أهمية فقه الواقع وفقه السنة في الاجتهاد التنزيلي

كثيرة هي التعاريف التي وضعها العلماء للفقه وللواقع وللسنة، وأهمية فقه السنن في فقه الواقع ظاهرة، والعلاقة التي تجمع هذا الفقه بالاجتهاد في تنزيل الأحكام غير خافية.

وانطلاقًا من تعاريف السنة في اللغة، نستطيع أن نتحدث عن أوصاف محددة دقيقة وواضحة للسنة جمعها واحد من المتخصصين في دراسة السنن في عصرنا الحاضر وهو الدكتور رمضان خميس زكي، حيث عرفها بأنها: “القانون الضابط المهيمن والفعل النافذ الحاكم، الذي يجري باطراد وثبات وعموم وشمول، مرتبًا على سلوك البشر”.

ولقد مكن وجود آيات السنن مبثوثة في القرآن الكريم الدكتور رمضان خميس زكي من صياغة معالم مشروع تفسير سنني خط له منهجًا شبيّهًا بمنهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، إذ قام بجمع وإحصاء هذه الآيات وانطلق عبرها يرسم معالم منهج يدرسها ويستخلص منها العبر والفوائد التي تصلح للعصر الحاضر وللمستقبل.

وإن المطلع على القرآن الكريم يجد هذه السنن المبثوثة فيه -والتي أرادنا الله أن نأخذ بها ونستفيد منها- تأتي معروضة بأوجه مختلفة؛ منها ورودها في القصص والأمثال القرآنية كقوله عز وجل: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾(يوسف:90)، بعد عرضه قصة يوسف عليه السلام، وقوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾(يونس:81)، بعد عرضه قصة سحرة فرعون مع موسى عليه السلام وغيرهما مما يدعونا إلى الاعتبار من خلال الخلاصات المعتصرة من تجارب السابقين، ومن خلال النظر والسير في الأرض وغيرها من وسائل استخلاص السنن التي يرحب بها كلا الكتابين المسطور والمنظور.

فالمتتبع لتطور التفسير الحديث يلحظ بيسر مدى الاستجابة لحاجات المجتمع؛ بحيث يمكن عد اتجاهات التفسير ترجمة لأسئلة ثقافية وفكرية تشغل المجتمع بحيث يكون عمل المفسر شاهدًا على مختلف اهتمامات المجتمع وانشغالاته. إلا أن الأمر يتفاوت قوة وضعفًا بحسب درجة ارتباط المجتمع بالقرآن، وعلى قدر تلك الدرجة يكون ارتباط التفسير بالمجتمع، وقوة هذا الاتجاه أو ذاك من اتجاهات التفسير من أكبر عناصرها مدى الارتباط بالمجتمع وبقضاياه.

إن الأخذ بالسنن الاجتماعية لفقه الواقع من التفاسير التي تفي بالمقصود من الأهمية بمكان، ذلك أن “سنن الكسب البشري لا تحابي أحدًا ولا تجافي أحدًا، كما يقول الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله، وقد عرض كل من الدكتورين محمد البركة وسعيد بنحمادة في كتابهما المشترك: “فقه التاريخ عند الدكتور فريد الأنصاري”، كيف أنه رحمه الله وهو العالم العامل المشهود له بالاجتهاد لما يمتطي صهوة جواده يجري به في حقول الأصول ومزارع الفقه ويقطع به وديان العلوم الإسلامية جميعًا، إنما كان يأخذ معه زادًا غير قليل من فقه السنن وفقه الواقع و تفسيره للقرآن الكريم عبر “مجالس القرآن” يجلي هذا الأمر ويوضحه ، وهذا شأن العلماء جميعًا.

لقد آن الأوان للتحول إلى محاولة التفكير والاجتهاد في كيفية تنـزيل فقه السنن وفقه الواقع وتجسيده في واقع الناس، والممارسة العملية لأحكام الشريعة واستعادة حيويتها وامتدادها بحسب الاستطاعات، وتحويل أصول الفقه من قواعد وآليات نظرية مجردة إلى الواقع التطبيقي العملي.

ذلك أن هذا الدين الذي ارتضاه الله لنا يؤتي ثماره بمقدار ما يلتزم به أهله، ويتبعون ما جاء فيه في واقعهم، فإن لم يفعلوا ينحسر في النفوس، وتنحسر ثماره في الأرض بمقدار ما حدث من الحيد، ومقدار ما وقع من الانحراف.

والآيات في كتاب الله واضحة تمام الوضوح في هذا الأمر، كما هي في كل أمر، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾(فاطر:32).

وإذا كان الأمر هكذا فنقول: “إن دراسة محل التنـزيل، واختبار مدى توافر الشروط في المحل، من الأهمية بمكان، فهي لا تقل عن فقه الحكم، ذلك أن فقه الحكم دون فقه المحل المراد تنـزيله عليه ومدى استطاعته، قد يكون نوعًا من العبث والإساءة للحكم نفسه”.

يقول الدكتور عبد الله بن بيه: “أعتقد أنَّ الخلاف بين أعضاء المجامع الفقهية في جملة من المسائل يرجع إلى تفاوت بين الباحثين في قضية التصوُر والتشخيص، أكثرَ مما يرجع إلى اختلاف في فهم النُّصوص الفقهية. إذًا فالخلاف هو خلاف في علاقة المسألة بتلك النصوص تبعًا للزاوية التي ينظر إليها الفقيه من خلالها؛ أو اختلاف شهادة وهو: أن يكون موضوع الحكم يحتمل حالين، فيفتي المفتي بناء على أحد الحالين مستبعدًا الوصف الآخر”.

ولهذا فمن الأهمية بمكانٍ أن يبذل الاقتصاديون الوضعيون والأطباء، وغيرهم من أصحاب الصنائع والتخصصات جهدًا لإيصال كل العناصر التي يتوفّرون عليها إلى زملائهم الشرعيين ليحقق هؤلاء المناط لتنزيل الحكم على واقع العقد وعلى حقيقة الذات.

يتبين إذا مما سبق أنه لا يمكن الوصول إلى حكم شرعي صحيح للأحداث المستجدة المعاصرة دون فقه للسنن فقها دقيقا وفهم للواقع فهمًا صحيحًا، وإدراكه إدراك كاملاً، من خلال معايشته ومعرفة جزئياته وحيثياته، ومن هنا تأتي أهمية الحديث عن فقه الواقع وفقه السنن في الاجتهاد التنزيلي.

المراجع:

– مقال بعنوان” الاتجاه الاجتماعي في التفسير ودوره في تأصيل العلوم الاجتماعية” للدكتور مولاي عمر بن حماد.

– انظر “فقه التاريخ عند الدكتور فريد الأنصاري: المفهوم والمنهج والقضايا” للدكتور محمد البركة والدكتور سعيد بن حمادة ص114،115.

– انظر فقه واقع الأمة: دراسة في المفهوم والشروط والعوائق وهو كتاب صغير الحجم عبارة عن محاضرة مفرغة.

– انظر تقديم الدكتور عمر عبيد حسنة لكتاب الدكتور بشير بن مولود جحيش “في الاجتهاد التنزيلي”.

– انظر تقديم الدكتور عمر عبيد حسنة لكتاب الدكتور بشير بن مولود جحيش “في الاجتهاد التنزيلي”.

– انظر مقال بعنوان” الاجتهاد بتحقيق المناط: فقه الواقع والتوقع” لعبد الله بين بيه على موقعه الإلكتروني.

– انظر مقال بعنوان: “تحقيق المناط: تحكيم للقواعد أم تحكم فيها؟ للدكتور يوسف بن عبد الله حميتو