الرحمة في أبعادها الإنسانية

لماذا اعتُبرت الرحمة من المشترك الإنساني؟ ولماذا كانت الحاجة إلى الرحمة أكيدة أكثر من أي وقت مضى؟ من يتأمل النصوص القرآنية الواردة حول الرحمة، يستخلص كثيرًا من عناصر التعريف التي دل عليها منطوق الآيات. فحين نستنطق تلك الآيات المحورية المؤسسة لخصائص المفهوم، فإنها تمدنا بعناصر التعريف، والأمر هنا يتعلق بالآيات البينات التالية التي يقول الله تعالى فيها: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(الأنعام:54)، (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا)(غافر:7)، (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)(الأنعام:147).
إن الرحمة في الأصل، صفة من صفات الله تعالى، اشتق منها اسما “الرحمن الرحيم” وهو الذي دل عليه، والرحمة لا تنشأ عن رقة قلب نحو مرحوم، بل هي تجلٍّ لإرادة الله تعالى ومشيئته في الإنعام بإيصال الخير للخلق أجمعين بدون مقابل، كما أن الرحمة تتميز بالاتساع والشمول وعدم الانقطاع، وأن الله كتب على نفسه أن يرحم كل خلقه؛ الطير والإنس والجن. إن الله عز وجل أضاف الرحمة إلى نفسه، من حيث إنه أصلها، وما أودعه منها في المخلوقات ليس إلا قبس من تلك الرحمة المطلقة، به تتراحم إلى قيام الساعة.
رحمة الخالق إذن تعني إرادة الله إيصال الخير للخلق إحسانًا وإنعامًا على الدوام. فإرادة الإنعام والإحسان من صفات ذات الله تعالى “لم تزل ولا تزال” -يقول ابن عربي(1)- لأنها متعلقة بذاته تعالى، فهي منه كما فهم من القرآن نعمة وإحسانًا، وهي من المخلوق شفقة ورقة.
إذن، نحن أمام مفهوم قرآني ممتد ذي أبعاد عقدية وأخلاقية، لا ينحصر أثره في فئة دون أخرى، وإنما يمتد ليشمل الإنسان العاقل كما يشمل المخلوقات كلها، لأن الله الذي خلق الكون وأوجده من العدم، أودع فيه تلك القوانين الضابطة التي ترجعه إلى التوازن حين يميل الفعل الإنساني وينزلق نحو الفساد والإفساد. لهذا ظلت الرحمة مددًا ربانيًّا لا ينقطع، ولما كانت كذلك، اعتبرت في العلاقات الإنسانية حالة من الرغبة في إيصال الخير إلى الآخرين بدافع الشفقة والعطف.

الرحمة من المشترك الإنساني

يحفل الخطاب القرآني بمفاهيم ذات أبعاد إنسانية عالمية، لا ينحصر أثرها على طائفة المسلمين، بل يمتد ذلك الأثر ليشمل العالمين، وهي مفاهيم متناثرة في القرآن المكي والمدني على السواء، كالعدل والتكريم والرحمة والحرية والإرادة.. وكل مفهوم منها ينطوي على مفاهيم مرادفة له، أو مجلية لمعناه، أو مقربة لتنزيله، أو مبددة لما يعارض استغراقه.
والرحمة من ضمن المفاهيم الإنسانية المشتركة، ذات الحمولة العقدية والأخلاقية، حيث أودعها الله سبحانه وتعالى في خلقه لتنزل إيثارًا وإحسانًا وإنعامًا ورعاية.. وتنزّلها يتأسس على قاعدة الوحدة والاتصال والتكامل الإنساني، لأن الذي يستشعر الوحدة المتكاملة يعمل بالكاد على الاندماج مع الآخرين. فالإنسان وحدة متكاملة في الأصل، وعليه أن يستثمر إحساسه بالآخرين وإحساس الآخرين به، استثمارًا يمكّن من تنزيل صفات الجمال والجلال أفعالاً وسلوكا وتصرفات، تعود بالنفع والخير عليه وعلى غيره.

إن الرحمة ليست حكرًا على المسلمين، وليست حكرًا على غير المسلمين، بل هي مشترك إنساني من المفترض أن يفعّل ليصلح أعطاب التواصل البشري والحوار الهش.

