سُئل عليه الصلاة والسلام عن سُنَّته فقال: “الحزن رفيقي، والشوق مركبي، وَقُرَّةُ عيني في الصلاة”.

من عمق أعماق الوجود يرتفع شجَن لا يدركه إلا روح نبي… ومن قلب الحياة يسري شَجْو لا تسمعه إلا أذن نبي… ومن الغبطة نفسها ينساب حزن خفي لا يحس به إلا فؤاد نبي… والكون كله طاقة حنين لا تقوى على احتمالها إلا نفس نبي.

و”القرآن” -نبض الوجود وخَفْق الكون- بالحزن نزل، وعلى قلب حزين نزل: “إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا” (رواه ابن ماجة) كما قال عليه الصلاة والسلام.

فأيُّ إنسان لا يذكر أنه في يوم ما انبعثَ عنه نُواح حزين دون إرادة منه، وأن حنينًا فاجأه -على حين غِرة- حمله على التّأوه والألم من غير أن يعرف له سببًا، وكم بكى الإنسان وهو في عنفوان فرحه، وكم ظُلمة في النفس أضاءها الحنين وطهرها الدمع الهتون؟.. وكم أنّة في الأسحار سمتْ بالإنسان حتى ارتقى أسباب السماء بلا علم ولا عمل؟.. وكم خيال شبّت فيه النيران وألهبت عقلاً باردًا لم يعرف صاحبه شوقًا ولم يذرف دمعًا؟.. فعظمة الإنسان، في تحرره من مصائد الأزمنة والأمكنة، وفي قدرته على احتمال عذب الحنين، وعذاب الشوق الدفين حاديه إلى الخلود حيث يرسو مركبه على أبواب الأبدية، وحيث ترتفع البراقع، وتنـزاح الحجب، وتتعرى حقائق الأفكار والأشياء، ويتنفس الإنسان أنفاس الحياة الأبدية دون خوف من فقدانها أبدًا.

إن روحه -عليه الصلاة والسلام- تسبح في ملكوت حزن كوني مبعثه التياع واشتياق يضطرم به قلب الكون في ظمئه اللاهب إلى أنداء الرحمة الإلهية التي من دونها يتطاير شظايا في الفضاء ويتحول إلى رماد بارد لا حس له ولا شعور… فحزنه عليه السلام يتعاظم في أطواء نفسه الشريفة وهو يصغي إلى روح الكون، وهو يترنم شجى ووجدًا: حنانيك يا رب… لا خِل إلا إياك… ولا صاحب سواك… ولا سلوة وعزاء إلاّك!..

حزنك يا رسول الله أراق دمع الوجود، وأهرق أسى الأكوان، وأشعل جذوة حنين في قلوب المؤمنين… يا أسوة حزن كل حزين، ويا دثار الواجدين المشفقين، ويا سلوان الحزانى والمتألمين!..

ولأنه يتيمًا ولد، فألمُ اليتم في روحه دفين، وظلال حزنه تظل بهجة روحه، وتلاطف إشراقة وجهه، وتمازج تبسُّم ثغره… فمع اليتم يمضي في كل مرة… أبوه الذي لم تكتحل عيناه برؤيته… ثم أمه جليسة فؤاده الصغير… ثم جدّه ركنه الركين… ثم عمّه الحامي والنصير… ثم زوجه خديجة، وما أدراك مَن خديجة رضي الله عنها… فكل أولئك الذين بكاهم الواحد تلو الآخر من قبلها، عاد يبكيهم بحرقة أشد وأعظم في شخص خديجة… ثم مكة شقيقة الروح وشِلْو الفؤاد… والكعبة توأم وجوده في عالمي الغيب والشهادة، تلك التي هي “أحبُّ بلاد الله إلى قلبي، ولولا أن قومكِ أخرجوني، ما خرجتُ عنكِ أبدًا وما ابتغيتُ عنكِ بديلاً”. (رواه الترمذي)

وإلى “الطائف” يمضي، وروح اليتم ظل يتبعه، والأسى يحث خطاه إلى جانبه… وها هي “الطائف” تتسافه عليه، وتتنكر له، وترده عنها!..

يا ذات اللسان الدنس، ويا صوت الرجس، يا عنيفة يا غضوب… على مَن تتسافهين؟.. وعلى مَن تعنفين؟.. على مَن جاء يخطب وُدّكِ، ويحبوكِ خيره، ويعلمكِ الإيمان ويهديكِ للإسلام؟! “إنْ لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي”… مَن له قوة نفس كما لقوة نفس محمد صلى الله عليه وسلم في مواجهة المحن… ومن التهيؤ لاحتمال ما تأتي به الأيام من الكروب والآلام؟.. إنه يصعِّد آهة حرّى… ولكن ذهنه في غاية الصفاء، وروحه في غاية النقاء، وعيناه النديتان فيهما رقّة وإشفاق…

جبريل: إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين.

