“إمكانات” الحكم الراشد وصناعة “مكانة” الشهود الحضاري للأمة

يتعجب كثيرون من مآلات “الربيع” العربي وكيف تكالبت عليه المؤامرات حتى كادت أن تحيله إلى “شتاء” قارس ليس فيه إلا حرارة التفرق والاحتراب.

ويشعر كثيرون بالإحباط، لأنهم اعتقدوا بأن الخلافة الراشدة التي بشَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها ستعمّ الأرض قد حان أوانها وأَزِفَ زمانُها، ولذلك هالتهم التراجعات الحادثة.

وبرزت الآمال الكبيرة بخلافة راشدة معتقدين أنها كانت قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وشعر بعضهم بالإحباط الشديد نتيجة انقسام “الثوار” وتصاعد “الثورات المضادة” واشتداد المؤامرات الخارجية. ويبدو أن كل تلك المشاعر الطيبة -مع احترامي الشديد لأصحابها- إنما تدل على ضعف الفقه الرشيد لسنن الله وحقائق هذا الدين، مما يؤكد أن أزمة الأمة في الأساس أزمة فكرية.

فإن الحكم الراشد الذي يقترب من نموذج الخلافة الراشدة، هو ذروة سنام الفكر السياسي الإسلامي، وثمرة بناء راشد يبدأ من الفرد الراشد الذي يوازن بين حاجات الروح ومتطلبات التراب، ثم الأسرة الراشدة التي تطير بجناحي الذَّكر والأنثى، ثم المجتمع الراشد الذي ينهل من السماء وهو يعمر الأرض ويستهدف فردوس الآخرة وهو يُفَرْدِسُ الدنيا فيستمد الهداية من النقل ويستحث العقل على العمل، يدرك أنه خليفة الله في أرضه فيكون واعيًا بتعاليم الاستخلاف حاضرًا حيث أمر، غائبًا حيث نهى.

والوصول إلى هذا المجتمع ما يزال بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود الضخمة وإن كان الركب يسير، وإنّ اشتداد المؤامرات الداخلية والخارجية يؤكد أن قافلة الأمة تسير في الاتجاه الصحيح، حيث يحاول الأعداء عرقلة المسيرة برمي أحجار العثرة وتفجير قنابل الفتنة الموقوتة التي زرعوها لمثل هذه الظروف، ويريد الله أن يمحص النفوس وينقي الصفوف بهذه الزلزلة حتى لا تبقى إلا الأرقام الصحيحة التي تتحمل أعباء الحكم الوطني الراشد، توطئةً لإعادة الأمة الراشدة إلى مكانتها المستحقة كخير أمة أخرجت للناس.

فالرشد إذن، هو منهج متكامل يبدأ بالعقل الفردي الراشد وانتهاء بالحاكم الراشد الذي هو عقل الأمة ومضغة المجتمع.

هذه المقالة هي حواشي على متن الحكم الراشد، تلتزم المنهج العلمي وتتوسل بالأسلوب الأدبي، مشيرةً إلى إمكاناته الهائلة التي صنعت أعظم مكانة لأمتنا التي تبوأت مكانة الشهود الحضاري بين سائر الأمم.

الحكم الراشد فريضة لازمة وضرورة لازبة

وذلك لاعتبارات عديدة، وأهمها أنه:

أ- يمتلك الدواء الناجع لسمّ التخلف الناقع، ويستطيع تضميد الجروح وبَلْسمة المواجع، ويمتلك أعطيات الله القادرة على إحياء الأموات بإكسير الحياة، وإبْراء المصابين بداء الغثائية عبر ترياق الفاعلية.

بـ- يمثل بيئة خصبة لاستزراع أشجار “طوبى” الوارفة الظِّلال، ويمتلك نارًا محرقة لأشجار “الزقوم” الوافرة الضَّلال! فإن أحكامه تجلب الأمن والسلام؛ لأنها حربٌ على الحروب و”الحرابة”، واسترقاق لـ”السرقة”، وقتل لدوافع “القتل”، وقذف بأبابيل التخويف لجريمة “القذف”، وتجفيف لمنابع “الزنا” ودوافعه.

