الخطاب الأدبي.. مرجعية التجربة وشعرية الصياغة

يأتي هذا الكتاب ضمن سلسلة كتب في حقل النقد التطبيقي التي تفيد من مقولات النقد الحديث عمومًا،  وتقترب في معالجتها من روح النقد الثقافي الساعية إلى تجاوز عتبة الشكل وعدم التجمد داخل حدود النص؛ لذا فإن ثنائية (داخل النص وخارج النص) تمثل إطارًا حاكمًا لعمل الكاتب فيما قدمه من مؤلفات على الساحة الثقافية العربية، ومنها:

  • شخصية المرأة في التراث العربي: مجمع الأمثال للميداني نموذجًا (دار كنوز المعرفة/الأردن، 2015م)
  • أيقونة الهوية في الثقافة العربية (مطبوعات دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، 2016م)
  • الأدب وصناعة الوعي ( دار كنوز المعرفة/الأردن، 2017م).
  • سيرة الجماعة العربية في القصة التراثية ( مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع/الأردن، 2018م).
  • المثقف العربي ورؤية العالم: مقالات في النقد التطبيقي (دار الأكاديميون للنشر والتوزيع/الأردن، 2018م).
  • الخطاب الأدبي: مرجعية التجربة وشعرية الصياغة ( دار الأكاديميون للنشر والتوزيع/الأردن، 2019م).

تشكل العلاقة بين الذات – التي نتطلع إليها وإلى عملها بالتأمل الواعي المبني على التحليل الاستقرائي بغرض التأويل وإصدار حكم بعينه إزاءها – وعالمها نقطة انطلاق في محاولة البحث عن صورة ذهنية يقوم المتلقي برسمها فكرًا وعاطفة إزاء المبثوث إليه منها،  وقد تتنوع الصور تبعًا لتنوع الآليات المستخدمة من قبل هذا المتلقي في  أثناء اللقاء الجامع بينه وبين هذه الذات التي تشغل بالنسبة إليه موقع المرسل، وما يترتب على هذا اللقاء من أحكام يصدرها هذا المستقبل، المهم أن سكنى الذات في منطقة فاصلة بين مرجعها/عالمها ومن يتولون النظر إليها عبر أنساقها الفعلية الصادرة عنها يمثل المرتكز الأهم في هذه العملية التي تحدها أبنية إنشائية تساؤلية تقوم على مفاتيح للمعرفة من نوع:

من..؟

ماذا…؟

لماذا…؟

إن الصيغ الثلاثة بالنظر إلى المنتج الأدبي تحديدًا ومن يستقبلونه تفضي إلى وظائف عدة يؤديها النظام اللغوي القائم على الإخبار والإعلام من خلال من وماذا، و هذه الصيغة (لماذا) المتصلة بالجانب الفلسفي الذي يعانق ما هو ثقافي وتعني بالتفصيل؛ لماذا قالت الذات أو فعلت ذلك بكيفية بعينها؟ وتبدو خيارات القارئ في التعامل معها معتمدة على رصيد معرفي بإزاء الحالة (الشخصية والنص) موضع الاهتمام وعلى تراكم خبرات وتجارب يتيح لها عقد مقارنة بين هذه الذات وغيرها؛ ومن ثم تأتي الصورة أو ما يمكن تسميته صياغة القالب/ النموذج الذي يتيح للقارئ   وضع هذه الذات فيه بمثابة مرآة عاكسة وكاشفة لأنساق فاعلة متنوعة تتضافر جميعها في صناعة هذا النموذج:

  • نسق المرجع المحيط بالذات/الشخصية
  • نسق الاستقبال المعانق لتجربة المتلقي والخاضع لقناعاته وللوعاء الحامل خبراته وتجاربه
  • نسق الرسالة المنجزة نفسها وما يتعلق بها من هيئات تتصل بصيغتها التشكيلية، وبما يمكن أن تفضي إليه من قيم فكرية تترك أثرًا محددًا في وعي من يستقبلها.([1])

