التفاؤل والأمل في قصة يوسف -عليه والسلام-

قصص القرآن الكريم فيها ما يبعث على الأمل والتفاؤل الذي تحيا به النفوس ويزكو به الإيمان. وسنّة الله تعالى اقتضت أن تتولّد الآمال مع اشتداد الكروب، وأن تبزغ خيوط الصباح من ظلمة الليل البهيم، وأن تحلو حكايات السلوان في غمرة الأحزان ومن ثنايا الآلام والخطوب. وهذا ما نجده في حديث القرآن عن الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام.

عام الحُزن والأمل القادم

لعل أحرج فترات السيرة العطرة وأشقّها ما كان بمكة قبيل الهجرة بثلاث سنين، حين ماتت زوجه -صلّى الله عليه وسلم- خديجة -رضي الله عنها-، إذ كانت له وزير صدق على الإسلام؛ يشكو إليها، ويستشيرها، ويأوي إليها في ختام يومه الدعوي الحافل. ثم مات عمه أبو طالب بعد ذلك بقليل، وكان منعة له وناصرًا على قومه. ثم وقعت حادثة الإسراء؛ فاستغرب أكثر الناس، وكذبوا، وارتد البعض، وانكفأت الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد، وتجرّأت قريش على النبي -صلّى الله عليه وسلم-، ونالت من شخصه الشريف ما لم تنل من قبل.
سمّى النبي -صلّى الله عليه وسلم- ذلك العام بـ”عام الحزن” لِما كان يعاني فيه من الوحشة والغربة، ولِما عانت معه الجماعة المسلمة من الكربة والشدة. في هذه الفترة، أنزل الله تعالى أربع سور كريمات: سورة الإسراء، وسورة الفرقان، ثم سورة يُونس، وسورة هود. والمتأمّل في هذه السور بخاصّة، يجد فيها من التسلية والحنوّ، والتثبيت والتسرية، ومن أخبار الأنبياءِ مع أقوامهم، وأيامِ اللهِ تعالى فيهم، وإدالة الحق وأهله، ما يقوّي عزم النبي -صلّى الله عليه وسلم- وعُصبتِه المؤمنة، ويبعث على الثبات رغم الشدائد. وقد صرّح الحق سبحانه بهذا المقصد العظيم في خاتمة سورة هود بقوله جلّ شأنه: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(هود:120).
وفي أعقاب هذه السور الكريمة، وفي خضّم تلك الأحداث، تنزل سورة يوسف لتكون بلسمًا وحنانًا ورحمة من الله تعالى وسلوانًا.