جـ- يجسد حقيقة الاعتصام بحبل الله المتين وكتابه المبين، ويحرص على مدِّ حبال الود مع الخلق وقطع حبائل الفتنة والخرق.. فإن من واجباته ربط العلائق ورتق الفتوق ومداواة الندوب، وتشييد الجسور بين الكيانات، وحتى بالنسبة للفرد فإن الرشد يمثل جسر العبور من الأثرة إلى الإيثار، ومن الشح إلى الإحسان.. ومن هنا يبدأ تحول الإنسان من فرد إلى شخص، أي إلى كائن اجتماعي تتجسد فيه كل إمكانات الائتلاف مع الآخرين تحت سقف القواسم المشتركة.

د- يحفظ الأمة من مصائد الشيطان ووساوسه وحبائله ونزغه ونفثه، حيث تصبح الدولة سفينة النجاة للأفراد، والشيطان -كما هو معلوم- هو ذئب البشر، وإنما يأكل الذئبُ من الغنم القاصيةَ.

وببركة الوحدة وتحت راية الدولة لا يستطيع الشيطان الاستحواذ على الكبار ولا احتناك الذُّرِّية الصغار، ألم يقل الله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)(الحجر:42)؛ والغاوون هم عكس الراشدين.. فالراشدون بمنجاة من الشيطان لتحصنهم بدولتين: الدولة الإيمانية، والدولة القانونية.

“إمكانات” الرشد تصنع “مكانة” الأمة

أمة المسلمين هي خير أمم الناس بشهادة الله، وهي أفراد ودول انضموا تحت راية الحكم الإسلامي الراشد، بأصله الرباني في إقامته لدولة الإيمان ودولة القانون، وفي كلتا الدولتين يمتلك إمكانات هائلة وذخائر جمة، فعطاياه تمنح المرء الدهشة، وتُحَفُه تصيبه بالانبهار، وأمداؤه تُشعره بالذهول، ومنها:

أ- نجاحه المنقطع النظير في تحرير العربي من شلل التخلف، حيث اقتلع قيود التقليد التي كان فيها يرْسِف، ومزّق ثياب الجهل التي كان بها يأتزر، وقطع سلاسل الفُرقة التي كان بها يتمزق.

بـ- إخراجه في عصر الضياء لميامين الناس وعظماء الخلق وأفذاذ البشر حيث أثمر عباقرة العلوم وفطاحلة الفكر وعمالقة التصوف وروَّاد الفقه وحكماء الفلسفة ودواهي السياسة ومغاوير العسكرية.

لقد كانوا أفذاذًا في السِّلم وبواسل في الحرب، وكانوا فطاحلة في القيادة وفطناء في الجندية.. ولماذا لا يكونون كذلك وقد خرجوا من مشكاة الرشد القرآني الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار. ولقد شهدت أمتنا في عصر الراشدين انسكاب سحائب الرشد، فكان خيرها زلالاً وغيثها مدرارًا، وصارت جداولها مليئة بالخير الرقراق، وعيونها طافحة بالمعروف المتدفق فراتًا سلسبيلاً.

جـ- امتلاكه لحدائق مزدانة بالرجال، وبساتين مزهوة بكل ما يخلب العقول ويسبي القلوب ويأسر النفوس، من قيم حضارية وأخلاق بانية ونظم راقية ومعاملات سامية وأذواق رفيعة.. ومن ذلك رفعه للناس من الوِهاد إلى الآفاق، ومن الحفر إلى القمم، ومن الهُوّات إلى الشواهق.. إذ يمتلك منظومة متكاملة لتعليم الناس وتدريبهم على الارتفاع عن الأسافل والترفع عن السفاسف.