نبي الرحمة: اللّهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.

وقِطف من العنب على طبق يأتي به “عدّاس” ويضعه بين يديه عليه الصلاة والسلام… يتناول القِطف: بسم الله… و”عدّاس” يشده: هذا كلام لا يقوله أهل هذا البلد.

– “من أي البلاد أنت”؟

– من نينوى.

– “من قرية أخي العبد الصالح “يونس بن متّى”؟

– وما أدراك بـ”يونس”؟

– “أنا نبي… وهو أخي في النبوة”.

وينكبّ “عدّاس” يقبّل يديه ورجليه ويهمُّ أن يغسل بدموعه دماء عقبيه… ويعود “عدّاس” إلى سيّده بغير الوجه الذي جاء به… بينما يعود محمد عليه الصلاة والسلام إلى مكة بالحزن نفسه الذي جاء به.

من منابع الحزن في أرجاء الكون شرب فارتوى… وإلى ترانيم الأسى من قلب الكائنات أصغى وسمع… أمّا حزنه هو فقد هزّ السماء، وأقضّ مضجع الخليقة… إنه حزن العزيمة المتعالية فوق كل الإحباطات، وومض الروح المتسامي على كل أحزان الأرض… إنه حزن الرضى بما تأتي به المقادير، وبما يقدِّره الحبيب على الحبيب… حزن الثورة على ظلمات الدنيا وجهالات الإنسان… الحزن الذي يبلغ من القوة حدًّا يستطيع معه أن يحطم كبرياء أعظم طواغيت الأرض غطرسةً، وأن يقهر أشدّ أنواع القهر والعذاب… إنه حزن مضيء يغمر بالأمل كل مَن يلتقيه وما يلتقيه… إنه حزنُ نبي يريد أن يحرك العالم، ويستنهض جنس الإنسان ضدّ العبوديات والصنميات… إنه حزن مَن يريد أن يهزّ صدر العالم ليعيد لقلبه نبض الإيمان قبل أن يسكت إلى الأبد.

إن سيرة أحزانه عليه الصلاة والسلام إيماء لأصحاب الأرواح التائهة بتقبل الالآم كطريقة وحيدة لا مناص منها لاسترداد أرواحهم المغيبة وشحذ ما تراكم عليها من صدإ حائل بينها وبين الفهم عن الأنبياء وإدراك عظمة الرسالة التي بُعثوا بها.

صرخة يأس انفلتت من “أبي بكر” في لحظة ضعف دون قصد منه، وكأن معين الشجاعة عنده قد نضب، ورصيد الثقة بالنصر قد نفد، كانت صرخة إشفاق على صاحبه طوتها ظلمة الغار، وامتصتها جدرانه المصمتة: “لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لكشفنا”!

أومضتْ عينا الرسول عليه السلام ببريق الثقة التي لا يهزها شيء، وجرى صوته في جنبات الغار هادئًا نديًّا مطمئنًّا: ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾(التوبة:40).

ليس بحزن على نفسه، ولا بخوف على شخصه… إنه قد عاهد الله من قبلُ أن يبيع نفسه لكي يشتري بها أيّ لحظة حزن أو ألم يمكن أن تعتور نفس صاحبه المفدّى.

ولم يكد يسمع جواب الرسول عليه السلام حتى شعر وكأنّ ماءً برودًا صُبَّ على نار خوفه وإشفاقه فأطفأها إلى الأبد، وأن شلاّلاً من القوة اقتحم نفسه وشرع يسقي برذاذه كل ما داخل نفسه من أسباب الضعف والخوف، فما عتمتْ أن أشرقت روحه بشعاع من جلال الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة بأسه وثباته في الملمات، وقد غاب عن ذهنه في لحظة الضعف تلك أن جلال محمد وقداسته هي التي تجعل الكون في خدمته وبين يديه، فأخذ يقترب من الرسول شيئًا فشيئًا ليلامس جِلدُه جِلدَه وكأنه يريد أن يستدفئ من بَرداء الخوف بحرارة الإيمان المنبعثة من صاحبه عليه السلام.

