الجمال الابتلائي والجمال التعبدي

الجمال في دلالته الأصلية الابتدائية هو الحسن والبهاء والزينة، وإذا تعلق بالإنسان اشترط فيه التناسق والكمال في جميع الأحوال في صيغة كلية لا تقتصر على جزئي من جزئياتها. قال الراغب الأصفهاني في “المفردات” في نص “هو المؤسس لهذه الكلمات المتواضعة”: “الزينة الحقيقية ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة، فأما ما يزينه في حالة دون حالة فهو من وجه شين. والزينة بالقول المجمل ثلاث: زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنية كالقوة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال والجاه. فقوله (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)(الحجرات:7) فهو من الزينة النفسية، وقوله (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ)(الأعراف:32) فقد حمل على الزينة الخارجية؛ وذلك أنه قد روي أن قومًا كانوا يطوفون بالبيت عراة، فنُهُوا عن ذلك بهذه الآية. وقال بعضهم: بل الزينة المذكورة في هذه الآية هي الكرم المذكور في قوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات:13)”. وهو في التصور الإسلامي مقصد أصيل وظيفته خدمة كليٍّ من الكليات المقاصدية الكبرى. وقد تعبر عنه اللغة التجريدية كما تعبر عنه اللغة التصويرية، وذلك غالب الشريعة كما هو الحال بالنسبة لمجموع الصور الفنية اللغوية المنظومة في آي القرآن وجوامع كلم النبي -صلى الله عليه وسلّم-، وكذا الصور التجسيمية إذا أمنت الوقوع في حرم أصول العقيدة وقواعد التوحيد.

والجمال في التصور الإسلامي، سواء تعلق بصورة الإنسان أم بفعله ونظامه النفسي، أم بنعم الله الوجودية في الخارج، كل ذلك لا يخلو من تأطير نوعين من الإرادة مرتبطين بمشيئة الله في خلقه هما إرادة التكوين، وإرادة التكليف. فما كان من الأولى فهو راجع إلى إرادته سبحانه الكونية القدرية المتعلقة بربوبيته وخلقه، وما كان من الثانية فهو راجع إلى إرادته الأمرية التشريعية المتعلقة بألوهيته وشرعه. فالأولى عنوانُها توحيدُ الربوبية، والثانية عنوانُها توحيدُ الألوهية. والأمران غير متلازمين؛ فقد يقضي ويقدر ما لا يأمر به ولا شرعه، وقد يأمر بما لا يقدره ولا قضاه. وقد يجتمع الأمران معًا، وقد ينفرد الكوني فيما وقع من المعاصي كما ينفرد التكليفي فيما وقع من الطاعات. وإذن فالإرادة القدرية الخلقية هي “المتعلقة بكل مراد؛ فما أراد الله كونه كان، وما أراد أن لا يكون فلا سبيل إلى كونه… والإرادة الأمرية هي المتعلقة بطلب إيقاع المأمور به وعدم إيقاع المنهي عنه. ومعنى هذه الإرادة أنه يحب فعل ما أمر به ويرضاه، وكذلك النهي يحب ترك المنهي عنه ويرضاه”.

في الجمال الابتلائي

إذا ثبت هذا، فالجمال الابتلائي هو أسباب الزينة التكوينية الابتلائية الموضوعة سببًا للاستمتاع على الإطلاق، بناء على أن “الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاء للعباد وامتحانًا لهم، فإنها طريق إلى السعادة أو الشقاوة”. أي هو جملة النعم التي امتن الله بها على عباده وجعلها حجة على خلقه، فهي دائمة الاسترسال على العبد دون انقطاع. لكن ذلك كله مسيج بغطاء مشيئة الله في خلقه بقصد ابتلائهم واختبارهم قضاء وقدرًا. وعلى هذا النوع من الجمال وضعت أصول تلك النعم في الكون ابتداء، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(الكهف:7)، وقال سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النساء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)(آل عمران:14)، وقال أيضًا: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِين)(الملك:5)، وقال أيضًا: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقَِ)(الأعراف:32).

