السياسي الكبير نظام المُلك

حَفَل تاريخ الإسلام بالعديد من العظماء، الذين حملوا رسالة الإسلام بإخلاص، ودعوا إلى الله على بصيرة، وجاهدوا في الله حق جهاده… وخلَّد التاريخ أسماءهم، ولا زال الجيل بعد الجيل يلهج بذكرهم ويعتز بالانتساب إليهم، ويتخذ منهم منارات هدى على دربه الطويل.

وكان من السياسيين الأعلام الذين لم يُعْطَوا حقهم من الدرس والبحث؛ الوزير الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، الملقب بـ”نظام المـُلك”، الذي كان من أكابر الوزراء في الدولة السلجوقية. حيث كانت له أياد بيض في خدمة الدولة، والدفاع عن عقيدتها، والوقوف في وجه أعدائها… وقد كرس حياته كلها من أجل رفع شأن الدين. فحارب الباطنية والمبتدعين، وآوى العلماء إلى ركن شديد، وبنى المدارس لطلبة العلم، وقدَّم يد العون للفقراء، وأنجز الكثير من الخدمات للدولة، ثم قضى نحبه شهيدًا.

لقد كتب الله لهذه الشخصية الفذة أن تظهر في فترة حرجة من تاريخنا الإسلامي، وهي فترة القرن الخامس الهجري، حيث عَظُمَ فيها أمر الفِرَق الباطنية، واستفحل شرها، وتطاير شررها في العديد من أصقاع العالم الإسلامي… وقد بذل هذا السياسي الكبير الجهد الكبير في سبيل حماية دولة الإسلام، وتثبيت أمرها، ورفع شأنها، والتصدي للكائدين لها، الذين كانوا يعملون ليل نهار للقضاء على الإسلام وأهله.

المولد والنشأة

تذكر بعض كتب التراجم أن الحسن بن علي بن إسحاق،  وُلد بنواحي “الراذكان”، وهي بلدة صغيرة تابعة لمدينة طوس إحدى مدن إقليم خُراسان. وكان أبوه من التجار الذين يعملون في البساتين، ومن أصحاب السلطان الغَزْنوي محمود بن سبكتكين (ت 421هـ)، وتوفيت أمه وهو رضيع.

كانت حياته منذ أن كان طفلاً حياة جدٍّ واجتهاد، فلم يُعرف عنه لهو ولا لعب، ولم يخلد إلى دَعَة ولا راحة، ولم يستكن إلى لذائذ الحياة ومتعها، بل عُرف عنه الصبر على الفاقة، والجِدُّ في تحصيل العلم، ومسابقة الزمان، ومصارعة الصعاب. فأتم حفظ القرآن وهو في الحادية عشرة من عمره، وفقَّهه أبوه على مذهب الشافعي. ثم بعد وفاة أبيه خرج إلى مدينة غزنة، وخدم صاحب الديوان عميد خُراسان أبا الفضل سوري بن المعتز، فكانت خدماته على منهاج الاستقامة وأدب الصدق والصواب. ثم رَقَتْ به الأحوال إلى أن أصبح وزيرًا للسلطان السلجوقي ألب أرسلان، ومن بعده لابنه ملك شاه.

صفاته وأخلاقه

كان “نظام المـُلك” ذكيًّا، عالي الهمة، عادلاً، صاحب أناة، كثير الصفح عن المذنبين، عمل بجد واجتهاد على إحياء معالم الدين. ومن أهم الأوصاف التي جُبل عليها احترامه للعلماء، والمبالغة في الخضوع للصالحين، ومحبة أهل الدين وإكرامهم، وإجزال الصلات لهم. وقد استطاع أن يكسب نفوذًا واحترامًا كبيرين في الأوساط الدينية، بما كان يتحلى به من روح دينية، واحترام للزهاد والعلماء والشيوخ، ومعاشرتهم والاختلاط بهم والتحدث إليهم. وكان إذا جلس إلى العلماء جلس مطأطئ الرأس، وهو يسمع جميع ما يجري في المجلس.

