إن اتباع الوحي في المجال الكوني، يتم طوعًا وتقديرًا فيحل فيه الهداية. ومن هنا، فإن الكائنات الكونية تتمكن -ابتداء- من السجود الكلي الذي لا استثناء فيه، ولذلك لم يحصل في سجود الكائنات استثناء -غير الإنسان- في آية ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾(الحج:18){س}، إذ إن هذه الكائنات -بسبب التقدير والهداية- تخلق معروفة الوظيفة، طائعة لوحي التسخير الذي معها، فتكون تلك الطاعة سجودها ويكون التسخر وجهتها في سجودها نحو القبلة النهائية التي هي الله جل جلاله.
وهذا مؤداه -ولغياب حمل الأمانة- انعدام حيرة البحث عن الوجهة والقبلة في المجال الكوني، بخلاف المجال الإنساني، حيث أمانة إعمال الوحي والعمل به إراديًّا، كدحًا ومكابدة، وحيث الاختيار مما يترتب عليه أن الإنسان يولد على الفطرة/الدمغة/الصبغة الأصلية والتقويم الأحسن.
وتلك مقومات القدرة على الاهتداء بالوحي للتعرف على الوجهة والقبلة وتحقيق السجود/الاندراج في موكب الساجدين، مع إمكان التنكب عن هذا الوحي واللجّ في الطغيان/فقدان التوازن. ولذلك يولد الإنسان غير معروف المصير، ويولد غير معروف الوجهة، ويولد قادرًا على التزكي أو التدسي، ويولد بمقعدين؛ أحدهما في الجنة والآخر في النار.
قال الراغب الأصفهاني: “القبلة في الأصل؛ اسم للحالة التي عليها القابل، نحو: الجِلسة والقعدة. وفي التعارف صار اسمًا للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة”.
وقال الزبيدي: “والقبلة في الأصل؛ الجهة، يقال: ما لكلامه قبلة، أي: جهة، وأين قبلتك: أين جهتك، والقبلة: الكعبة، وكل ما يستقبل: قبلة.
وقال ابن فارس: “والقبلة للمسجد، سميت بذلك لأن الناس يُقبلون عليها في صلاتهم وهي كذلك”.
تقول الدكتورة منى أبو الفضل: “وكما يشد البناء بعضه بعضًا، فإن بين الشعائر وسائر الدين نفس الوشائج. فليس ثمة توحيد إذا انتهى مظهره في الشعائر، ويثير ذلك قضية التطابق بين الشكل والمضمون على مستوى آخر.
ومرة أخرى نجد الترابط أوثق ما يكون باعتباره ثمرة لعقيدة متماسكة متناسقة تستمد قوتها من كنهها، وليس من مجرد إطارها الوضعي أو ظرفها التاريخي الذي قد يبرز دلالة هذا الكنه دون أن يصنعه.
ولننظر إلى التفاعل بين الجماعة والعقيدة في منظار الجدلية من خلال دلالات هذا التطابق. ولنأخذ من بعض شعائر الصلاة والحج نماذج توضيحية. فماذا عن حكمة التوجه إلى القبلة ونحن نعلم جيدًا أنه: ﴿وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(البقرة:115)، وأن من صفاته تعالى الهيمنة والوجود في كل زمان ومكان ومن كل جهة، وأن التحديد بمكان معين لا يكون لغير الأجساد أو الكيانات التي تحددها الأبعاد المحددة، ومن ثم تكون النسبية زمانًا ومكانًا.

حول البيت العتيق يتجلى التوحيد ووحدة الأمة

أما الله العلي العظيم، فهو مطلق لا ينحسر وجوده مكانًا ولا زمانًا، أما القبلة في الصلاة فهي توحيد للوجهة، والتوجه عند الجماعة في رتابة وتكرار -بصفة منتظمة ومستمرة- حتى يتحقق التطابق الأمثل بين الشكل والمضمون، فيصير الحق عبر التوحيد بؤرة استقطاب لقلب المؤمن، وهو محور تركيز وجذب معنوي في محور رأسي في لحظة صلة بين العبد وربه.
ولكن في نفس لحظة الامتثال هذه إذا بالتماثل يسود صفوف العباد وينتظم إيقاع حركاتهم، وهي نفس الحركات والأفعال التي تسري عليها قوانين الزمان والمكان، وتصبح القبلة واجهة استقبال لأفعال المؤمنين وبؤرة جذب وجاذبية، وتشد حولها جماعة المصلين وتوصلهم بعضهم ببعض من خلال وصلهم بها. فالصلاة التي تربط بين العبد وربه.. وتوصل الأمة ببعضها من خلال الشعائر التي تطابق المضمون والجوهر الذي تكرسه.
