العثمانيون والأماكن المقدسة في القدس الشريف

ما بين حِرَاء والأَقْصى، ما بين مكة والقدس علاقات روحانية حَمِيمَة وطيدة في بناء صرح الحضارة الإسلامية. ففي الأولى كان التَّعَبُّد وكان الوحي، وفي الثانية كان مهبط موكب الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. في الأقصى كانت محطة الانطلاق نحو “سدرة المنتهى” في العروج إلى السماوات العُلاَ. فالأقصى أُولى القبلتين وفيه كانت إمامة محمد ؟ لكل الأنبياء. في مكة أول الحرمين، وأول ما يُشد إليه الرحال، وفيها حراء أول مهابط الوحي. من هنا كان الربط عند المسلمين بين كل هذه الأماكن المقدَّسة والاهتمام بها كلها على حد سواء.

ما بين حِرَاء والأَقْصى، ما بين مكة والقدس علاقات روحانية حَمِيمَة وطيدة في بناء صرح الحضارة الإسلامية.

الفتح العثماني

والقدس ظلت عَرَبِيَّة حتى إبان العهد العثماني الذي استمر منذ سنة 923هـ – 1517م إلى انهيار الدولة العثمانية نهائياً في بدايات القرن العشرين. فقد كانت خاضعة للحكم المملوكي. ولما أنهى السلطان سليم الأول حكم المماليك في مصر سنة 923هـ – 1517م دخلت القدس بدورها تحت إدارة العثمانيين. وما أن استقرت الأمور للسلطان سليم في كل من سوريا ومصر ومعهما الحرمين الشريفين والقدس الشريف حتى أصدر فرماناته وأوامره بألا تُبْنَى كنائس أو معابد جديدة في المدن والقَصَبات والقرى التابعة لهذه المناطق، بل يُحَافظ على القائم منها فعلاً، وتُمْنَح الرعاية والصيانة اللازمة لتأمين قيامها بالمهام المنوطة بها. وكان يُسمح بهدم القديم القائم منها وإعادة البناء في نفس المكان وبنفس الطراز المعماري المستخدم.

وقد تمثل في ذلك بما فَعلَه سيدنا عمر الفاروق بن الخطاب في السنة الخامسة عشرة الهجرية حيث اعترف بكل الحقوق المَرْعِيَّة لكل الرعايا غير المسلمين بتعهد مكتوب. وما كان من السلطان العثماني إلاَّ أن فعل نفس الشيء حيث أصدر فرماناً عقب ضم القدس يَحْفَظ لكل الرعايا من المسيحيين واليهود حقوقهم الدينية، وأَمَّن لهم بكل مذاهبهم وطوائفهم حق ممارسة الشعائر بدون أية عوائق. وقد حدد في هذا الفرمان الذي سَطَّره قاضي القدس بخطه كل حقوقهم وطُرُق حماية هذه الحقوق ومنع أي تجاوز عليها. وهذا الفرمان موجود في “خزينة أوراق” البطريركية الأرمنية في القدس الشريف. وقد قام سركيز قاراقو الأرمني بنسخه عن الأصل الموجود في مكتبة البطريركية الأرمنية في القدس. وفيما يلي نص الترجمة عن النص التركي حيث تعذر الحصول على نصِّه العربي:

فرمان القدس الشريف

 

“فليعمل بموجب النيشان الهمايوني… إن النيشان الشريف، عالي الشأن للسلطان السامي، حامل الطغراء الخاص بخاقان العالم، وبالعون الرباني والمن السبحاني، فالحكم بما يلي:

القدس ظلت عَرَبِيَّة حتى إبان العهد العثماني الذي استمر منذ سنة 923هـ – 1517م إلى انهيار الدولة العثمانية نهائياً في بدايات القرن العشرين.

بعون الله تعالى ورسوله قد جئنا إلى القدس الشريف، وفُتح بابها في يوم 25 من شهر صفر الخير، وقد قَدِم الراهب المسمى سركيز الذي هو بطريرك الطائفة الأرمنية وفي مَعِيَّتِه سائر الرهبان والرعايا والبرايا. وقد سألنا العطايا وتمنى الإنعامات، وأن تظل تحت تصرفهم ورعايتهم كما هو سابق وسائد لبطارقة طائفة الأرمن الذين تولوا الضبط والإشراف من القديم لما هو تحت عُهْدَتهم من الكنائس والأَدْيِرَة وأماكن الزيارة وكذا الكنائس الأخرى الواقعة في الداخل والضواحي وكذا المعابد ومنذ العهد العمري رضي الله عنه.

