المتاهة

بمدينة إسطنبول وفي زمن السلطان عبد الحميد الثاني تلقى الضابط مراد الأمر السلطانيّ بكثير من الامتعاض.. «لا للاستقالة.. لا لترك المهمة المقدسة، حراسةِ الفرقة العسكرية. قيادتُها في هـذا الظرف العصيب أمر لا يقبل النقاش». فـرَك يديه في عصبية.. أهذا جزاء ما قدمتُه من خدمات للخلافة؟.. سـنوات من الأعمال الشاقة العسكرية المتعبة.. تدريبات.. أسـفار.. مغامرات.. كاد مرة أن يذهب ضحية مغامراته في حرب اليونان المرعبة.. هنّأه رِفاقه على النجاة بعد تخلصه من كمين جبلي مُطبق في جوف ليلة سوداء متعبة.. دمعت عيناه.. وجفَ قلبه.. أهذا جزاء سنوات العناء ونكران الذات رغم ضآلة المرتب وشظف العيش وتواصل التعب والكدّ؟
إن حظه الآن يبتسم له، وليلة قدره تنفتح في سعة مطامعه، وكهولته تودّع عمره السارب، وللشيخوخة مطالب ملحّة رغم سلامة بنيته وصحة جسده، فكيف يترك ترِكة أبيه وثرواته الغنية التي ورِثها أخيرا؟ آه.. آه.. قلّب الرسالتين معا.. رسالة الحظّ النيّر المبتسم تعده بالمجد، بالثراء بالراحة المستديمة، بالتّخلص من مشاغل الجيش المرهقة، ورسالةَ السلطان التي ترفض الاستقالة وتدعوه للاستمرار والبقاء في عمله المقدس.
صمّم على مقابلة السلطان وإعادة الكرة من جديد.. إن الأمر جد في حياته الخاصة.. ومنعطف مهم في مسيرته العمرية. وفي الغد تلقى من الباب العالي خبر الإذن بزيارة قصر «يِلْدِيز». كان السلطان عبد الحميد يراقب دخوله بنَوع من التمعن والتفحص «الفراسي» النافذ.. يقرأ أعماقه ودواخله الملتهبة وهو يقترب بخطواته من كرسي العرش.. تراءَى له في وجهه الممزّق المطعون صورةُ الجيش العثماني المهترئ وهو يعاني نخر الأمراض المزمنة.. شدّ وجذب بين نداء الواجب وثقلة المطامع والأهواء. أعاد شريط حياته السياسية وهو يتسلم مقاليد الخلافة المريضة.. سنوات قضاها في أجواء المؤامرات والدسائس والنعرات العصبية الآكلة. حاول جاهدا منعها.. صدّها.. تفتيتَها.. وقد لبسته روحُ تيار هادر..راعد.. واعد، يروي ضفاف جغرافية الإسلام الممتدة من الماء إلى الماء أزْيَد من ثلاثين سنة.. أنداء ممرعة تنث روحا وريحانا، أمنا وأمانا. لكن رحى التاريخ تدور.. عجلاته غلابة.. الناس يظنّونه منعما في قصوره.. يعتصر اللذائذ.. يكتنـز الأصفر الرنان والأحمر الفتّان.. لكَم تمنى لو نعم براحة البال في كوخ بسيط منـزوٍ في أعالي جبال «أرارات»، أو في زاوية من زوايا شيخه الروحي «أبي الشامات».. لكنه النداء المقدس.
أفلتت دمعة حرَّى من وجهه التاريخي.. تختزن في ملوحتها وحرارتها كل مواجع الدولة المنهارة والحكم الغابر، لم يبصرها الضابط «مراد بك».. دعاه للجلوس.. تحاورا.. حاول السلطان استلاله من إحساسه المادي الضاغط.. بسَط له من الحجج ما يقنع؛ الواجبُ الجهادي المقدس.. الدولة المتداعية.. المسلمون المستضعفون.. الأطماع الغربية.. أمجاد التاريخ العثماني.. أحلام محمد الفاتح.. عراقة الجيش العثماني.. قوّته الضاربة.. الشهادة.. الجنة.. الخلد… كلمات وكلمات تفور كالأمواه الدافقة، لكن الأرض السّبخة ترفضها.. تعافها.. تبخّرها بفعل وهج الشواظ الحارق، كان الضابط يعُدّ الدقائق للانعتاق من قيد الخدمة المتعبة، كلمات السلطان لم تحرك فيه ساكنا. كان تمثال شمع كلّسه الإغراء.. لا يمكنه أن يرفض نعمة سِيقت له سوقا.. كرر طلبه ثالثا بنوع من الإصرار المؤدب وهو يقبّل يده.