إن تنزيل الإيثار والعفو والإحسان أفعال تدل على تمكن الإحساس بالرحمة، حيث إن المرء حين يحس فينقاد طواعية لفعل الرحمة، فيرحم ابتداء، وينساق للإنجاز طواعية، إذ قدومه على الإنجاز بلا تردد يعود إلى ما أودعه فيه من القابلية للإحسان، كما يعود إلى عقيدته في الأسماء والصفات.
ولما اعتبرت الرحمة مرتكزًا في المشترك الإنساني، فهذا يومئ إلى أصالتها الربانية، واشتراك الرسل في نفس الصفة، واشتراك الكتب في الدعوة إليها، ومن ثم فقد تميزت بالاستمرارية والعموم والاستغراق. فما قد يطرأ من القتل أو الدمار أو الكراهية أو الأنانية المفرطة، لا يعبر عن المفهوم في امتداداته، وإنما يعبر عن خلل ما في منظومة الرحمة سببه انحراف في التربية، أو تلاعب بالقوانين الضابطة، أو انزلاق في التنزيل أفضى إلى سوء مآل.

الأبعاد الإنسانية المعبرة عن الرحمة

إن كلمة “الرحمة” في سياقاتها المختلفة، تكشف عن أبعاد إنسانية عظيمة تعبر عن هذا المشترك، اقتضتها إرادة الله في تصريف الرحمة على الخلق أجمعين، ومن تلك الأبعاد:
1- صراحة ووضوح القرآن الكريم بصدد عموم رحمة الله، وأن رحمته ليست منحصرة في جنس أو عرق دون غيره، أو قبيلة أو أمة دون غيرها، لأنه لو انحصر أثرها على جنس دون جنس أو عرق دون عرق، لكان الآخرون تحت آثار ضدها وهنا يقع فهم الخطاب على أن الرحمة خصت بشعب دون غيره. لهذا حسم القرآن هذا الأمر، فنص على شموليتها للعالمين دون تمييز ابتداء، وفي هذا يقول الله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)(الأعراف:156).
2- القرآن يعلنها واضحة، ويصرح بها جلية ناصعة وبشتى الصيغ؛ أن الرحمة شاملة ونافدة في الخلق شمول الرسالة المحمدية، شاء من شاء وأبى من أبى.. فليست رسالة محمد بن عبد الله ضلى الله عليه وسلم، إلا ضربًا من شمول الرحمة في الخلق بغض النظر عن عقيدتهم وجنسهم وعرقهم، حيث إنها جاءت للخلق كلهم، ولا يحرم من بركاتها ونفحاتها إلا من أبى. فأثر الرحمة على الخلق كأثر أحكام الشريعة المحمدية على الخلق، فمن أراد نفحاتها عمل لها وبحث عن مواردها، ومن أباها لم يصادف طريقها. قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(العنكبوت:23).
3- الرحمة بهذا، تأخذ بعدًا عالميًّا كونيًّا ينطلق من عالمية الإسلام التي هي خاصيته، وفي هذا يقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107)، كدلالة على ربط الرحمة بالعالمية، من أن الرحمة تأخذ عالميتها من عالمية الإسلام، إنها ليست حكرًا على المسلمين حتى لا تأخذ بعدًا قوميًّا أو عقديًّا. لهذا، فتحليل نسق الرحمة في نسيج القرآن، يجعلها مدخلاً للوعي بعالمية الإسلام، في مقابل مختلف القراءات الظاهرية المنغلقة التي تحصر الرحمة في المتعبدين ليس إلا. فالرحمة في تنزيلاتها تسعى لتكرم الإنسان وتحرره من كل أشكال العبوديات، لأنها الهواء الذي يتنفس منه الجميع رغم تباين مشاربهم العقدية والفكرية والعرقية واللغوية، وفي هذا يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(يونس:57).

إن الرحمة في القرآن مقصد مركزي يستوعب كل مجالات الكون بلا استثناء، من حيث إنها صفة ربانية، وخلق كل الأنبياء.