فهذه الزينة إنما وضعت للناس -جميع الناس- فلا يتعلق بها مدح أو ذم من حيث هي كذلك قبل التكليف بمقتضياتها اللازمة عن الدخول في قانون الانتساب الإيماني، وإن تعلق بها شيء من ذلك فهو تعلق عام وليس خاصًا كما تعلق العالمان العلوي والسفلي بالمحبة والإرادة عمومًا. قال ابن القيم في تعليقه على الآيات السالفة: “فأخبر سبحانه عن خلق العالم والموت والحياة وتزيين الأرض بما عليها أنه للابتلاء”. وقال سيد قطب مقررًا هذه الحقيقة: “ونظرة إلى السماء، كافية لإدراك أن الجمال عنصر مقصود في بناء الكون وأن صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق، وأن الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي وأن تصميمه قائم على جمال التكوين… فكل شيء فيه يؤدي وظيفة بدقة وهو في مجموعه جميل”. وقد أشار الأستاذ الأنصاري -رحمه الله- إلى هذه النكتة بإشارة لطيفة فقال: “فالزينة الكونية مبعث وجداني للتحلي بالزينة الإيمانية”. والكون هنا كما ترى، ليس بمعناه الفيزيائي الضيق فقط، ولكن بمعناه الابتلائي الرمزي الراجع إلى القضاء والقدر بدليل مقابله وهو “الزينة الإيمانية”. ثم لأن الجمال التكويني لابد وأن تكون أشياؤه التي يزدان بها الناس، مغايرة لهم منفصلة عنهم. قال الدكتور توحيد الزهيري في تعليقه على آية الزينة السالفة في سورة الكهف: “بنص هذه الآية نعلم أن الجمال الذي تبديه الأشياء هو حقيقة موضوعية توجد خارج النفس الإنسانية وتستند إلى عمل إلهي هو “التزيين”، والغاية منه هو الابتلاء”. والجمال الإيماني التعبدي شرارة من باطن المؤمن متصلة به غير منفصلة.