د- امتلاكه لخارطة الأمة القائمة على الخَلْق، الشاهدة على الناس، فهي في خارطة الرشد: ممشوقة الفكر، منتصبة القلب، شامخة الروح، سامقة الفؤاد، باسقة الإرادة، شاهقة العزة، مُشْرئبَّة الآمال، معانقةً لسحائب الغيث وغيوم العطاء.

هـ- إزالته للإشكالات وحله للمشاكل، حيث أوضح المبهمات وكشف الغوامض، فكَّ أعقد الألغاز وحل أصعب الأحاجي، استنقذ الحيارى من شباك التحيُّر ومن ضوانك التيه، وأنقذهم من سحر المتهوِّكين وشعوذة المتخرصين.

و- إطلاقه لحريات الإنسان وقدراته وملكاته وفاعلياته في عمارة الأرض وصناعة الحياة وخدمة الخلق. ويرى الحكم الرشيد في هذا السياق أن خنْق حرية الفرد خرقٌ لسفينة المجتمع، ويَعُدُّ التفرد تفرعنًا والاستبداد استعبادًا والإكراه تأليهًا، ويعتبر الجَبْر رميًا للإنسان في غيابة التخلف وغياهب السلبية.. وفي ظل الحكم الراشد يتم استخراج المخبوء من كنوز الأرض واستظهار المطمور من نفائس الإنسان. ويمتلك قدرات هائلة على تثقيل سنابل المعروف وتغزير شلالات الخير وإقامة موازين الحق.

وعندما يضرب الرشد بعصاه على القلوب المتحجرة، تنفجر فيها منابع الخير، وتنبجس منها عيون المعروف ليجد كل أناس مشربهم.

ز- امتلاكه لمنهج التآزر وفقه الائتلاف.. ولأن الحكم الراشد منهج شامل في ارتياد الأرض وجلب الريادة للإنسان، فإنه يربي أهله على قيم التآزر والتضافر، ويحليهم بأخلاق التساعد والتساند، ويُسلحهم بأفعال التعاون والتضامن، ويمنحهم مفردات التجانس والتآنس، ويَهَبُهم مشاعر التغافر والتحابب.

يجمع مكونات الأمة عامة تحت راية التآلف والتحالف، ويمدهم بأسباب الاتساق والانسجام، ويمنحهم عوامل السلاسة والانسياب.

وفي ظل الفكر الراشد يتربى المواطنون على توطئة الأكناف لبعضهم وتعضيد الأكتاف، وطأطأة الرؤوس وإسلاس القياد، ووضع جناح الذل لإخوانهم.

يسعدون بحبور الطاعة، ويعيشون أفراح الروح، ويترفّهون في بحبوحة الجماعة، ويبتهجون بمتعة الأخوة ورفاهية الائتلاف.

الرشد منهجٌ أزليٌّ للبناء المتكامل

أ- الرشد منهج لا برنامج، وراية لا آراء، ولذلك سيظل قاعدة للانطلاق الحضاري في مختلف الآماد، ودافعًا للنهوض إلى نهاية الآباد.

ولأنه منهج، فإن صوابه سرمدي ودوامه أبدي، أما إمكاناته فأزلية وثماره غير متناهية.

بـ- ستظل الخلافة الراشدة التي أعقبت النبوة مخزن الرشد العميم، وخزانة المنهج القويم، ومسقط وحيي الكتاب والسنة، ومجمع أصلي النقل والعقل، ومنجم الذخائر والخبرات، وملتقى العباقرة والنوادر، وكنانة أسباب القوة، ومعمل المعادلات النهضوية، وجِراب الكمالات البشرية.

جـ- كان الحكم الراشد في هذه الأمة حافلاً بالمنجزات، زاخرًا بالمآثر، رافلاً بالمزايين، مُتْرَعًا بالجلائل، مشبعًا بالعظائم، طافحًا بالأمجاد، ومزدانًا بالمفاخر، وعامرًا ببدائع الصنائع، وزاخمًا بكل مبهر، ومزهرًا بكل مبهج.