ومن صفاته الجليلة أيضًا أنه كان واسع الصدر، يقبل النصيحة ولا يرى فيها جرحًا لشخصه؛ فقد وعظه أبو سعد بن أبي عمامة الواعظ عند دخوله بغداد عام (480هـ)، قائلاً له: “وأنت يا صدر الإسلام! وإن كنت وزير الدولة، فأنت أجير الأمة”، فتقبل نظام الملك هذه النصيحة بصدر رحب، ولم ير فيها خدشًا لمكانته، ولا حطًّا من جلالته.

رجل دولة

قبل أن يستلم “نظام المـُلك” منصبه الوزاري، عمل مستشارًا لـ”أَلْب أرسلان” حينما كان حاكمًا على خراسان من قِبل عمه “طغرل بك”. وعندما تقلد ألب أرسلان مقاليد الأمور أسند لـ”نظام المـُلك” منصب الوزارة. وكان السلطان ألب أرسلان يعتمد على وزيره ويثق به كثيرًا. إذ ازدهرت الدولة السلجوقية أثناء وزارته وتوطدت دعائمها، وارتفع شأنها، واتسعت حدودها. وتوّجت جهود ألب أرسلان ووزيره نظام الملك، بالانتصار على الروم البيزنطيين في معركة “ملاذ كرد” الخالدة عام 463هـ.

بعد وفاة السلطان ألب أرسلان عام 465هـ، تولى السلطة ابنه الأكبر “ملك شاه”، الذي بدوره أسند مقاليد الوزارة لـ”نظام المـُلك” ووضع فيه ثقته؛ حتى تستقر الأوضاع في الدولة التي كان يضعفها صراع الأمراء على السلطة. وأدت هذه العلاقة الوثيقة بين السلطان السلجوقي “ملك شاه” ووزيره الفذ، إلى ازدهار الدولة وبلوغها ذروة المجد. فاتسعت حدودها حتى شمل سلطانها بلاد الشام وأجزاء من بلاد الروم، ومدت نفوذها إلى كرمان وآسيا الصغرى، وأصبحت دولة مترامية الأطراف، تمتد من الصين والهند شرقًا، إلى البحر الأبيض المتوسط غربًا، بل صارت أكبر قوة في العالم آنذاك.

منذ أن تسلم نظام المـلك منصبه الوزاري، سعى إلى بناء دولة قوية على أساس الدين، معتبرًا أن المقوم الأساس في بناء الدول إنما هو العدل.

كان نظام الملك يرى في الفِرَق الباطنية عدوًّا خطيرًا للإسلام والمسلمين. ويؤكد على أن غايتها هدم الإسلام، وأن أساس مذهبها إسقاط تكاليف الشريعة جملة وتفصيلاً؛ من تحليل شرب الخمر، واستباحة الأموال والنساء. ومن هنا، فقد كرس جهوده في هذا الجانب لكسر شوكة الباطنية، والقضاء عليها قضاء مبرمًا، حفاظًا على دين الأمة ووحدتها. وقد حقق في هذا المجال شيئًا ليس بالقليل، بل ليس من المبالغة القول هنا: إن ما قام به نظام الملك في هذا الصدد كان من أهم إنجازاته، وكان من أهم ما خدم به عقيدة الإسلام والمسلمين. ولولا سياسته الحازمة، وموقفه الصلب تجاه فِرَق الباطنية، لكان لدولة الخلافة عمومًا ودولة السلاجقة خصوصًا، شأن آخر وتاريخ مغاير.

بذل نظام المـلك جهده للقضاء على الباطنية حيثما وجدوا. وكانت نيسابور بوصفها مركز إقامته، والقاهرة -عاصمة الدولة الفاطمية- بوصفها الدولة المحركة لكل التحركات الباطنية، وبغداد بوصفها مركز الخلافة الإسلامية، تشكل مبعث قلق واهتمام نظام المـلك من ناحية، كما كانت المسرح الذي شهد تنفيذ سياسته الدينية من ناحية أخرى. وبينما كانت الحرب سجالاً عبر الحدود من أجل نشر الدين، كانت الحرب في الداخل حربًا ضد فِرَقِ الباطنية تعنف حينًا، وتخف أحيانًا.