وفي ضوء ذلك نستطيع الوقوف أمام: مفتتحات، ومنطلقات قد يُعول عليها في صياغة وعي يمكن تسميته بوعي القراءة:

– مفتتحات:

  • يقول ربنا في كتابه العزيز: ” الرحمن. علَّم القرآن. خلق الإنسان. علَّمه البيان”([2])

وفي البيان باللغة طريقان: طريق الوضوح/المباشرة في التعبير عن الفكر والشعور، وطريق المجاز/الخيال الذي يرحل بالوعي من شاطئ إلى شاطئ، وفي أدق معانيه وأيسرها المقصود به – إذا ما توقفنا بالبيان أمام أحد أشكال التعبير الإنساني؛ ألا وهي اللغة – التعبير عن المعنى بلفظ غير لفظه، من هنا ننتقل بهذه المفردة (البيان) مما يمكن تسميته المستوى المعياري إلى المستوى الجميل الذي يأخذنا إلى مصطلحات مثل: الغموض، الرمز، نزع الألفة، الإغراب وغيرها مما يدخل في علاقة ترادف معها.

  • قول  نبينا صلى الله عليه وسلم تعليقا على رجلين قدما عليه من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما؛ فقال صلى الله عليه وسلم” إن من البيان لسحرا” ([3])

وإذا ما تم النظر إلى السحر من منظور ديني وشعبي نجد أن فيه نوعين: سحر بالولع والشغف والتعلق (القارئ مع/مؤيد/محب)، وسحر آخر بالكراهية والنفور والصدود والفراق (القارئ ضد/رافض/معارض).

ينقلنا هذا التصور  إلى الحديث عن  أقلام ثلاثة في عملية رصد الواقع وإحالته إلى صيغة مكتوبة:

  • الأول: قلم المؤرخ الذي يعتمد في عمله على محاولة نقل حرفي أمين لما جرى في عالم الفرد والجماعة، الماضي بالنسبة إليه شغله الشاغل، ولا شك في أن هذا القلم قد لا يكون مبرءًا تمامًا من نوازع الهوى والميل (مع أو ضد) في إنجاز هذه العملية.
  • الثاني: قلم الصحفي المحقق الذي يجعل من المضارع مناط اهتمامه نقلا وتعليقا، ولعل قنوات تواصلية مثل نشرات الأخبار المسموعة والمرئية والصحف والمجلات الورقية والإصدارات الإخبارية الإلكترونية تبدو بمثابة أداةً بارزةً تكشف عن حضور هذا القلم.
  • الثالث: قلم الأديب الفنان الذي يرتكز في علاقته بعالمه وحضوره  فيه على رؤية جمالية تعيد إنتاج المعيش وصياغته في ثوب رمزي يتغيا نظرًا يتجاوز المعنى المباشر الساذج البرئ، الذي بالقطع لا ينشده هذا القلم وصولا إلى ما وراءه؛ أي المعنى الثاني وفق منطوق الجرجاني (عبد القاهر)([4]).  وفي نشاط هذا القلم يصير العالم ماضيه وحاضره والمتوقع أن يحصل فيه وما يجب أن يكون فيه مادة متاحة ينتقي منها صاحبه ما يشاء.

إن العملية الأدبية إذًا بأشكالها المتنوعة تمثل مرآة عاكسة لهذا القالب التعبيري، تتيح للقارئ وقوفًا مميزًا على سياق العالم قد يساعده في إيجاد بعض ملامحه التي كانت في الماضي أو جانب مما يحياه ويعيشه في لحظته الآنية، أو يقدم له أفقًا ممتدًا قد يرى من خلاله حلمًا فردوسيًا يسعى إلى أن يكون حقيقةً ملموسةً في مستقبل أيامه.