ومن استقبال الوجهة إلى الإقبال على الموضع، نجد أن الدور المحوري للكعبة المشرفة -بيت الله العتيق- لا يقتصر على تجسيدها لحقيقة التوحيد والوحدانية، ولكنه يمتد إلى ما تؤديه من تعزيز وحدة الأمة في شكل مادي محسوس على مشهد مَن بصر من خذلته بصيرته، يتبلور بصورة جلية في الطواف. هنا نلمس عن قرب ويقين الدلالة الاستقطابية لهذه العملية، حيث تشد الكعبة إليها وتجمع حولها أفواج الطائفين، تمامًا كما تشد الشموس الكواكب التي تطوف حولها في نفس اتجاه الطواف المخالف لاتجاه عقارب الساعة.. وفي هذه اللحظة تتجلى حقيقة التوحيد كقيمة عليا في الوجود، لا يُقتصر على تكريسها جبرًا بفعل القواعد الكونية الذاتية، وإنما يرتقي الإنسان المؤمن العبد إلى إدراكها والإقرار بها والعمل لها طواعية.. وفي هذه اللحظة -لحظة الطواف- يتحقق الإدراك الإدماجي، عندما تلتقي الإرادات الواعية العاملة حول هذه الحقيقة العليا، وهي في سعيها الدائب في الحياة الدنيا لا تنقطع قط عن وحدة الوجهة والحق محورًا.
في هذه اللحظة، يكون الإنسان قد حقق أسمى وأعرق ارتباط للجماعة الإنسانية في شكل “الأمة”، ذلك الكيان الجماعي الذي تمثلت حيويته المتدفقة المتجددة في تلك الحركة الدائبة في مدار الطواف الذي لا ينقطع، وإذا كانت حيوية الكيان لا تستفاد من سكونه، وإنما من دأب المسعى تتأكد الحقيقة الوجودية العليا، وتصير الأمة القطب الوعاء البشري الذي ينفرد بين الكيانات الجماعية قاطبة في الجمع بين الخواص الاستقطابية والإدماجية، التي من خلال دفع جدلية تشد إليها وتجذب أفواجًا تلتف بها وحولها، والتي من خلال اتساق أصولها التكوينية والحيوية مع قواعد التركيب والحركة الكونية تختص دون غيرها من الجماعات، بوظيفة تاريخية عليا في تحقيق التئام الإنسان ببيئته وإعادة دمج البشرية في رحمها الكوني. وعندئذ يتحقق سلم الباطن وسلم الظاهر… وتصبح الأمة القطب، هي الوعاء المتاح والذي لا بديل له لتحقيق المثل العليا المفتقدة في العالمية الراهنة”.(1)
إن هذا الاختلاف بين الإنسان وبين بقية المخلوقات، والمتمثل في عدم وجود العلاقة الحتمية بين الحركة والقبلة، اختلاف جوهري تعجز عن إبصاره -فضلاً عن تفسيره- النظريات والفلسفات أحادية البعد.
إنه اختلاف يجعل من كل حركة من حركات الإنسان حركة ثنائية الإمكان، تعكس حالة نفسه ومستوى التزكية أو التدسية الذي صارت عليه بعد ولادتها.
هنا يصبح العمل عنوان حالة النفس، ويصبح هو المحرك لها، فهي كما عُرّفت عُرِفَت، إلى درجة يمكن معها اختزال الإنسان في عمله: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾(هود:45-46). إن كل حركة -بإطلاق- تتطلب وجهة، لكن أية وجهة؟ وهذا بالضبط ما عبرت عنه زفرة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام التواقة حين اكتشف ضرورة هداية الله إلى الوجهة، وإلا فإنه الضلال، والذي لا يعدو أن يكون اضطرابًا حركيًّا في غياب رؤية الوجهة الصحيحة.