وكذا معاهدة حضرة السلطان المرحوم الملك صلاح الدين والأوامر الشريفة المعطاة تجعل الضبط والتصرف على كنيسة القيامة، ومغارة بيت لحم، وبابها الواقع في الجهة الشمالية، والكنائس الكبرى، وماريعقوب ودير الزيتون، وحبس المسيح ونابلس بما فيهما من كنائس تخص سائر الأمم كالحبش والقبط والسريان للبطريرك الأرمني القائم والقاطن في كنائس ماريعقوب.
وينص النيشان الهمايوني على عدم تدخل أي فرد من الملل الأخرى، وقد مَنَحْتُ هذا النيشان الهمايوني مقرونا بالسعادة وأَمرت بما هو آت يعمل بموجبه: أن تكون السيطرة والتصرف في الكنائس الكبرى المذكورة، والكنائس الواقعة في ضواحي وداخل البطريركية الأرمنية الكائنة في ماريعقوب، وكذا المعابد وسائر أماكن الزيارة والأديرة التي تتبع طوائف أخرى كالحبش والقبط والسريان. فلهم ممارسة مراسمهم الدينية فيها، وضبطها ورعايتها بأنفسهم.

في الأقصى كانت محطة الانطلاق نحو “سدرة المنتهى” في العروج إلى السماوات العُلاَ. فالأقصى أُولى القبلتين وفيه كانت إمامة محمد ؟ لكل الأنبياء.

ولا يحق لأي مَنْ كان أن يتدخل في تنصيب أو تعيين أو عزل من يقومون بالشؤون الدينية والإشراف على الرهبان والقساوسة، والميتروبوليد، والبيسكوبوس وسائر الأمور الدينية متروكة لهم ممثلة في البطريركية الأرمنية وما يتبعها من كنائس ومعابد وأديرة وسائر أماكن الزيارة عندهم، ولا يحق لأي فرد من غيرهم التدخل في أمورهم.
ويحق لسائر الأمم أن يدخلوا إلى كنيسة القيامة والتربة الواقعة وسطها، وإلى مقبرة السيدة العذراء الأم مريم الواقعة في ضواحي القدس الشريف، وإلى المغارة التي ولد فيها السيد المسيح عليه السلام في بيت لحم، وحفظ مفتاح بابها الشمالي، والشمعدانان الموجودان في داخل كنيسة القيامة والقناديل، وكذا القناديل الموجودة في داخل المقبرة وعلى بابها، والشموع التي توقد، والبخور. والحفاظ على المراسم والعبادات التي تتم داخل كنيسة القيامة وفقاً للعنعنات والمعتقدات حتى ظهور نار الشمع المقدَّس.
فيحق لجميع الأمم الدخول والدوران حولها، وزيارة الباب، ورؤية الذهب والأحجار الغالية على نافذتيها، ورؤية وزيارة المعبد الكائن بالداخل، وزيارة كل آبار الماء ومزارات ماريوحنا الكائنة في فناء كنيسة القيامة، وزيارة حبس المسيح الواقع بالقرب من مار يعقوب في الضواحي، وزيارة غرف يعقوب في الضواحي، وزيارة الغرف والمضيفات الواقعة بالقرب من مغارة بيت لحم وأضرحتها.
كما يحق للبطريركية المذكورة لطائفة الأرمن الإشراف ورعاية كافة الحدائق والبساتين ومزارع الزيتون، وبالجملة جميع الكنائس والمعابد والأديرة والمزارات التابعة لهم، وكل الأملاك والأوقاف الخاصة بهم، وكل توابعهم وما يتبعهم. ولا يتم التعرض لأي شخص من الطائفة الأرمنية قادماً لزيارة الكنيسة أو بئر المياه المسمى زمزم، ولا يتعرض أي أحد لمزارعهم أو معابدهم أو مزاراتهم ولا يمنعهم عن ذلك أي أحد.
ويعمل وفقاً لهذا النيشان السلطاني من بعد اليوم على الوجهة المشروحة، ولا يُسمح لأي شخص من ملة أخرى التدخل في شأنهم. وعلى أولادي الأماجد أو وزرائي الأعاظم ومشايخي الكرام والقضاة والقادة وأمراء الإمارات وقادة السناجق وأمير الأمراء وضباط الانضباط والأمن ورجال بيت المال والقسَّام ومديري البلدية والزعماء وأرباب التيمار والمتصرفين وسائر حرس بابي وغيرهم، والخلاصة على الجميع كائناً من كان ألا يتعرض لأي فرد منهم كائناً من كان ومهما كانت الأسباب، ولا يتم التبديل أو التغيير في أي مما ذكر. وإذا ما قام أحد ما بالتدخل أو التعرض أو التبديل أو التغيير فإنه يُعَد عند الله من زمرة المجرمين والعصاة.
وليعلموا أن أوامري ونيشاني الحامل لطغرائي أنا فاتح العالم ستكون مصدَّقة، وليعمل بفحوى ما جاء بها، وليكن هذا علامة شريفة معتمدة. كتب في سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة.”
ها هو السلطان سليم الأول الذي وصل إلى بيت المقدس في القدس الشريف في اليوم الخامس والشعرين من صفر سنة 923 هـ – 1517م، ما أن مثل بين يديه البطريرك الأرمني ومرافقوه من القساوسة والرعيِّة حتى أمَّنهم وأحسن إليهم وأجزل العطاء لهم وجدد لهم العهد العُمَري ومعاهدة القائد الفذ صلاح الدين الأيوبي.
ولم يكن هذا وقفاً على القدس وحدها لقدسيتها ومكانتها، بل امتدت هذه الرعاية والعناية إلى غيرها من الأماكن. فها هو نفس السلطان، سليم الأول يصدر نفس الفرمان تقريباً لرهبان دير سانت كترين في سيناء المصرية. فما أن استقر به المقام في القاهرة حتى أصدر لهم في أواخر شهر جمادى الآخر سنة 923 هـ – 1517م فرمانًا يعطيهم نفس الحقوق التي منحها للبطريركية الأرمنية وللحبش والأقباط السريان في القدس. ولما كان هذا الفرمان يخرج من نطاق القدس فقد اكتفيت بالإشارة إليه.
لم يثبت التاريخ ولو لمرة واحدة أن حَاصر قائد مسلم كنيسة أو معبداً، أو أطلق ناراً، أو منع ماءاً أو طعاماً عمن هو في داخل الكنيسة أو المعبد. لم تطارد قوات الجيش أو الشرطة أو الأمن من يلجأ إلى بيت من بيوت الله.