وبالتوازي مع العمل السياسي على الأرض، وضع “نظام المـلك” كتابه “سياست نامه” (أي، كتاب السياسة)، كبرنامج عمل في مجال الفكر السياسي، ضمنه عصارة أفكاره وتجاربه، واحتوى على ذخيرة قيّمة يمكن الانتفاع بها لمن يتولى مقاليد الوزارة من بعده. وقد حقق الكتابَ المستشرق الفرنسي “شيفر”، ونشره سنة 1893م، وكان أول من أخرجه إلى عالم النور. واعترف المستشرق الروسي “بارتولد” بأنه لا توجد مخطوطة يصح أن تكون وثيقة تاريخية في دراسة عهد السلاجقة، ونُظُم الحكم في القرن الخامس الهجري، غيرها.

رجل علم

لم يغب عن نظام الملك -وقد أراد لأمته دولة إسلامية متحدة- أثر العلم في تكوين دولة الإسلام، وتشييد مؤسسات العلم التي تستمد الدولة من خلالها قوتها، وتحافظ على بقائها. فقد أصبحت “النظاميات” بعد فترة من تأسيسها، المراكز الرئيسة التي تبث الوعي الإسلامي السُّني في أرجاء العالم الإسلامي، وكان نظام الملك هو الطاقة المحركة لها بما أوتي من نفوذ سياسي، وانفتاح فكري، وسعة اطلاع.

وإزاء ما كان يحدق بالإسلام من أخطار سياسية، ويَحِيقُ به من تهديدات عقدية مثل الحشاشين الذين كان يزداد خطرهم وتنتشر جرائمهم، والدولة البيزنطية التي كانت تتربص بالمسلمين الدوائر وتؤازر الفاطميين في مصر للانقضاض على الخلافة. كان للحركة الفكرية التي قادها نظام الملك -بالتوازي مع الحركة السياسية والعسكرية- الدور الكبير في القضاء على الفتن، وفي استقرار الأوضاع في أنحاء المناطق الخاضعة للخلافة الإسلامية في بغداد.

وسعيًا لتثبيت أركان الإسلام وإقامة دولة المسلمين، شرع نظام الملك في تأسيس “نظامياته”، وبثها في حواضر العالم الإسلامي. بحيث كانت تلك المدارس (النظاميات) أشبه بالجامعات قبل أن يعرف العالم الجامعات بالمفهوم الحديث. فقد بنى مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهَراة، ومدرسة بأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو بآمل طبرستان، ومدرسة بالموصل. ويقال إن له في كل مدينة بالعراق وخُرَاسان مدرسة.

ولم يكتفِ نظام الملك ببناء المدارس في المدن العظيمة والعواصم العامرة والأماكن المشهورة، بل امتد نشاطه العلمي والعمراني إلى القرى البعيدة والمناطق النائية، وهذا يُفهم من قول مترجمي سيرته. فقد ذكرت كُتب السِّيَر أن مدارسه في العلم مشهورة، لم تخلُ بلد من شيء منها، حتى جزيرة ابن عمر -التي هي في زاوية من الأرض لا يؤتى لها- بنى فيها مدرسة كبيرة حسنة. وذكر القزويني أن نظام الملك، بنى مدرسة في مدينة ظاخر، وعيَّن فيها مدرِّسين وفقهاء، وشرط لكل فقيه فيها كل شهر رأس غنم، وقدرًا من الطعام.

لقد كان هدف نظام الملك الأساس من بناء هذه المدارس، هو حفظ مقومات الدين، وذلك بمواجهة المد الباطني، والحد من تغلغله في المجتمع الإسلامي، حيث كان يرى في الباطنية وأعوانها العدو الأول والأساس للإسلام ودولته. وقد أدرك أن مواجهة هذا الوجود الباطني، لا يتيسر إلا من خلال إقامة قاعدة علمية، ومن ثم عمل على تشييد هذه المدارس؛ لتكون بمثابة منارات يهتدي بها الناس، ولتكون أيضًا بمثابة حصون ثقافية، يلتجئ إليها الناس تحصينًا لعقيدتهم، وذودًا عن دينهم.

رجل محراب

قليلون هم الذين خاضوا غمار العمل السياسي، وعاشوا في أتونه، واكتووا بناره، ثم حافظوا على العلاقة مع ربهم على النحو المرجو. وقد كان نظام الملك واحدًا من أولئك القليلين. فقد نُقل عنه في هذا الخصوص قوله: “كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة، ومسجد أتفرد فيه لعبادة ربي، ثم بعد ذلك تمنيت أن يكون لي قطعة أرض أتقوت بريعها، ومسجد أعبد الله فيه، وأما الآن فأنا أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم، ومسجد أعبد الله فيه”. فهذا النص واضح الدّلالة على ما كان عليه نظام الملك من عبادة لربه، وتوجه خالص إليه، وعزوف عن الدنيا ومغرياتها مع أنها كانت مطروحة بين يديه وممتثلة لطوع أمره.