د- خلق فكر الرشد أمة العطاء المادي والروحي، فقد كانت الغالبية من أبنائه تعطي من إملاق وتمنح من إدقاع، وكانوا يؤثرون غيرهم ولو كان بهم خصاصة.

هـ- ظل الرشد صدعًا بالحق وردعًا للباطل، انتصارًا للضعفاء وانكسارًا أمام المساكين، وكبحًا لجماح الطغاة وكسرًا لأنوف المتغطرسين، وسيظل كذلك ما بقيت عين تطرف وقلب ينبض.

الرشد يتسلح بالمنظومة السببية

اقتضت مشيئة الله بأن من يهزُّ جذع الرشد فإنه يساقط عليه رطبًا جنيًّا، ومنهج الرشد نفسه يتسلح بالمنظومة السببية، ويتوسّل بكافة الذرائع الشرعية سواء كانت مادية أو معنوية.

أ- الرشد فكرًا ومنهجًا وحكمًا يستضيء بشموس القرآن، ويستنير بقناديل الأكوان، ويستعبر بآيات الإنسان.

وإذا كانت منظومة الرشد تنهض على مقومات فإن هذه المقومات تنهل من أعذب الآيات، وتَمْتَعُ من أصفى السنن، وترتوي من آيات الأنفس، وتستقي من آيات الآفاق.

بـ- الرشد في لُبِّه المعرفي هو بحث في جوهر القرآن عن جواهره.. فهو غوصٌ في أعماق “السور” القرآنية لاستخراج أحجار “الأسوار” التي تحرس كليات الناس، ولصناعة “الأسورة ” التي تُزيِّن أيدي العطاء، ولإبراز الدوافع التي تسوق إلى كل خير، وتحليل العوامل التي تمنع من الوقوع في أي ضَيْر.

ولهذا فإن الرشد يضبط إيقاع الأمة وساعتها على توقيت “المدينة المنورة”، ويستخدم “البوصلة” القرآنية التي تضبط توجُّه الأمة نحو “مكة المكرمة”، ومن أشعة القرآن يصنع السُّرُجَ التي تنير دروب الحياة، ومن ثنايا القرآن يستنبط الضوابط التي تستر العورات وتُؤَمِّن الرَّوعات، ويتولى تركيب المعادلات التي تصنع الروائع.

جـ- يتذرع أهل الرشد بالوسائل، ويتوسلون بالأسباب، ويتسلحون بالذرائع.. يواجهون أمواج الليالي بقوراب الضياء، ويقارعون سُدَفَ الظلام بوميض الآمال.. يقاومون كتائب النوائب بألوية المغاوير، ويجتثون أشواك العبودية بأشواق الحرية.. يصارعون أوجاع الفساد بمعاقرة أسباب الصلاح، ويدافعون آلام الضعف بمداعبة آمال القوة.

د- من استقراء منهج الرشد يبدو أن نَوَاتَهُ المعرفة، وبذرته القراءة، وخميرته الخبرة، وذروته الحرية، وصميمه العدالة، ودافعه الإيمان، وجوهره الاستقامة، وثمرته الفاعلية، وغايته العروج الحضاري.

هـ- منهج الرشد يجعل التغيير ذاتيًّا، انطلاقًا من قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11)؛ لكن هذه الآية تختصر ولا تختزل التغيير في الذات لأنه العنوان. ولهذا فإن للعوامل الخارجية فاعلية، لكن فاعليتها منوطة بالعامل الداخلي.

فهيا لنتفاكر حول كيفية تحصين الداخل بحيث يستعصي على عواصف الفتنة وأعاصير الغزو القادم من الخارج، ليكون قاعدة الوصول إلى المتن الحضاري المنشود عبر مراكب الرشد.

(*) أستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز / اليمن.