لم يثبت التاريخ ولو لمرة واحدة أن حَاصر قائد مسلم كنيسة أو معبداً، أو أطلق ناراً، أو منع ماءاً أو طعاماً عمن هو في داخل الكنيسة أو المعبد. لم تطارد قوات الجيش أو الشرطة أو الأمن من يلجأ إلى بيت من بيوت الله.

إن هذه الوثيقة وغيرها ظل مَعْمُولاً بها طوال فترات التاريخ، وما زال فرمان سليم الأول محفوظاً في دير سانت كترين في سيناء. كان ذلك قبل الإحتلال الإسرائيلي لسيناء، ولست أدري مصيره الآن.

العهد الذهبي سليمان القانوني

وما أن اعتلى السلطان سليمان القانوني (1520-1566م) عرش السلطنة العثمانية حتى أبدى تفوقاً ملحوظاً في ميادين البناء والتشييد بنفس القدر من المهارة في ميادين سن القوانين. فما هي إلاَّ خمس وخمسون سنة حتى كانت البلاد العربية كلها حتى تلمسان المغربية ضمن حدود الدولة العثمانية.
وقد أغدق من غنائمه على الحرمين الشريفين والقدس الشريف الشيء الكثير، فغطى الجدران الخارجية لجامع قُبَّة الصخرة من جديد بالبلاطات الخزفية الفاخرة بدلاً من الموزاييق الذي كان يحتاج إلى الترميم من حين لآخر، وكانت هذه التغيطة الخزفية الزرقاء بدلاً من الخليط بين الأخضر والأصفر، مما أعطى الجامع رونقاً وبهاء ظل قرونًا عديدة. وكسا القسم الأسفل من الجدران بالرخام بدلاً من الموزاييق أيضاً. وأحاط المبنى من أعلى بحزام من الخزف الأزرق الغامق الذي تتخلله كتابات بالحروف البيضاء. وأمر بتركيب زجاج ملوَّن على النوافذ التي استقرت داخل تجاويف من الجبس والجص الأبيض الناصع.