الحزن علوي المنبع، إلهي المنـزع، جمالي المرتع، بطولي المنشأ، يمتزج بأجزاء النفس، ويجري في مسارب الروح، يمسّ أكبادنا بجذوة من نار الأشواق، وينير جنباتنا بشعاع من سجدات المحراب… إنه الدمعة والابتسامة، والخوف والرجاء، واليأس والأمل، فهو خليق بالعُبّاد والزهاد، والساميين من الرجال، وبقلوب الأنبياء والرسل من ذوي العزمات والبطولات، وهو الذاكرة التي تستقطر دموع الجنس البشري، وتستذكر آلامه ومآسيه… فمِن الحزن ينبعث إنسان المهمات الصعبة، وتتنامى البطولات، وترتفع العزائم، وتزدهر الفضيلة، ويولد نبلاء الفكر، وتثور ثائرة العقل، وتتعزز قوى الحواس، ويفتح الخيال أبوابه، ويرتفع صرح الإيمان وتتوازن الحضارات فلا تشتط، وتستقيم المدنيات فلا تنحرف ولا تنـزلق…

فالحزن الروحي سرّ يجِلّ عن إدراكنا، إنه ينبئ عن قلب عذْب المشاعر، عالي الأحاسيس، ثري العطاء، مفعم الفضيلة، زاخر الحكمة، ظمّاءٌ للحق، بكّاءٌ على نفسه، رثّاءٌ للإنسان إذا هوى، وللفكر إذا طغى، وللحق إذا غوى…

وهو سبّارٌ لأغوار النفس، كشّافٌ للطائف الإنسان، صقّالٌ لمرايا القلب، سقّاءٌ لجدب النفوس لتخصب، ولغلظة الأفئدة لتشفَّ، ولوحشية الضمائر لتتهذب…

ذلك هو الحزن الذي كان رفيقًا للأنبياء والأولياء والصالحين، وحسن هو رفيقًا وخدينًا وأنيسًا…

لا شيءَ أقدرُ على أن يعمر قلوبنا حنانًا وطهارةً مثل الحزن، فلمسة منه يمكن أن تنتشل روحًا من هاوية الدنس، وتنقي قلبًا غارقًا في وحْل الضلالة… وللحزن رؤيا قلَّما تخطئ، وله فراسة قلَّما تكذب، وهو ألصق بالصديقين والأولياء والصالحين ناهيك عن الأنبياء والمرسلين. فكم مسَّ من أوتار قلب فأشجتْ، وكم روحًا اهتزت له وبه صحتْ من نوم ثقيل، وكم عقلاً أيقظ، وكم فكرًا هدى، وكم ذنبًا مسح، وكم حمل إلى الله تعالى من ضراعة وشفاعة، وكم رفع إليه من دموع، وصعّد إليه تعالى من خشوع وسجود، وكم كشف من مستور، وخرق نظرُه المنظور وغير المنظور من الأيام والدهور… هكذا هو حزنه عليه السلام، يخرق الزمن، ويسيح في التاريخ، ويرى أمته في آلامها وآمالها: “لو علمتم ما أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلاً” (رواه البخاري)… إنه يرى شلاّل دم يتفجر من “عمر وعثمان وعلي والحسين” رضي الله عنهم أجمعين، ولا يتوقف أبدًا، ويرى ولَهَ ابنته “فاطمة” وحزنها عليه إذا ما غادر الدنيا إلى الرفيق الأعلى، ويكاد يذوب حزنًا على ولده “إبراهيم” وهو يجود بنفسه، فتدمع عيناه، ويرق فؤاده: “إنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، فالعين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا” (رواه مسلم)… والحزن نفسه ينتابه على حفيده من ابنته “زينب” وقد حضره وهو يحتضر، ويتلبسه حزن لا يوصف حين يجد النساء يبكين شهداءهم في “أحد” فيقول: “أما حمزة فلا بواكي له”.

فحزن محمد صلى الله عليه وسلم ليس كالأحزان، ودمعه ليس كمثله دمع، فدمعة واحدة من عينيه الشريفتين قمينة بأن تُنبت غابة أحزان يستظل بها الحزانى السنين الطوال، وتستعصر مدامع السماء، وتهيج أحزان الأرض… غير أن “الزمن” يتدفق بصمت لا يلوي على شيء من الأحزان إلى حيث تقوده أقدار الله تعالى، إنه ليتدفق تتبعه حفقات قلب حزين هو قلب محمد صلى الله عليه وسلم خفقة من بعد خفقة، وزمنًا من بعد زمن، فيرى ويكتم، ويرى ويحزن، فياللهِ ما أعظمَ حزنَه!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

(1) الشفا، للقاضي عياض.

(2) السيرة النبوية، لابن هشام.