ألقى عليه السلطان نظرة غاضبة أحرقتْ كل جسور العتاب الرقيق التي نسجها بحواره الحكيم.. قام من كرسيه يذرع الأرض بخطواته المتّئدة.. طال حبل الصمت.. تسارع وجيب قلب الضابط.. دقّات الحذاء السلطاني المتتابعة تطن في أذنيه كهلوسات حلم غامض.. انتظر كلمة الخلاص.. طال الصمت.. طالت النظرات الغاضبة.. السلطان يمارس معه نفسيا فن إذابة الجليد.. إن الصمت يعذبه.. يسلمه لضميره المغيب.. لإيمانه المقيد.. صراع بين دمائه الفائرة ودموعه الحبيسة.. انتفض خائفا مرعوبا من الاستهواء النفسي الذي مارسه السلطان عليه.. كرر طلبه رابعا بصوت راعش يشب فيه آخر ذبالة من توسلاته الملتاعة.. توقفت النظرات.. سكنت الخطوات.. أبصر السلطانَ يحملق في صورة جدارية للجيش العثماني الظافر.. يمسد لِحيته في عصبية غاضبة، لم يتركه السلطان لحبل الصمت كي يلفّ عنقه مرة أخرى.. خاطبه بوجع غاضب مشيحا عنه بوجهه التاريخي: «إنّي أعفيتك، إني أعفيتُك».
خف طليقا من قيده المضني، وامتطى منتشيا قطار الإغراء والإثراء.. يعبر به الريـاض.. يكرع اللذات بعمق حواسه الظامئة.. اللذائذ تعتصر.. الفرحة تعرش في قلبه المكدود.. جنانه التي تطل على «البوسفور» يتفيّأ فيها أجمل اللحظات.. ينتهبها انتهابا.. وتتلاشى معها أيام «يِلدِيز» بظلالها المستوخمة الثقيلة.. وتتلاشى شهور الخنادق المرعبة، وسنوات البنادق الدامية.. كوابيس وكوابيس تتوارى في لجة النسيان الطامي.
ويستفيق من غمراته.. أحداث لا تصدَّق.. يا إلهي!.. الخلافة تتهاوى.. السلطان ينفى وراء الشمس.. وأنصاره يعلقون على أعواد المشانق.. يا إلهي يا إلهي!! وتنتفض أعماقه لتقيء رمادا داكنا خنق منافذ حسه الإيماني.. كلمات السلطان الغاضبة تدوي كصفير ريح تقتلع أعواده اليابسة.. دويها يصم مسامعه.. أعاد شريط الوداع بقصر «يِلدِيز» من جديد.. القصر التاريخي الرابض يزأر جريحا مُدمى في وجهه المصعوق.. قِبابه.. أروقته.. شرفاته.. مشاعله المتناوسة.. كلُّها تدوي منتفضة بكلمات السلطان «إنّي أعفيتك». يا إلهي يا إلهي!! تحاصره أسوار إسطنبول بعذاباتها المريرة خرَّبها الغازي والغزاة.. شاهَد تاريخها مأسورا على أبوابها العتيقة؛ غيّروا معالمها.. وجهها المألوف لديه يستنهضه كي يثأر.. ويقتنص الغزاة بفيلقه الجسور. «آه.. آه يا مدينتي خذلتُك وخذلت بك الإسلام.. آه.. آه..» جلُّ رفاقه في الجيش نُكل بهم.. وأشعل الغازي من رفاتهم شمُوعا تُنير له درب المجد الكاذب.. ارتحلوا شهداء كما تعود الطير إلى أعشاشها السماوية.