كما أمر سليمان القانوني بترميم كل أسوار المدينة، وأعطاها الشكل الذي ما زال هو السائد حتى العهد القريب. وبهذا فقد ترك قسماً من التبة الغربية خارج الأسوار. ولقد كانت كنيسة مرقد عيسى عليه السلام تخلو من الأجراس حتى سنة 952هـ – 1545م، فأمر السلطان سليمان بأن تُعلق بها الأجراس. وفي سنة 963هـ – 1555م كان هناك بناء صغير فوق الضريح في القسم الدائري من كنيسة القيامة، فأمر بإقامة مبنى آخر منتظم ويليق بالمقام بدلاً من القديم.
وكانت الكنيسة مقسمة فيما بين المذاهب المسيحية التي لم تكن على اتفاق أو وفاق فيما بينها. وكانت هذه التقسيمات تحول دون إجراء الترميمات والدعامات اللازمة التي تمكن من إقامة برج للأجراس فوق قبة المبنى، ولم يتم ذلك إلا سنة 1132هـ – 1719م.

وبأمر من الحكومة تم الحفاظ على الرسوم والأشكال والطرز الموجودة على ما هي عليه أثناء أعمال بناء البرج والترميمات اللازمة. وخوفاً من التشويه تم صرف النظر عن التجديدات التي كانت ستجرى في كنيسة القيامة. وفي سنة 1223هـ – 1808م اندلع حريق في الكنيسة الأرمنية مما أدى إلى تخريب القسم الغربي من الكنيسة بالكامل. وتمت الموافقة على أن يقوم الأرمن بأنفسهم بأعمال الترميم والتجديد اللازم. وقد أصدر السلطان محمود الثاني (1808 – 1839م) فرماناً للأرمن بهذا الصدد. وطبقاً لكتابات موجودة، فقد تم تجديد التذهيب الموجود في جامع قبة الصخرة، وأمر السلطان بترميم الجامع من الخارج. ولولا الخلافات المذهبية بين الطوائف المسيحية لتم تجديد كنيسة مرقـد عيسى، ولتم إزالة المباني العشوائية، ولجددت الزخارف التي على جدرانها منذ أمد بعيد، ولأمكن استخدام الأجزاء المتبقية وأعيدت الكنيسة إلى ما كانت عليه أثناء الحروب الصليبية.
لقد شهد القرن التاسع عشر أحداثاً وقلاقل أخرجت فلسطين عامة والقدس خاصة من الهدوء والسكون الذي كان يعمها. فإن نابليون بونابرت (1769 – 1281م) الذي ظل محاصراً في مصر، قام بالهجوم على فلسطين. وكما أنه حاصر عكا فقد زج ببعض من القوات الفرنسية لمهاجمة القدس، وتقاتلت القوات العثمانية والفرنسية أمام يزرائيل، أي أمام مرج بن عامر. واضطرت القوات الفرنسية إلى التراجع. ثم تعرضت فلسطين عامة والقدس خاصة إلى استيلاء جيوش محمد على باشا سنة 1831م.

ودخلت هذه المدينة تحت الحكم المصري حتى تم حل المسألة المصرية. وعقب جلوس السلطان عبد الحميد الأول على العرش، مارست الدول العظمى آنذاك ضغوطاً. وفي النهاية انضمت فرنسا إلى هذه الدول، وتم عقد معاهدة سنة 1256هـ – 1840م أجبرت مصر بموجبها على إخلاء فلسطين. ومارست إنجلترا والنمسا ضغوطاً ملموسة لإعادة القدس تحت الحكم العثماني. واستمر الوضع على هذا المنوال حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. ولكن خلال المرحلة الأخيرة من هذه الحرب أي في الثامن من كانون الأول سنة 1333هـ – نهاية 1917م احتُلَّت القدس من قبل الإنجليز. وهكذا انتقلت هذه المدينة المقدسة التي كانت مركزاً لمتصرفية مستقلة خلال العصر العثماني إلى الإدارة الإنجليزية، وظلت هكذا حتى سنة 1368هـ – 1948م.