  • منطلقات:
  • إن التعامل مع الشخصيات والنصوص الذي يتغيا أكبر قدر ممكن من الموضوعية والإنصاف يجب أن ينطلق من المحتوى الدلالي لهذا الدال الأثير (نقد) القائم على فكرة المقارنة والتمييز والتصنيف في إطار سياق حُكمي من الضروري أن يتجرد قدر  الاستطاعة من نوازع الانفعالية أو أية انحيازات سابقة التجهيز مع أو ضد…
  • ب‌-   الفضيلة وسط بين طرفين؛ فالتوسط والاعتدال يقع بين الغلو والإفراط من جانب، والتفريط من جانب ثان، أو بين التمجيد والتعظيم المبالغ فيه من جانب، والاحتقار والحط من الشأن من جانب ثان.
  • هذه المقولة الأثيرة لابن عباس ” كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر” في إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
  • إذًا النزعة الموضوعية في النقد المؤسسة على إجراء منهجي له مصطلحاته تمثل زادًا مهمًا في رحلة القارئ إلى عوالم الأدب على تنوع انتماءاتها –أي النوع الذي تصنف على أساسه – وولوجه إلى تفاصيلها من الداخل.

وفي هذا الكتاب نصافح ذوات وأعمالاً تسكن المكتبة الثقافية العربية في مسار معرفي أفقي جامع بين التراث والمعاصرة؛ ففي الفصل الأول نتوقف مع المتنبي (متوفى 354هـ) وأبي العلاء المعري (متوفى 449هـ)؛ ومن ثم فإن فن الشعر في ثوبه العمودي عنوان حاضر خلال هذا اللقاء، وفي الفصل الثاني ينتقل لقاء المتلقي بإحدى الذوات المبدعة نقلة زمانية ونوعية أيضًا، وفيه نتوقف مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش (متوفى 2008م)؛ ومن ثم فإن الشكل الأدبي الذي يمثل حلقة الواصل الجامعة بين الاثنين (الشعر الحر الذي يعكس طورًا متقدمًا في صياغة القصيدة العربية)، وفي الفصل الثالث يصاحب القارئ أحد أعلام المشهد الثقافي المصري خلال فترة زمنية ممتدة في القرن العشرين؛ ألا وهو طه حسين (متوفى 1973م) من خلال تجربته في الكتابة النثرية وتأتي سرديته الروائية “الوعد الحق” لتحظى بالنصيب الوافر  في هذه الوقفة، أما الفصل الرابع فيصاحب فيه القارئ فنونًا أدبية ثلاثة عبر ثلاثة ممن كتبوا فيها، الأول من التراث: يتمثل في فن المثل عند الميداني (متوفى 516هـ) وكتابه الجامع في الأمثال العربية (مجمع الأمثال)، والثاني: فن الرواية عند فؤاد قنديل (متوفى 2015م) من خلال إحدى رواياته “روح محبات” التي تنتمي إلى توجه في الكتابة الأدبية الواقعية يسمى (الواقعية السحرية)، أما الفن الثالث الذي نلتقيه في هذا الفصل فهو ما يُعرف بالقصة الومضة التي تعكس مرحلة شديدة التقدم في صياغة فن القصة، وتسعى الدراسة إلى مقاربته من خلال إحدى كاتباته؛ ألا وهي الكاتبة السورية عاتكة الطيب، وفي الفصل الخامس تنتهي رحلة المتلقي مع أحد أعلام فن المقال الأدبي في القرن العشرين؛ ألا وهو زكي نجيب محمود (متوفى 1993م) من خلال أحد نماذج مجموعته المقالية “جنة العبيط”.