قصّة يوسف وبشائر التمكين والفرج

قصّ الله تعالى على نبيّه الأمين قصة أخٍ له كريم، هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، وعرض له ما كان يعاني من صنوف المحن والابتلاءات: محنة كيد الإخوة، ومحنة الوحدة في الجُبّ، والترويع والخوف، ومحنة الرِّقّ التي ظلّ يتنقّل بسببها من يد إلى يد على غير إرادة منه ولا حماية ورعاية من أبويه وأهله، ومحنة الابتلاء والإغراء والشهوة، ومحنة الفتنة بكيد امرأة العزيز والنِّسوة، ومحنة السِّجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز، ومحنة الرَّخاء والسلطان المطلق حين أصبح مسؤولاً عن أرزاق الناس وقُوتهم، وأخيرًا محنة صراع المشاعر البشرية وهو يلقى إخوته خاضعين لسلطانه، بعد أن ألقَوْه في الجبّ وكانوا السبب الظاهر لهذه المحن والابتلاءات التي تعرّض لها.
تضمّنت سورة يوسف في طيّاتها مشاهد الألم والأمل، ومرارة الفراق وحلاوة اللقاء، كما عرضت لقصّة اليأس واليقين والظلم والقهر والابتلاء والصبر، ثم النجاح والنصر. واقترنت فيها القدرة على الانتقام، بالعفو والصفح، والرّجاء بالدعاء، والتمكين بعد الابتلاء، وظهرت من خلالها العاقبة الحسنى للمتقين الصابرين، كما تجلّت فيها حكمة الله تعالى وأقداره وتدبيره وأسراره، في نظم قصصي لم تسمع الدنيا بمثله، قال الله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)(يوسف:1-3).
ولا عجب أن تكون هذه السورة بما احتوت عليه من قصة هذا النبي الكريم، ومن التعقيبات الربانية عليها، وتنزّلها على رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- والمسلمين معه بمكة في هذه الفترة بالذات… لا عجب أن تكون أعظم تسلية وتسرية وتطمين وتثبيت للمؤمنين المطارَدين المضطهَدين. كأنهم يقرؤون فيها تلميحًا بالإخراج من حضنهم الدافئ (مكة) مُكرهين إلى دار أخرى يكون فيها النصر والتمكين، كما أُخرج يوسف من حضن أبيه ليواجه الابتلاءات العظام، ثم تكون له الرفعة والنصر والتمكين: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)(يوسف:21). لقد جاءت آية التمكين هذه في ثنايا الحديث عن يوسف وهو يُباع بين الرقيق في أرض مصر. وفي أشد حالات الضعف البشري التي واجهها يوسف حين أجمع إخوته على أن يُلقوه في غيابة الجُبّ، وهو يستعطفهم ويذكّرهم بوشائج الأخوة، يأتي قول الحق سبحانه: (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). نعم، إن الله غالب على أمره، فقد أراد إخوته له أمرًا وأراد له الله أمرًا آخر، ولما كان الله غالبًا على أمره ومسيطرًا على كل حركة وسكنة من خلقه فقد نفذ أمره وهم كارهون. ثم جاء التعقيب البديع تعريضًا بحال من سيعمد إلى طرد النبي الهاشمي وأصحابه: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)؛ لا يعلمون أن سُنّة الله ماضية، وأنّ أمره هو الذي يكون. وهكذا تواترت بشائر السورة في جميع مراحلها، تأكيدًا للإيمان واليقين، وترسيخًا لمبدأ الثقة وحسن الظن برب العالمين، وبيانًا للعاقبة الحسنى للمتقين. وتأكيدًا لهذه الصلة الوثيقة بالله تعالى، قص الله تعالى خبر نبيه الكريم يوسف، وكيف (لَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)(يوسف:42) لمّا كاد يركن إليه من إخبار الساقي بأن يذكر مظلمته عند الملك، كل ذلك ليقطع عنه الأسباب البشرية كلها، وليجعل قضاء حاجته بيد خالقه جل جلاله لا على يد بشر، بل جعل نجاته وسبب رفعته تمسّكه بالركن الشديد الذي يأوي إليه، خالقه، وهذا ما ظل يوسف يثني به على ربه في عاقبة التمكين والظفر حين قال لأبيه: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(يوسف:100).
وهذا هو درس الوحدانية الأكبر في عام الحزن، فما على عباد الله المخلَصين إلا أن يتمسّكوا بربهم سبحانه، ويُخلصوا العبادة له وحده دون سواه، ويستغيثوا به وحده ولا يعلّقوا آمالهم ببشر مهما كانت درجته، وأن يُسلموا له وحده قيادهم كما أسلموا له أمرهم من قبل. وحين يعجزون بسبب ضعفهم البشري في أول الأمر، فإنهم يلجؤون إليه وحده بأن يتفضّل عليهم بمنازل التسليم له والثقة به والرضا عنه. وفي لحظة الافتقار هذه، يتنزّل عليهم مدد ربهم سبحانه ويتفضّل عليهم بلطفه وإحسانه، حتى لكأنهم يجدون عبق اليقين ويتذوّقون شهد الرضا والتسليم، حبًّا وشوقًا.
نسمات اليقين تطفئ لفحات اليأس
اليقين في حقيقته اعتزاز بالله تعالى، واطمئنان إليه، وثقة به، وتجرّد له، وتحرّر من كل قيم الأرض المادية التي تقطع عنه، واستصغارٌ لشأن كل قوة تضاده وتصدّ عنه.
وحين نعرض لحديث اليقين في قصة يوسف – عليه السلام -، تعبق مواقف الصبر الجميل ليعقوب النبي عليه الصلاة والسلام؛ المؤمن الموقن، والصابر الواثق الذي لم تضعف ثقته بربه، إذ ظل في أشد حالات الكرب والحُزن يقول لبنيه بكل حنوّ ورحمة، في كل لحظة وداع: (فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(يوسف:64)، (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(يوسف:67). ويبلغ الألم البشري منتهاه، ويصل المشهد إلى ذروته حين يفقد أولاده الثلاثة دفعة واحدة، ولكنه مع كل ذلك يظل ثابت الفؤاد وإن تضعضع جسده وابيضّت عيناه، ولذا تراه يقول بكل ثقة وثبات: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(يوسف:83)، ثم يقول جامعًا بين الافتقار وحسن التوكل: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(يوسف:86-87). هكذا هو إيمان الأنبياء ويقين الحنفاء، وهكذا هم المؤمنون على الدوام، لا ييأسون من روح الله ولو أحاط بهم الكرب واشتد بهم الضيق، وهم على الدوام في أنس من صلتهم بربهم، وفي طمأنينة من ثقتهم بمولاهم، موصولة قلوبهم بخالقهم، ندية أرواحهم بروحه، يأنسون بنفحاته الرضية وإن كانوا في مضايق الشدة ومخانق الكروب.

