس التي سادت العصر القديم زمنًا طويلاً. ثم كتب كُتُبًا في الحساب التجاري، الذي صار متداولاً في جميع أنحاء العالم. لذلك يذكر القاضي صاعد الأندلسي في كتابه “طبقات الأمم”، أن أبا القاسم المجريطي صنَّف كتابًا رائعًا يبحث في الحساب التجاري، المعروف آنذاك بحساب المعاملات، وبقيَت نظريات المجريطي في الرياضيات تُدَرَّس في جميع جامعات الغرب والشرق على السواء.

مدرسة المجريطي ومؤلَّفاته

كانت مدرسة المجريطي في قرطبة عبارة عن معهد علمي يضمُّ العلوم البحتة والتطبيقية (على غرار الجامعات التكنولوجية والمعاهد الحديثة)، وقد أنجب تلاميذ كثيرين، أنشأ بعضهم مدارس علمية في جميع أطراف العالم الإسلامي، خصوصًا بلاد المغرب والأندلس. ومن أشهر هؤلاء التلاميذ أبو القاسم الغرناطي (ت1035م)، وأبو بكر الكرماني (ت1066م)، وابن السمح، والزهراوي، وابن خلدون… وقد استقى الأخير من كتابَيه “رتبة الحكيم” و”غاية الحكيم” بعض مادة مقدمته الشهيرة، التي اعتُبر بها ابن خلدون مؤسِّسًا لعلم الاجتماع، ومصنّفًا لمختلف العلوم الإسلامية والإنسانية.

ولقد عكف المجريطي على التصنيف في فروع المعرفة المختلفة، مثل الفلك والكيمياء والحيوان والرياضيات، وقد اصطبغت مؤلَّفاته بالتعمُّق في العلوم الأساسية البحتة، وفي جوانبها النظرية، كما امتدَّت إلى العلوم التطبيقية والعملية. ويذكر خير الدين الزركلي في موسوعته “الأعلام” بعض المؤلَّفات التي صنَّفها المجريطي ككتاب ثمار العدد في الحساب (يُعرَف بـ”المعاملات”)، وكتاب “اختصار تعديل الكواكب من زيج البتاني”، وكتاب “رتبة الحكيم” في الكيمياء، وكتاب “غاية الحكيم” في الكيمياء، و”رسالة في الإسطرلاب”، إلخ.

المجريطي والكيمياء
لُقِّب المجريطي بكيمياوي العرب والمسلمين لتفوُّقه في علم الكيمياء، إذ لم يتوقف في هذا العلم على المعارف والحقائق النظرية المتوارَثة من الحضارات القديمة خصوصًا الحضارة الإغريقية، بل إنه اشتغل بعلم الكيمياء، وتَمرَّس بخبراته العلمية داخل المعامل العربية والإسلامية. وقد ألَّف فيه كتابين صارا مرجعين لعلماء الكيمياء في الشرق والغرب هما “رتبة الحكيم” و”غاية الحكيم”. ويُعتبر الكتاب الأول من أهمِّ المصادر التي يُعتمد عليها في تاريخ الكيمياء في بلاد المغرب والأندلس. وقد اعتمد ابن خلدون في بعض موضوعات مقدمته على بحوث هذين الكتابين، خصوصًا حين أرَّخ لعلوم الكيمياء والسيمياء والحكمة والفلاحة. كما أن كتاب “غاية الحكيم” تُرجِمَ إلى اللاتينية بأمر من الملك ألفونسو عام 1252م. وجدير بالذِّكر أن المجريطي أرَّخ في هذا الكتاب لتطوُّر الكيمياء في القرون الوسطى السابقة له، وسجَّل مُنجَزات الأمم السابقة في الكيمياء في العالَم القديم، وفي أزمنة اليونانيين والمصريين القدماء.

وقد اتفق المجريطي مع جابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء في الحضارة العربية الإسلامية على أن المعادن تختلف، ولكن هذا الاختلاف راجع إلى نسبة الطبائع الأربعة التي هي أساس لكل الكائنات والموجودات، كما وافقه على أن بالإمكان تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة بواسطة الإكسير، الذي توفِّره تجارب علم الكيمياء.

وقد اشتهر المجريطي شهرة كبيرة بتحضيره “أوكسيد الزئبق”، إذ لم يسبقه أحد في وصف التجربة التي أدَّت إلى تحويل الزئبق إلى أوكسيد الزئبق. وجدير بالذِّكْر أن كلاًّ من بريستلي ولافوازييه استفاد من هذه التجربة، ولم يذكر دوره العلمي في ذلك، وقد طوَّرا التجربة المعملية التي أجراها هذا العالِم المُسلِم الجليل.