إن الكتاب من خلال فصوله الخمسة ينطلق من قضية أثيرة ذائعة الصيت في الوسط النقدي تتجلى  في معالجة العلاقة بين المرجع الخارجي الذي تستقي منه الذات المبدعة تجربتها والأثر الفاعل لهذا المرجع الذي على أساسه  يتشكل وعيها والشكل التعبيري الصادر عنها الذي يحيل المجرد الفكري والنفسي المتولد عن هذه العلاقة إلى منجز ملموس يمكن مقاربته والتأسيس من خلاله لوعي جديد، هو وعي التلقي؛ ومن ثم فإن مفردة الخطاب الحاكمة لهذا البناء الرباعي المكون من : عالم، وذات مبدعة، ونص، وقارئ تجعل من هذا النص أسيرًا لسلطات ثلاثة: سلطة مرجعية تتصل بالأديب وحياته في عالمه، سلطة الشكل الذي يقولب ويحتوي ويحد المنتج الذهني والنفسي الناجم عن السلطة الأولى، ثم سلطة التلقي التي تصبغ النص بصبغة خاصة في محاولة رصدها له تحليلاً وتأويلاً، وفي ضوء هذه السلطة يمكن الوقوف على مسارات النقد الأدبي حديثًا التي تأخذنا إلى أطوار ثلاثة يمكن إدراك ظلالها في داخل الكتاب: الطور التقليدي، وطور الحداثة وطور ما بعد الحداثة.

وقد جاءت عناوين فصول الكتاب على النحو الآتي:

الفصل الأول: الذات بين مرجعها الواقعي وحضورها التداولي.

الفصل الثاني: أنساق المعرفة في الخطاب الأدبي

الفصل الثالث: الأديب والعالم والنص: بلاغة التجربة.

الفصل الرابع: الخطاب الأدبي وثقافة الوهم

الفصل الخامس: الصياغة الجمالية للعدد في الفن

والله أسأل نية خالصة لوجهه في هذا العمل، وأن يجد القارئ بين صفحاته ما يضيف إليه شيئًا ينفع ويُصلح بإذنه، وأن يغفر لي  ما كان فيه من خطأ؛ فلله وحده الكمال، والحمد لله رب العالمين.


[1]– في كتاب فتنة التأويل: المتنبي من النص إلى الخطاب معالجات تفصيلية لهذه الحالة متوسلة بإطار مصطلحي، يقوم على مفردتين بارزتين هما: الكفاءة والآلية، وقد أشار د عبد الرحمن عبد السلام صاحب الكتاب إلى اتصال مصطلح الكفاءة بالنظر إلى تجربة المتنبي وتجلياتها الفنية بفكرة الصراع الحاكمة لعلاقته بسياق عالمه وإطاره الزمني الآني الذي شهد ظهوره وكانت له ظلال مؤثرة للغاية ألقتها على وعيه ومن ثم على بنائه الفكري والعاطفي .. ويقود مصطلح الكفاءة إلى فضاء الآلية الذي يشير بشكل جلي إلى المنجز الأدبي في ذاته وظهوره على هيئة تشكيلية تستثير الرعية المتلقية وتدفعها دفعا إلى إقامة علاقات تفاعلية معها، وما يستتبع ذلك من غاية تعانق منطقة الحلم المجرد لدى كل ذات قلقة تنشد انعتاقا من سياق أرضي واقعي يلقي بحجب ويحول بينها وبين حضورها الكامل المنشود على ما في تلك الغاية من محاولات للتلبس بقيم المثالية المطلقة وما يصاحبها من فكرة البطولة القائمة على التفرد والحضور العبقري المميز.

– يمكن الرجوع تفصيلا إلى: د .عبد الرحمن عبد السلام، فتنة التأويل: المتنبي من النص إلى الخطاب، الفصل الثالث: الخطاب المتنبوي (الفكاءة- الآليات – الغاية) من ص631 إلى ص722، الطبعة الأولى، 1437هـ، 2016م، مكتبة الآداب، القاهرة.

[2]–  سورة الرحمن: الآيات: 1، 2، 3، 4.

[3]– ابن حجر العسقلاني، فتح الباري: شرح صحيح البخاري، صحيح البخاري، كتاب الطب، باب: إن من البيان لسحرا، موقع المكتبة الشاملة على شبكة المعلومات الدولية، http://shamela.ws/index.php/book/1673

[4] – انظر: الجرجاني (عبد القاهر)، أسرار البلاغة، من ص 22 إلى ص26، الطبعة الأولى، 1411هـ، 1991م، دار الجيل، بيروت.