التربية البيئية في ضوء توجيهات التربية الإسلامية

إن الحركة الذاتية لمكونات وعناصر البيئة، حركة توافقية ينسجم بعضها مع بعض في ظل نظامٍ غاية في الدقة تحكمه النواميس الكونية الإلهية، وهو ما يطلق عليه في عصرنا الحالي بــ”النظام الأيكولوجي” (Ecosystem). وإذا حدث تغير مقصود أو غير مقصود في أي عنصر من عناصر البيئة -سواء في خصائصه الكمية أو النوعية- فإنه يؤدي إلى تدهور مظاهر الحياة، وربما تختفي مظاهر الحياة تمامًا، يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾(الدخان:38). ويعد الإنسان جزءًا متميزًا من هذا الكون الذي تُكمل عناصره بعضها بعضًا، وله موقع خاص بين أجزائه. وصلة الإنسان بالكون كما وصفها القرآن الكريم، هي صلة الاستثمار والانتفاع والسكن والتعمير والمتعة وتذوق الجمال والتسخير… هي صلة الاعتبار والتأمل والتفكير بالكون وما فيه… وعلى ذلك فعمارة الأرض وإصلاح الكون وتذليل كل الصعاب فيه، والحفاظ على بيئة الإنسان -جميلةً ونظيفةً- مطلب إسلامي أصيل يدخل في صلب رسالة الإنسان في هذه الحياة، باعتبار الإنسان وسيلة وغاية، وبوصفه أحد مكونات الكون الفاعل في النظام الأيكولوجي، والمسؤولَ عن إدارتها وحمايتها واستثمارها على وفق الموجهات الأساسية الواردة في القرآن الكريم.
وصيانة البيئة والمحافظة عليها، واجب مقدس من واجبات الإنسان وفرض عين على كل مؤمن، لقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾(لقمان:20). وحذر الله تعالى من الإساءة في استخدام البيئة وإفسادها في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(البقرة:211).
فالعلاقة بين الإنسان وسائر المكونات، هي علاقة محبة متبادلة لا علاقة عداء واستئثار وإهمال واستعباد للآخر. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف يقول: “هذا جبل يحبنا ونحبه” (رواه البخاري)، هذا الحديث الشريف يصلح شعارًا وإطارًا لعلاقة الإنسان بالبيئة.
ويحمّل الإسلام الإنسانية مسؤولية المحافظة على البيئة، ويظهر ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: “مثل القائم على حدود الله كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا” (رواه البخاري).
إن موقف الإسلام من البيئة وموارد الحياة وأسبابها، موقف إيجابي، فكما يقوم على الحماية ومنع الإفساد، يقوم أيضًا على البناء والعمارة والتنمية، وهذا يتجلى في فكرة إحياء الموات وعمارة الأرض بالزراعة والغرس والبناء، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾(هود:61)، ويقول صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل” (رواه الإمام أحمد)، وقال الإمام علي رضي الله عنه: كُلْ هنيئًا وأنت مصلح غير مفسد ومعمر غير مخرب.
إن إصلاح الحياة الإنسانية والطبيعية، والمحافظة على النظام الحيوي ومنع إفساده، ينبغي أن يتحقق وفق القواعد الكلية الشاملة لإصلاح الحياة، وتسييرها تبعًا لمبادئ الاستخلاف المرتكز على الإيمان والعبادة والقواعد الفقهية وأصولها وأحكامها، وعلى وفق الأخلاق بوصفها جوهر الإسلام وروحه الفاعلة في جميع جوانبه لقوله صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق” (رواه الإمام أحمد).
ولتحديد الرؤية الإسلامية للبيئة وعلاقة الإنسان بها، تبدو الحاجة إلى أهمية توضيح المبادئ والمفاهيم الأساسية المنبثقة من القرآن الكريم، والتي تشكل في مجموعها ملامح الفلسفة الإسلامية للثقافة الإسلامية، يمكن إيجازها كالتالي:

1- الاستخلاف

الاستخلاف هو خلافة الإنسان في الأرض (البيئة)، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(البقرة:30)، وقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾(الأعراف:129).
فهي إذن خلافة رعاية وإعمار وإدارة وتسخير أصبحت بها الخلائق والكائنات في إمرة الإنسان، حيث أصبح قائمًا بها في موضوع الوصاية والنيابة عن الله سبحانه وتعالى في التصرف في الكون وفي البيئة بما فيها؛ لأن الإنسان أرقى هذه المخلوقات، ولأن الله سبحانه وتعالى خصه بنعمة العقل التي حُرم منها بقية المخلوقات وفضله عليها في قوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(الإسراء:70). والاستخلاف يعني أن الإنسان وصي على الأرض (البيئة)، لا مالك لها، فمن المعروف أنه ليس هناك ملكية مطلقة للإنسان. فالملكية في الإسلام محددة بضوابط وشروط حددها الله سبحانه وتعالى، ومن هذه الشروط حسن استغلالها وتنميتها والمحافظة عليها من أي تدمير أو تخريب. عن سعد بن زيد رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “من أحيا أرضًا ميتة فهي له” (رواه الترمذي)، ويروى عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: من كانت له أرض ثم تركها ثلاث سنين ولم يعمرها فعمرها قوم آخرون فهم أحق بها.
فالكون هو أمانة الله سبحانه وتعالى للإنسان، ولذا يجب أن يتصرف في حدود الأمانة التي وهبه الله إياها مراعيًا في ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾(الأحزاب:72). وفي هذا الإطار تصبح البيئة أساسًا لاختبار الإنسان، فهو مكلف بأن يفهم الطبيعة ودورها.
ومن منطلق خلافة الإنسان على الأرض، فهو مسؤول عن تسخير الكون والكائنات بما فيه النفع، ومَدعوٌّ إلى العمل والسير في دروب الكون ومناكبه، ومطالب بالسعي والإبداع والإعمار باعتباره -من منطلق الخلافة- هو صاحب الشأن والكلمة في الكون، كما جاء في قوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾(المؤمنون:115)، ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾(الأعراف:129).