إحساسه بطعم «الخيانة» ينغرز في وعيه كنصل حاد جارح.. حاضره الخادع يلملم وينقذف في وجهه كالخرقة البالية.. ماضيه يترنّح باكيا.. تمثَّل له امرأةً ثكلى مَنفوشة الشعر.. متّسخة الملابس.. تنعي زوجَها المغيب في غيابة المجهول.. صرَخ الضابط في ذهول حالم: أنا زوجها الضائع المخدوع.. الغائب المخلوع.. أنا الزائف.. أنا النازف.. أنا.. أنا.. أنا…
عاودته ذكرى نشيد «الخلاص».. كان مغرما به.. يحتمي بمواويله الشجية حين تقتلعه شجون الحياة «شفاعة يا رسول الله شفاعة شفاعة..» ورؤوس المريدين تترنح.. والدموع السخينة حبات عقد تطرز جيد القلب الصديّ.. حلَقة المولوية تجتذبه بندواتها وتحليقاتها.. تمنحه الدفءَ.. الوعد.. الخلاص، آه.. آه.. إنه بحاجة إلى جواز سفر.. يضعه قبالة رسول الله.. يخلّصه من المتاهة المخيفة.
قادته خطواته المترنحة إلى باحة مسجد السلطان أحمد التاريخي.. الظلام غشاء كثيف يخفي هواجسه المتوانية.. ذبالة النور تكشف أسرار المكان الغامضة.. استند إلى عموده الأثير لديه.. امتدتْ نظراته إلى الخط الفاصل بين الظلام والنور.. غامت الرؤية.. استطالت الأحجام.. تداخلت الزوايا.. وانسرح الحلم في وعيه الغائب.. وجَد نفسه يقتفي أثر السلطان.. يتابع كلامه.. يطل عليه من كوة وعيه المبصر.. كانت الساحة فسيحة مد البصر.. طبول تدوي.. أعلام تخفق.. جياد تصهل.. السلطان يستعرض الفيالق صحبة رجل مهيب وخلفه يقف أربعة رجال مهيبين.. كل فرق الجيش العثماني الظافر تنتظمها الصفوف.. تحدّق في ذهول صوبَ الرجل «المهيب».. ابتسامته النورانية.. نظراته الحانية.. تلويحاته المشجعة.. تبارك الجميع.. تمنحه الروح والريحان.. والسلطان يعرض عليه الفيالق صفا صفا.. والرجل «المهيب» يبتسم. الفرق تواصل السير.. رفاقه في مقدمتها.. أعلام النصر تطرزها «الشهادتان».. سيوفُهم تتقلقل في أغمادهم.. مدافعهم تزَغرد كل حين.. حناجرهم تدوي بالتكبير.. خطواتهم تسير وفق إيقاع واحد.
أطل من كوة وعيه المبصر.. اللهفة تعتصر قلبه.. انتظر مرور فرقته، طال به الانتظار المملّ.. طابور الفرق يتناقص.. والرجل «المهيب» يبارك.. والسلطان يستعرض.. وتلوح مؤخّرة الجيش.. إنها فرقته.. يا إلهي!! أعلامها منكوسة.. مدافعها خرساء.. سيوفها صدئة.. خطواتها اضطراب وفوضى.. حناجرها تتشقق عويلا..تتوسل بالرجل «المهيب»: «شفاعة يا رسول الله.. شفاعة!». أخذه الدوار.. لفه جلال اللحظة.. تعلق بصره الزائغ بالوجه النبوي المهيب.. أحس كيانه يهتز.. ذراته وخلاياه تندمج في هرمونية الموال الشجي «شفاعة يا رسول الله.. شفاعة.. شفاعة!». أبصر السلطان يقترب من الوجه النبوي المهيب وخلفه وجوه الخلفاء الراشدين المسفرة.. يسر له حديثا هامسا.. يعزز حديثه بالحركات الدالة.. الوجه المهيب يكسوه الغضب.. يتوجه نحوي.. يا إلهي يا إلهي! ماذا أسمع؟
الساحة الواسعة المكتظة تنتفض للنداء النبوي القاصم.. تردده جنباتها.. أصداء تلتوي شعلا مرعدة كاوية تردد في وجع غاضب: «وأنا أعفيتك.. وأنا أعفيتك.. وأنا أعفيتك.. وأنا أعفيتك وأنا.. وأنا.. و…»