في الجمال التعبدي

إن الجمال الابتلائي إذن، قدَر سُقي بماء المشيئة القهرية الخــلقية، وخرج من ينابيع حروف (كُنْ فَيَكُونُ) لتسطر قواعد التكليف وتنظيم الهوى، فلا يبقى المكلف كالبهيمة المسيبة تسترسل في نيل لذاتها واقتناص شهواتها دون داع يقيِّد أو حامل يزع عن الوقوع في المحظور. ومجموع ذلك هو قصد الشارع العام من وضع الشريعة، كما قال أبو إسحاق: “المقصد الشرعي من وضع الشريعة، إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا”. فالجمال التعبدي إذن، من لوازم عبادة المؤمن الاختيارية والخروج من عبودية الاضطرار، والتحلي بزينة أصل الإيمان هي حقيقته المجسدة له كما قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)(الحجرات:7). والباعث على ذلك توحيد الرب -سبحانه وتعالى- وتفريده بالعبادة وحمده وشكره على النعم الموضوعة في الكون أسبابًا تكوينية لذلك. ومن هنا قالوا في تعريف “الحمد” -لمناسبته له- إنه “الوصف بالجميل على الجميل الاختياري للتعظيم”. والشكر أخوه في هذا الميدان، غذاهما أصل الإيمان بلبانه فصارا من أبنائه. قال ابن القيم: “فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده فإنه من الجمال الذي يحبه، وذلك من شكره على نعمه وهو جمال باطن”. وأما التوحيد فهو القناة الابتدائية المعرفة بذلك كله، الحاكمة عليه في سلم منازل الإيمان، لأنه يستلزمهما في منظومة التشريع الإسلامي ومقاصده التعبدية، فيكون هو سفينة النجاة حينما تتكاثر النيات وتتشعب طرقًا ملتوية في بحر الإرادات، حتى إذا ارتقى على متن صهواته العبد الحائر في الفلك السائر كان قد حصل على أمانه -أولاً- من اختطاف أمواج النزوات والرغبات المرعبة، ثم جال -ثانيًا- بجوانحه المطمئنة في فضاء أسراره، هنالك يصادف -ولو تبعًا- معارجَ الإيمان فيتنسم من صفو عليلها قطعًا تنشل رئتيه من حريق التيه القاتم، فتحيا بانتشاقها ويطرب قلبه لشذاها، فلا يزال يذوب كاللحن على وتر، ولا يزال يرتقي بحادي المحبة في معارجها يضاهي به حب الطيور ربيعها، وحب الزهور عبيرها، بل وحب الطريد لمأمنٍ يستدفئ به من برد الشهوات القارس. قال الأستاذ النورسي يجلي حقيقته الجمالية: “إن ثمرة واحدة وزهرة واحدة وضياء واحدًا، كل منها يعكس كالمرآة الصغيرة رزقًا بسيطًا ونعمة جزئية وإحسانًا بسيطًا، ولكن بسر التوحيد تتكاثف تلك المرايا الصغيرة مع مثيلاتها مباشرة ويتصل بعضها بالبعض الآخر، حتى يصبح ذلك النوع مرآة واسعة كبيرة جدًّا تعكس ضربًا من جمال إلهي يتجلى تجليًا خاصًَّا بذلك النوع، فيظهر سر التوحيد جمالاً سرمديًّا باقيًا من خلال ذلك الجمال الفاني المؤقت… بينما إن لم ينظر إلى ذلك الجمال بنظر التوحيد، أي لولا سر التوحيد؛ لظلت تلك الثمرة الجزئية سائبة وحيدة فريدة معزولة عن مثيلاتها فلا يظهر ذلك الجمال المقدس ولا يبين ذلك الكمال الرفيع، بل تنكسف حتى تلك اللمعة الجزئية المتعلقة منها وتضيع وتنتكس منقلبة على عقبيها من نفاسة الألماس الثمين إلى خساسة قطع الزجاج المنكسر”. فالتوحيد -بما هو كلي معنوي مستفاد من حقيقة النعم ووظيفتها وليس من هياكلها المادية- هو المقصود ابتداء من تلك النعم والآلاء المتجسدة في تلك الهياكل، فهو جمال تعبدي باطن يترجمه جمال تلك النعم الراجعة إلى المشيئة الخلقية القدرية الحاكمة على الجميع في الخلق. فالتوحيد الممثل هنا لحقيقة الجمال التعبدي، يجعل الناظر يبصر الموجودات الكونية في الدنيا بما هي مرآة للجمال الإلهي السرمدي المطلق. ومن هنا -وقبل كل شيء- كان “الشرك استهانة بشعة بالكون وتعدٍّ عظيم عليه وحط من قيمته وتهوين من شأنه”. قال الشاطبي يسرح في المساق نفسه: “فالحاصل أن ما بث فيها (أي الدنيا) من النعم الذي وضعت عنوانًا عليه -كجعل اللفظ دليلاً على المعنى- باقٍ وإن فني العنوان”. وإنما الذي وضعت عنوانًا عليه هو التوحيد وهو جمال مسترسل لا يفنى، يدل عليه جمال النعم الكونية الابتلائية الذي عما قريب سيفنى دونه كفناء الرسم دون الروح. وإنما جعل هذا لخدمة ذاك وتخليصه من التبعات التي تعلق به في الدنيا والآخرة. قال في سياق المقابلة بين النوعين بعد سرده لآيات الزينة والجمال: “فامتن تعالى وعرف بنعم من جملتها الجمال والزينة وهو الذي ذم به الدنيا في قوله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ)(الحديد:20)، بل حين عرف بنعم الآخرة امتن بأمثاله في الدنيا وهو كثير… فأنزل الأحكام وشرع الحلال والحرام تخليصًا لهذه النعم التي خلقها لنا من شوائب الكدرات الدنيويات والأخرويات. فهذه النعم بدون خضوع لقوانين الامتثال التكليفي التعبدي تصير أشباحًا بلا أرواح، ورسومًا بلا عنوان يترجم حقيقتها ووظيفتها ويضفي عليها جمالها ورونقها. أو بعبارة العلامة النورسي “تنتكس منقلبة على عقبها من نفاسة الألماس الثمين إلى خساسة قطع الزجاج المنكسر”.
وأما ما يتعلق بلباس العبد وعمرانه المادي وفعله الخارجي عمومًا، فهو ترجمة لجمال الإيمان فيه ولرمزيته المتفجرة عيونًا رقراقة وأزهارًا يانعة في قلبه ضاربة بأعماقها في مجاهيل الوجدان والشعور. ومن هنا نفهم قول الراغب الأصفهاني في جعله آية الزينة في سورة الأعراف مؤطرة ضمن حقيقة “الزينة الخارجية” في نصه السابق، لأنها وردت في اللباس كما هو متداول عند المفسرين وقد أشار إليه.