إن عظمة هذا التوق الإبراهيمي، تتمثل في تبصره بمنبع القبلة: ﴿يَهْدِنِي رَبِّي﴾(الأنعام:77) قبلة كل حركة: الله،(2) وإن عظمة ملاحظة إبراهيم تؤدي -برحمة الله وفضله- إلى تبويئه مكان البيت وجعله الباني لأول بيت وُضع للناس، البيت الذي يمثل القبلة المدربة للإنسان صلاة وطوافًا وتمثلاً على رفعه تحدي الحياة الأكبر: عدم تغير قبلة حركته بتغير موقعه، وهذا الذي يبرز التنبيه إليه بجلاء في سورة الأنعام: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ * قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(الأنعام:70-79)، ثم تختم سورة الأنعام بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(الأنعام:161-165). وهكذا ما يبرز قدرة الإسلام الباهرة على تمكين الإنسان فردًا وأمة من قبلة للحركة غير متناهية: ﴿كَلَّا لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾(العلق:19){س}.(3)

موكب الساجدين

إن الرصد الشامل لتاريخ العمران البشري -إذا كان لنا أن نستعير لفظ العلامة المسلم ابن خلدون- يمكننا من اختزاله في محاولة الإنسان الدائمة لرفع تحدي حيرة قرن الحركة بوجهتها نحو القبلة في حياته الفردية والجماعية. ويتبين بجلاء أنه كلما تنكب عن الوحي، انزلق نحو قطب الرهبنة المفقدة للقدرة على الفعل في العالم، أو نحو قطب التكاثر المؤدي إلى الغرق في العالم، والمردي في سجن الأشياء: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾(الليل:11).
إن انسلاك الإنسان في موكب الساجدين -وعلى حد تعبير د. منى أبو الفضل- “عودة البشرية إلى رحمها الكوني” أمر لا يمكن -ألبتة- بدون الوحي، فكما أن أمر الكون لا ينصلح بدون الوحي، فكذلك أمر الإنسان -فردًا وجماعة- لا ينصلح بدون الوحي، مما يفرض الوحي في المجالين؛ الكوني والإنساني باعتباره ضرورة ليس بعدها إلا الدمار.
فإعمال الوحي في المجال البشري ليس فيه جانب الامتثال فقط، وإنما فيه أيضًا اجتناب الدمار في الدارين الأولى والآخرة، وتحصيل السعادتين فيهما. وقد كان دأب الأنبياء جميعهم، هو إحلال الوحي وإعماله في المجال البشري، لينسلك الناس اختيارًا في موكب الساجدين.
وهذا بالضبط مناط الخلافة، فآيات الخلافة من سورة البقرة تختم بقوله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(البقرة:38-39). مما يبرز مركزية الوحي/الهدى في المجال البشري، وأن اتباعه يحقق الأمن/توق إبراهيم الدائم:(4) ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ﴾(الأنعام:81).
وجدير بالملاحظة، أن اتباع الهدى وتحقيق السجود في المجال البشري بحسب ما أَلْمحنا إليه آنفًا، مشروع كلي(5) بدأ مع نزول آدم عليه السلام وسوف يستمر إلى قيام الساعة، وأنه قد وصل إلى عنفوانه وكماله المنهجيين مع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم رسول الناس الذي ختمت به النبوة ونقلت معه المسؤولية إلى الأمة الشهيدة على الناس.

من بيت المقدس إلى بيت الناس

لقد شكّل حدث تغيير القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، تحولاً هامًّا وحاسمًا في مسار النبوة، وإن من أقرب دلالات هذا الحدث العظيم، نقل الرسالة من بني إسرائيل، بما ظلموا وكانوا يعتدون على الناس.
ولئن ارتضت قبائل قريش أن يبسط صلى الله عليه وسلم رداءه لنقْل الحجر الأسود؛ قصد أن يأخذ كل رئيس قبيلة بطرف منه، فيكون له ولقبيلته من ورائه شرف حمل الحجر الأسود ونقله، فكان حكمه صلى الله عليه وسلم حكم القبائل جميعًا؛ فإن تحويله صلى الله عليه وسلم القبلة بأمر الله من بيت المقدس/قبلة الآل، نحو بيت الناس/قبلة الناس، حكم عدل قد ارتضاه الناس جميعًا، قال تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾(الشورى:15-16).
قال ابن القيم رحمه الله في معرض كلامه عن هذه الآيات: “أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى دينه الذي شرعه لأنبيائه، وأن يستقيم كما أمره ربه، وحذّره من اتباع أهواء المتفرقين، وأمره أن يؤمن بكل ما أنزله الله من الكتب، وهذه حال المحقق؛ أن يؤمن بكل ما جمعه من الحق على لسان أي طائفة كانت، ثم أمره بالعدل بينهم، وهذا يعمّ العدل في الأقوال والأفعال والآراء والمحاكمات كلها، فنصبه ربه ومرسله للعدل بين الأمم، فهكذا وارثه”.