وقد اعترف الغرب حديثًا بفضل المجريطي على علم الكيمياء في العصر الحديث حين قال هولميارد في كتابه “الكيمياء حتى عصر دالتون”: “ويكفي المجريطي فخرًا أنه انتبه إلى قاعدة بقاء المادَّة أو الكتلة التي لم ينتبه إليها أحد قَطّ من الكيميائيين السابقين له”، وبعد مُضِيِّ ستة قرون طَوَّر كل من بريستلي ولافوازييه هذه القاعدة التي لعبت دورًا مهمًّا عبر التاريخ، وتُعَدُّ من أُسُس علم الكيمياء. وقد صمَّم المجريطي فرنًا خاصًّا للتقطير الآلي، وأبدع ميزانًا حسَّاسًا بخمس صفات (كفَّات) تطفو فوق سطح الماء، من أجل إثبات الوزن النوعي لمادة كان يريد وضعها قيد الاختبار. واهتمَّ اهتمامًا خاصًّا بتجارب الاحتراق والتفاعلات التي تنتج عن هذا الاحتراق، والتغيرات التي تحدث في أوزان الموادِّ التي تحترق.

لقد وصف المجريطي تجربة أجراها بنفسه فقال: “أخذتُ الزئبق الرجراج الخالي من الشوائب، ووضعته في قارورة زجاجية على شكل بيضة، وأدخلتها في وعاء يشبه أواني الطهو، وأشعلت نارًا هادئة بعد أن غطيته، وتركته يسخن أربعين يومًا وليلة مع مراعاة أن لا تزيد الحرارة على الحدِّ الذي أستطيع معه أن أضع يدي على الوعاء الخارجي. بعد ذلك لاحظت أن الزئبق الذي كان وزنه في الأصل ربع رطل صار جميعه مسحوقًا أحمر أملس، وأن وزنه لم يتغير”.

في مثل هذه التجربة يلزم أن يزيد الوزن بقدر جزء من مئة من الرطل، ولكن المجريطي لم يلحظ ذلك، ولا شك أن السبب راجع إلى أن جزءًا من الزئبق قد تَبَخَّر، وكان نقص الوزن الناتج من ذلك معادلاً للزيادة الناشئة من اتحاد باقي الزئبق بالأكسيجين، وإنه من الجحود أن تُنسَب -كما يقول الدكتور محسن مصطفى- أمثال هذه التجارب التاريخية إلى علماء من الإفرنج، من دون أن يُشار إلى البادئين بها من العرب والمسلمين. وجدير بالذكر أن قاعدة بقاء المادَّة تقول إن “مجموع كتل الموادّ الداخلة في أي تفاعل كيميائي، مساوٍ لمجموع كتل الموادِّ الناتجة عن التفاعل”. ويُضِيف الدكتور السمري، “وليس ثمة شك في أن قاعدة بقاء المادَّة التي وضعها المجريطي، تُعَدُّ إنجازًا علميًّا مبتكَرًا، لا جَرَم أن بريستلي ولافوازييه، ومَن أتى بعدهما من علماء الكيمياء، قد استفادوا منها وارتكزوا عليها للانطلاق نحو آفاق جديدة في علم الكيمياء”.

من هنا لا يكون غريبًا أن نجد الدكتور علي عبد الله الدفاع، يؤكِّد أن كتاب “غاية الحكيم” للمجريطي لا يستغني عنه باحث في تاريخ الحضارة الإسلامية خلال القرون الوسطى، فهو لا يحتوي على تاريخ الكيمياء فقط، بل على كثير من الاستنتاجات العلمية التي تَوَصَّلَت إليها الأمم السابقة للأُمَّة العربية الإسلامية في كل من الكيمياء والفلك والرياضيات وعلم الحِيَل (الميكانيكا) والتاريخ الطبيعي.

(*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.

المراجع

(1) الفلك عند العرب والمسلمين، للدكتور زين العابدين متولي، ج2، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1997م.

(2) العلوم البحتة في الحضارة العربية، للدكتور علي عبد الله الدفاع، مؤسسة الرسالة، ط2، بيروت 1983م.

(3) عمالقة العلوم التطبيقية، لسليمان فياض، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2001م.

(4) العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية، لدونالد ر.هيل، ترجمة د.أحمد فؤاد باشا، عالم المعرفة، العدد:305، الكويت، يوليو 2004م.

(5) أبو القاسم المجريطي كيمياوي العرب والمسلمين، للدكتور محمد مصطفى السمري، منار الإسلام، العدد 375، أبريل 2006م.