وقد بلغ نظام الملك الغاية في إقباله على الصلاة، فنقلوا عنه أنه كان يراعي أوقات الصلوات، ويُقيم لها وزنًا. فكان إذا غفل المؤذن عن الأذان ودخل الوقت، يأمره بالأذان، وكان كلما سمع الأذان يُرفع في السماء، يمسك عما هو فيه ويجتنبه ويُجيب المؤذن؛ عملاً بما أخبرت به السُّنة الشريفة، وكان لا يشغله بعد الأذان شغل عنها. فإذا فرغ المؤذن من أذانه، لم يبدأ بشيء قبل الصلاة، وكان محافظًا على الصلوات في أوقاتها محافظة لا يتقدمه فيها المتفرغون للعبادة. وهذا غاية حال المنقطعين إلى العبادة في حفظ الأوقات، ولزوم الصلوات، والإقبال على الله.

رجل أمة

عمل “نظام الملك” على تأسيس دولة فضلى من خلال تحقيق إصلاح جذري لأحوال البلاد المضطربة؛ بجمع القلوب حول أمراء الدولة السلجوقية، وطبعها على الإخلاص لمذهب (أهل السُّنة والجماعة)، بعد أن كانت هذه القلوب متفرقة مزعزعة بسبب فعل الأيادي الأثيمة التي كانت ترمي إلى تحقيق مآربها الشخصية، معرضة مصالح الناس وعقائدهم، بل وحياتهم للدمار والهلاك.

كانت نظرة نظام الملك لمركز الخلافة نظرة احترام وتقدير، وكان هذا الموقف من محاسنه. ولم يكن تعظيم نظام الملك لأمر الخليفة من منطلق سياسي نفعي، بل من منطلق التقرب إلى الله تعالى؛ إذ كان يعتبر أن الحفاظ على هذا المنصب واحترام القائمين عليه، هو حفاظ على الدين نفسه، والنيل منه إنما هو نيل من الدين ذاته.

كان نظام الملك يرى أن الاتحاد بين الشعوب الإسلامية ضرورة سياسية وعقدية، تُمليها الضرورة الإسلامية أمام الزحف الصليبي الخارجي، والخطر الباطني الداخلي. أما كون اتحاد الشعوب الإسلامية ضرورة سياسية؛ فللحفاظ على وحدة الأمة وكيانها في وجه الزحف الصليبي، وأما كونه ضرورة عقدية؛ فللحفاظ على عقيدة الأمة في وجه الخطر الباطني. وإنما كان نظام الملك، رجل أمة وصاحب رسالة. وقد كان إلمامه بالتاريخ الإسلامي عمومًا، وتاريخ الفرس على وجه الخصوص، مساعدًا له في أداء مهمته السياسية على الوجه الأصوب والسبيل الأقوم.

خاتمة القول

لم يتخذ نظام الملك من منصبه وسيلة لجمع المال، وبناء القصور والبنيان، بل كان صاحب مشروع سياسي سعى جهده خلال مدة وزارته إلى تنفيذه. فكانت مصلحة الأمة هاجسه، واستقرار الدولة بغيته، فكان -بحق- أعظم وزراء دولة السلاجقة؛ حيث سعى إلى وَضْع أسس قيام دولة إسلامية، مبينًا -بالفكر والعمل- المنهجَ الذي ينبغي على السلطة السياسية أن تسلكه لتحفظ أمر دينها، وتحافظ على أمنها.

إن هذا الوزير المقدام، لم يمت على فراش الموت، بل مات شهيدًا. وكُتب التراجم متفقة على أن اغتياله كان في رمضان عام 485هـ، وكان مقتله في قرية قريبة من نهاوند يقال لها “سَحْنة”. وكان قد قال حين وصوله إلى المكان الذي كان فيه مقتله: “هذا الموضع قُتل فيه خَلْق كثير من الصحابة زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فطوبى لمن كان منهم”.

 

(*) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية / قطر.