فبؤرة هذا النوع من الجمال، مرآة تصويرية لنعم الله الكونية عبر قنوات الشكر والحمد والتوحيد، ضاربة بأعماقها في صلب شرايين قلب العبد النفسي والشعوري، لأن قلبه -كسائر القلوب- “أعظم مرايا العالم وأكثرها سعة وأشفها شفافية وأتقاها صفاء، لذلك جعل موضع نظر الله تعالى، ومهبط أنواره وتجلياته ومستودع إلهاماته وخزين غيوبه ووعاء وحيه وخطابه”. فإذا رسخ قلبه في الإيمان وامتلأ هذا المستودع بتلك الأنوار، فاض على الجوارح والعمران، والمشيمة المغذية هي القرآن.

فصار الجمال الكوني -بذلك الاعتبار- مبعثًا شعوريًّا للجمال التعبدي التكليفي، وهذا مدلول له والآخر دليل عليه في معادلة جمالية متبادلة الطرفين طردًا وعكسًا في حركة العبد التعبدية. ومن هنا استحال -في حقوق الله- فصل حق الربوبية عن حق الألوهية في منظومة التوحيد الوجداني -دون تقسيمات الكلام الجافة- وأنه لا محبة من العبد خالصة إلا بمجموعهما.

ومن هذا المسلك أيضًا خرجت صور التشكيل الإيمانية عبر التاريخ الإسلامي، لترسم لوحات فنية تحكي فيها قصة عروج القلب عبر مدارج السالكين إلى الله رب العالمين، من مثل “منطق الطير” لفريد الدين العطار، و”كشف المحجوب” للهجويري، و”مدارج السالكين” للعلامة ابن قيم الجوزية، و”رحلة الطير” لحجة الإسلام الغزالي، و”التلال الزمردية” للعلامة محمد فتح الله كولن، و”قناديل الصلاة مع جمالية الدين” لأستاذنا فريد الأنصاري… وغيرها كثير من (سمفونيات) الجمال التعبدي التي عزفتها ألسنة قلوب كثير من الربانيين قدماء ومحدثين.

وخلاصة الأمر المجزئة في السياق، أن إدراك الجمال الكوني إنما تكفي فيه الفطرة فقط، لأن أسبابه موضوعة -كما قيل قبل- لاستدعاء متعة الناس من حيث هم كذلك على الإطلاق. وأما التعبدي فهو ذوقي انفعالي خاص تالٍ للأول لابد فيه من الخضوع لمبادئ التكليف، لأن الفطرة فيه قد تضعف عن معرفة الأسباب والشروط المقتضية له وكذا الموانع العارضة فيه لقصد الشارع. ومن هنا سقط تذوق غير المسلم للصور التشكيلية في مهاوي الاستصنام التألهي للمخلوقات تارة ولشهوات “الليبيدو” تارة أخرى. والله سبحانه هو الواقي.

(*) كاتب وباحث من المغرب.

المراجع

(1) الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق الشاطبي.

(2) روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن قيم الجوزية.

(3) في ظلال القرآن، لسيد قطب.

(4) جمالية الدين: معارج القلب إلى حياة الروح، لفريد الأنصاري.

(5) نحو فلسفة إسلامية للجمال والفن، لتوحيد الزهيري.

(6) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، لـ”الشوكاني”.

(7) الشعاعات، لبديع الزمان سعيد النورسي.

(8) الصور والمرايا في تراث النورسي الفكري والوجداني، لأديب إبراهيم الدباغ.