إشراقات اليقين

رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين تظهر في تدبيره سبحانه ولطفه، وهي أجلى ما تكون في عاقبة المحن والابتلاءات، إذ اقتضى علمه ورحمته أن يختبر عباده ليعلم صدقهم وثباتهم، فإذا اجتازوا عقَبة اليأس باليقين، ودرجوا في مسالك الكروب بالثبات والصبر الجميل، رفعهم إلى درجات التمكين والعزّة في الدنيا، والدرجات العُلا يوم القيامة. وهذا ما آل إليه حال نبي الله يوسف – عليه السلام -، فقد انتقل من ظلمات السجن إلى عرش الملك، وأصبح ملِكًا عزيزًا بيده خزائن مصر، يتخذ منها المنازل التي يريد في مقابل الجبّ الضيّق المظلم، ويتنقّل في أبّهة الملك برفقة الحرس والحاشية بعد سنوات الخوف والغربة والسجن، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)(يوسف:56-57). والأمر لله من قبل ومن بعد، ولذا قال: (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ)، فنبدله من العسر يسرًا، ومن الضيق فرجًا، ومن الخوف أمنًا، ومن القيد حريّة، ومن الهوان على الناس عزًّا ومقامًا عليًّا (وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون الإيمان بالله، والتوكل عليه، والاتجاه إليه، ويحسنون السلوك والعمل (وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
فقد عوّض الله -سبحانه وتعالى- نبيّه الكريم -صلّى الله عليه وسلم- عن المحنة التي ظل يكابدها، مكانة ورفعة في الأرض جزاء وفاقًا على الإيمان والصبر والإحسان.
وهذا من أسرار تكرار وصف الله العلي لذاته بأنه: (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(التحريم:2) الذي تتحقق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج، ويعلم الأحوال، ويعلم ما وراء الأحداث والابتلاءات، ويأتي بكل أمر في وقته.
وفي ختام السورة يتكرر التثبيت للطائفة المؤمنة بمكة، ويعود التذكير بمجرى سنّة الله عندما يستيئس الرسل، والتلميح بالمخرج المكروه الذي يليه الفرج المرغوب. معانٍ تدركها القلوب المؤمنة، فيغمرها الإيمان واليقين، والصبر والثبات: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(يوسف:108-111).
وتلك سُنّة الله التي لم تتخلّف يومًا من الدهر، فلابد من الشدائد، ولابد من الكروب. وقُبيل مرحلة اليأس يتنزّل النصر نصرًا من الله وحده، ينجو به المؤمنون الصابرون، ويحقّ بأسه على الظالمين المتجبرين، وهي المآلات التي تتكرر على الدوام في أحداث الكون المنظور، وفي آيات الكتاب المسطور.

(*) إمام وخطيب المسجد الحرام، مكة المكرمة / المملكة العربية السعودية.