إن الرحمة ليست حكرًا على المسلمين، وليست حكرًا على غير المسلمين، بل هي مشترك إنساني من المفترض أن يفعّل ليصلح أعطاب التواصل البشري والحوار الهش، ليُصلح القائمين على العنف والغلو والطائفية والمذهبية التي تخترق الفكر الإنساني، وتهتك يوميًّا بسلامه في صورة حروب وتدمير وظلم لا ينتهي.. فالرحمة لا تأخذ مصداقيتها إلا من عالميتها، فلو كانت خاصة لصارت امتيازًا لفئة على أخرى، وحاشا لله العادل أن يسير بمنطق التمييز في الرحمة، لأنه كتب الرحمة على نفسه تجاه الجميع، وجعلها تسع كل شيء في أكثر من آية.
وفي هذا الشأن يقول المقرئ أبو زيد: “القرآن واضح وصارم بصدد عمومية الرحمة، فهو يخاطب بها الناس جميعًا، لا جنسًا ولا طبقة ولا قبيلة مخصوصة محظوظة”(2).
4- الرحمة في النسيج القرآني لها تعلق بالسِّلم، كما أن لها تعلقًا بعالمية الإسلام، لأن تفعيل الخلق، جنوح نحو السلم، من حيث إنها تعبر عن الرأفة والشفقة والرعاية والإحسان، وكلها مفاهيم ذات مغزى سلمي. فالخطاب بالرحمة إذن، أصل أصيل في النظام التشريعي الإسلامي، وإن الهدف من تنويع الصيغ الخاصة بالرحمة في الخطاب القرآني، تحصين الذات المسلمة من مفاهيم العنف والغلو والتطرف، وتربية النفس المسلمة على منع صاحبها من الاجترار وراء دعوات التسلط والغلبة بالقوة، لأن مثل هذا ينافي الرحمة.
5- فيها الرد القاطع على من يدعي الشر على الله تعالى من أصحاب النظرية القديمة أو الحديثة التي تلبس الذات الإلهية لباس الإساءة، ظنًّا منها أن ما يقع في الكون من الكوارث وما يترتب عنها من التدمير والقتل والفناء والخراب، دال على أصالة الشر في من نسبت إليه تلك الوقائع.
فمنطق الرحمة في القرآن يتدرج بالمسلم ترقيًا، ليقترب من النموذج الأعلى في تنزيل الرحمة، لأن الغاية أن يصاغ سلوك الإنسان بخلق الرحمة، لأنه بها يحكم الانزلاق الخاص والعام نحو العنف والفوضى والتغلب. فالرحمة تراعي الآخر المحتاج وتعيره مزيدًا من العناية، لأنها دفع داخلي نحو تعديل السلوك الأناني، والرقي بالإيثار نحو مقام الاشتراك في الهم والحزن.
فمقصد الرحمة يستغرق كل أبواب الشريعة بلا استثناء، إما من حيث دلالة النصوص عليه كليًّا أو جزئيًّا، أو من حيث استحكامه في تنزيل الأحكام، لأنه يروم جلب الخير والنفع ودفع الشر والفساد العام؛ ذلك أن الرحمة في القرآن مقصد مركزي يستوعب كل مجالات الكون بلا استثناء، من حيث إنها صفة ربانية، وخلق كل الأنبياء، ومنتهى ما يصبو إليه كل مخلوق رغم عناده وتمرده، ومأمول القرآن في صناعة إنسان الرحمة المهداة. فلما ملأت الرحمة الكون وحفظ بها وانتظمت في صورة نواميس، امتلأ الكتاب المسطور بها، لتكون قصد المتلقي كما هي قصد القرآن في الرعاية والحماية والحفظ. إن مقصد الرحمة في القرآن تصبو إليه الآيات ولا تتخلف، لأنه المعيار الحقيقي لفهم دور الدين في صلاح الإنسان.
يُفترض على المسلمين -إذن- أن يكونوا أولى من غيرهم في تبني الرحمة، لأنهم أمة الرحمة والهداية، وقد أنيطت بهم مسؤولية الرعاية والحماية، لكن لما كان المفهوم في أصله الرباني يتجاوز المسلمين لما هم عليه من التجزئة والكراهية المستحكمة والأنانية المفرطة، نرى أن المفهوم يتحقق عند أمم أخرى دونهم، وهذا ما يؤكد البعد العالمي للرحمة، وأنها من المشترك الإنساني. فمن تهيأ لها تصدر مشهد الحماية في العالم والرعاية والإحسان، بغض النظر عن عرقه أو دينه أو جنسه. فكيف نفعّل الرحمة في الواقع الوجودي الإسلامي والعالمي؟ وما الآليات الدقيقة لرفع منسوب الرحمة لمواجهة القسوة المتمظهرة في القتل والكراهية والعنف والتسلط والاستبداد والفساد وسفك الدماء؟

(*) كاتب وباحث مغربي.
الهوامش
(1) الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، لأبي بكر بن العربي، 2/87.
(2) عموم الرحمة وعالمية الإسلام، لأبي زيد المقرئ الإدريسي، ص:19.