2- اعتبار الحلية والحرمة

إن الحلال والحرام مفهومان يحكمان البيئة من وجهة النظر الإسلامية. فالحلال يشمل كل ما هو نافع للإنسان ولمجتمعه ولبيئته وللأجيال القادمة، والحرام يشمل كل ما من شأنه تدمير الإنسان وبيئته، لقوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾(البقرة:60)، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾(البقرة:195). فكلما سلك الإنسان بعيدًا عن السلوكيات التي رسمها الله سبحانه وتعالى، حصلت الكوارث والمآسي، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾(الروم:41). والقاعدة الفقهية “ما أدىّ إلى الحرام فهو حرام”، قاعدة تحذرنا من مغبة السعي إلى أي صورة من صور الإفساد والتدمير والتخريب لبيئتنا.
وقد بين الله تعالى ما هو حلال وما هو حرام، ليكون خليفته في الأرض على بيّنة في تعامله مع نفسه ومع الآخرين، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾(آل عمران:110).وإذا أمعنا النظر في بعض آيات القرآن الكريم التي تذكر الطيبات، وجدناها كأنها موجهة للرد على من يستهين بهذا المتاع الطيب ويرى منها شيئًا لا معنى له ولا أهمية، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾(المائدة:87-88). وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأذى، واعتبره من المحرمات؛ عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من آذى المسلمين في طريقه وجبت عليه لعنتهم” (رواه الطبراني). فالتعدي على حق الطريق لإشغاله أو تضييقه أو وضع الفضلات والمعوقات في طريق المارة أو مضايقتهم من قبل الجالسين على قارعة الطريق بالألفاظ الجارحة، أمر يتنافى مع جوهر الإسلام وسماحته، فهو الذي وضع للطريق قانونًا وشرع له على الناس حقًّا، وجعل إماطة الأذى عنه صدقة… فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتقوا الملاعن الثلاثة”، قالوا: يا رسول الله وما هي، قال: “البراز في الموارد وعلى قارعة الطريق وفي أماكن الظل”. (رواه أبو داود). وقد اقترن الخير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(آل عمران:104).
ولعل اقتران الحلال بالحرام يعطي هذه الدلالة في قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(البقرة:275)، ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾(الأعراف:157).

3- النهي عن الإفساد والإسراف

إن كل ما يؤدي إلى فساد الحياة من إتلاف مكونات البيئة وقتل الأنعام وتلويث المياه وقطع الأشجار لغير مصلحة عامة، يعتبر فسادًا والله لا يحب الفساد ولا المفسدين، يقول تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(القصص:77)، ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾(العنكبوت:36)، ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾(الأعراف:85).
إن الإفساد في البيئة يحدث عندما ينفك رباط العبودية لله تعالى، عندئذ ينسلخ الإنسان عن هداية الله فيضل ويشقى ويخاف ويحزن. وهي سلوكيات تحول حركته إلى تغير غير ممتزج بالعبودية، وتجعَل حماة البيئة ينكرون عليه سلوكه المفسد الذي أحدث ولا يزال يحدث مشكلات في البيئة، حتى أصبح يَصدُق عليه القول بأنه مشكلة البيئة.
أما الإسراف فهو ضد التوسط والاعتدال، إذ يريد الله تعالى عبادًا متوسطين معتدلين لا هُم بمعسرين ولا مسرفين، ويقول تعالى في ذم الإسراف والمسرفين:﴿وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(الأنعام:141). وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في الأكل، لأنه مضر بصحة الإنسان من جهة، ومن جهة أخرى فالإسراف في الأكل يحجب الإنسان المسلم عن الشعور بمن حوله من الفقراء والمساكين؛ فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: “ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه” (رواه الترمذي).
فموقف الإسلام من البيئة هو موقف إيجابي، فلا يجوز للإنسان إفساد البيئة بإخراجها عن طبيعتها الملائمة لحياة الإنسان وقراره فيها، كما لا يجوز استثمار تلك الموارد أو الانتفاع بها، بشكل مسرف وغير رشيد يفسد أو يعرض أقواتها ومواردها للفساد والتشويه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
(1) أبو عبيدة القاسم ابن سلام، تحقيق محمد حامد الفقي: الأموال، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1353هـ.
(2) الفلسفة التربوية البيئية، لسعدون سلمان نجم الحلبوسي، دار الهدى، مالطا 2002.