فلا شك أن حكم الأمين صلى الله عليه وسلم هو العدل في حمل الحجر وفي تحويل القبلة كما في غيرهما.. قال الشوكاني في فتح القدير: “﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ في أحكام الله إذا ترافعتم إليّ، ولا أحيف عليكم بزيادة على ما شرعه الله أو بنقصان منه.. والظاهر أن الآية عامة في كل شيء.. والمعنى: أمرت لأعدل بينكم في كل شيء”.
فقبل مرحلة الناس سبقت مرحلة الآل: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(آل عمران:33-34)، وهي مرحلة كان ينظر فيها إلى الرب سبحانه في حدود الآل.. ففي معرض الحديث عن تحويل القبلة يقول تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(البقرة:133).. إلى أن يقول تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(البقرة:134)، ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(البقرة:142)، ويقول تعالى على لسان يوسف عليه السلام في معرض حديثه مع صاحبي سجنه: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾(يوسف:38) في مرحلة الناس، الرب: ﴿بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ﴾(الناس:1-3)، والرسول رسول الناس: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾(الأعراف:158)، والبيت بيت الناس: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾(آل عمران:96)، والكتاب كتاب الناس: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾(البقرة:185).
يُنتبه إلى أن آيات العدل -سالفة الذكر- قد جاءت في سورة الشورى -والشورى لا تتم بدون تعارف، والتعارف من شرطه تكامل الوجهات حول القبلة- وفي مفتتحها جاء قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾(الشورى:7)، قال الزبيدي في شرح “حول”: “الإحاطة من كل وجه… كل جزء من الجرم المحيط”.
غير أن ما حول أم القرى في مرحلة الناس -التي مهد لها إبراهيم عليه السلام والذي بُوّئ مكان بيت الناس، فرفع القواعد منه هو وابنه إسماعيل- ليست علاقته بأم القرى -التي ما كان لها أن تكون أصلاً لولا البيت- فقط علاقة تقبل جامد/ستاتيكي للنُّذُر من خلال الدعوة في وجهها العطائي الباث، بل هي أيضًا علاقة تقبل متحرك/ديناميكي من خلال التلبية بالاستجابة للأذان بالصلاة خمس مرات في اليوم، وإرسال المُهَج نحو البيت، وكذا من خلال التلبية بالاستجابة للأذان بالحج وإرسال فلذات الأكباد مع الهدي نحو البيت: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾(الحج:26-27).
وفي مناسبة نزول قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾(الشورى:16) أخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه قال: “قال أهل الكتاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نحن أولى بالله منكم، فأنزل الله: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ﴾ يعني أهل الكتاب مما جعلهم برفضهم الدخول في مرحلة الناس، يتردون من مفضلين على العالمين -ولطبيعة المرحلة- إلى: ﴿السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ في قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾”(البقرة:142-143).
ــــــــــــ
الهوامش:
(1) الأمة القطب، للدكتورة منى أبو الفضل، ص:26. وقارن بـ”الحج”، للشريعتي: تأملات في شعائره، ترجمة: ليلى باختيار، ص:76.
(2) ولذلك يشرع للمصلي في دعاء الاستفتاح وهو واقف للصلاة متجهًا نحو القبلة أن يقول: “وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين” (وراه مسلم)، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم: 771.
(3) قال د. علي شريعتي: “إن الكعبة لا تعدو كونها آية/علامة حتى لا يُضَل عن الطريق، إنها لا تعدو كونها سهمًا يؤشر لك على الوجهة نحو الخلود والأزل نحو الله. فالكعبة ليست بحال نهاية الطريق، إنها بدايته. إنها نهاية عجزك وموتك وتوقفك، لأن ما هو موجود في هذه الربي هو الحرطة مقرونة بالوجهة ولا شيء غير ذلك. إنها الربي التي شهدت الميثاق، إنها الربي التي يتم فيها اللقاء بالله، وبإبراهيم عليه السلام نبي الإسلام والناس. وأنت، كلما بقيت أنت، فإنك ستكون غائبًا هنا..”، الحج، ص:76.
(4) يلاحظ في القرآن المجيد في مواقع الحديث عن إبراهيم عليه السلام هاجس الأمن، إذ يبرز هذا المصطلح في سياقات كلامه عليه السلام المختلفة. انظر: الأنعام، 81-82، وإبراهيم، 35.
(5) نستخدم هنا عبارة “المشروع الكلي” نظرًا لأن مشروع إعمال الوحي في المجال البشري يستغرق كل طاقة الإنسان فردًا وجماعة، حاضرًا وماضيًا ومستقبلاً، كما يستغرق الكون المسخر كله.