نشأتُ في منزل صغير بأطراف اليابان، استنشقتُ يومها طعم الحياة، لا أذكر بالضبط متى هو تاريخ مولدي، على نقيض طقوس البشر، لا تحتفل قطرات الماء بذكرى ميلادها. لكنني أتذكر تمامًا أنه في ذلك اليوم وُلِد معي أخٌ توأم، كان قرة عيني-إن كانت قطرات المياه تملك أعين-.
رحلتي أبدية مستمرة، تتعاقب عليّ المدن والقارات، أطوي آلاف الأميال لا أكلّ ولا أملّ، أتنقل من حال إلى حال وتبقى رحلتي هي الأجمل برغم جميع مصاعب الحياة.
نظر إليّ توأمي ببراءة الأطفال ونحن نهطل من أمّنا الغيمة، كان لدينا العديد من الأشقاء. لكنني وتوأمي هبطنا معًا في نفس اللحظة. شرعنا بحيوية الأطفال نتنافس أيّـنا سيصل إلى الأرض أولا، تعاركنا بالأيدي أثناء رحلة هبوطنا إلى الأرض، وتدافعنا أملا بالفوز في هذا السباق الطفولي. نهرتنا والدتي وتغير لونها فجأة:”توقفا، أنتما كبيران على مثل هذه التصرفات”.
قهقهت برفقة توأمي وسرعان ما اكتسى الحنان وجه أمي حين همست برقة: “لا بأس في أن تلعبوا من حين لآخر لكن عليكم أن تبقوا…” لم تستطع إكمال عبارتها فسرعان ما جرّتنا الجاذبية الأرضية نحو أوراق نبات الأرز في مزرعة شاسعة، ولحسن الحظ أنني كنت برفقة توأمي نتقاسم الورقة ذاتها.
ترى ما الذي كانت تقصده والدتي حين قالت”إنه يجب علينا أن نبقى”… صالحين؟ مؤدبين؟ ماذا بالضبط؟. لم تطل حيرتي وتساؤلات يفقد تناهى إلى مسمعي نداء استغاثة أخي: “النجدة! إني أكاد أن أسقط من الشجرة!”، واغرورقت عيناه بالدموع فاندفعتُ مسرعًا نحوه وتشبثتُ بكلتا يديه محاولاً أن أجذبه نحوي، لحسن الحظ أن الطبيعة وقفت في صفنا، فقد حملتنا الرياح برفق عندما أدركت أننا أبناء صديقتها الغيمة، ونحن نَصِيْح من فرط الحماس، حتى أوقعتنا عند نافذة السيد هيروشي، مؤكدة بأنه سيعتني بِنا جيدا لأنه كان اسما على مسمى، فقد كان كريمًا وعفوّا، بالإضافة إلى أنه كان يقدّس ويقدر كل عناصر الطبيعة ويتواصل معها بحبور جميل.
في تلك اللحظة التي كنّا فيها ننساب بهدوء فوق زجاج النافذة، فتح السيد هيروشي نافذته، فتشبث بي توأمي على الفور، أملا في أن لا نفترق، ابتسم السيد هيروشي ابتسامة ملؤها الحنان، تلك الابتسامة الدافئة ذكرتني بوالدتي فهمستُ في أذن شقيقي لعلّي أهدّئ من روعه: “لا تقلق، يبدو أنه رجل طيب كما حكت لنا الرياح أثناء رحلتنا الطويلة إلى هذا المكان”، فارتخت قبضته قليلاً لكنه ظلّ متمسكا بي. اقتربت أنامل السيد هيروشي منّا وحملتنا برفق، لم أفهم مبتغاه من إيحاءاته وتأملاته في تفاصيلنا، حيث أنه كان يتحدث بلغة لم أفقه منها شيئًا، لكنني شعرت بالتفاؤل من نبرة صوته الهادئة الرخيمة. إلا أنه سرعان ما خيّب ظنّي، فقد اتجه بنا ونحن معلّقين مع بقية قطرات المطر العالقة في أصابع يده نحو المغسلة، وإذا به ينفض يديه بقوة قبل أن يحمل فرشاة أسنانه، لنتساقط فجأة وسط بالوعة المغسلة، ونندفع بسرعة في أنابيب ضيقة وصدأة ونحن نشهق من هول الذعر، سبحان مغيّر الأحوال، فها هو مسار رحلتنا يتغير في لحظة لنرتحل من دفء حضن جدتي الشمس إلى ظلام هذه الأنابيب المخيفة، واكتشفت في تلك اللحظة، وأنا الطفل ابن اليوم الواحد، سنّة التغيير في الحياة.
بقينا ننتقل من نفق طويل إلى آخر دون أن نعرف مصير هذه الرحلة الشاقة، مكثنا على هذه الحال أياما لا نعرف عددها، التقينا فيها بجميع أنواع القطرات، الخبيث والطيب، البريء والمجرم وغيرهم الكثير.
هي حكاية رحلتي التي لا تنتهي، فأنا شريان الحياة، تشكلتُ من عناق ذرة الأكسجين بذرتي هيدروجين، سافرت إلى كل مكان، وعرفتُ الكثير من الأسرار.
اعتدنا على دهاليز تلك الأنابيب الضيقة، وتحولنا إلى مياه مجاري بعد أن كنّا ننعم بالهطول من السماء الزرقاء إلى خضرة الأرض، أصابنا الملل والقنوط من فرطا لازدحام اليومي عبر الأنبوب الرئيسي، ولكننا مع ذلك، تعلمنا الكثير في هذه الأزمة التي عرقلت مسيرة رحلتنا في هذه الحياة.
أدركتُ الآن ما كانت تقصده أمي، لعلها أرادت أن تحذرنا من التخلي عن بعضنا البعض كما تفعل بعض هذه القطرات التي تأثرت بأجواء الظلام والروائح النتنة فتلوثت فطرتها، لربما أرادت أمي أن نبقى معًا يحمي كلٌ منّا الآخر ويساعده في محطات رحلة الحياة دائمًا وأبدًا، أعني هل سمعتم ذات مرة صوت قطرة وحيدة؟ قطعًا لن يصدر صوت منها، لكننا لو التحمنا معًا في شلال مياه لتحقيق هدف مشترك، سيسمع دويّ أصواتنا من على بعد أميال وأميال، هذه هي القوة الحقيقية الكامنة في اتحاد والتحام قطرات الماء، لذا قررت أن أتحدث مع كل قطرة ألتقي بها وأنا أمسك يد شقيقي على أمل ألا نفترق أبدا.
كنت مستغرقًا في عدّ الطفيليات المتشبثة بالجدار، حين لمع ضوء في آخر النفق، ترى هل تكون؟….. نعم! إنها جدتي الشمس التي أنجبت بتبخيرها مياه البحر أمي الغيمة! أراها من ها هنا ترسل لنا قبلاتها الصباحية المعهودة، “جدتي!” صرخ شقيقي. “حبيبي” أجابت بحنو، وأرسلت كفيها الذهبيين المشعين بالدفء والنور نحونا، فتلقفناها بامتنان ونحن نتطاير وسط هدير الشلال المندفع من وراء السد، وأخذنا نتقافز بين أصابعها مسرورين.
من فرط سعادتنا، كوّنا معًا قوس قزح يسرّ الناظرين، وكان السيد هيروشي بين أولئك الناظرين! لكنني لم أعد أعبأ به ولا بالزمان أو المكان، كل ما يهمني الآن هو الحنين الذي فاض بين حناياي للعودة لأحضان جدتي. أحكمت قبضتي بشقيقي وقفزت عاليًا، عاليًا، حتى تناهى إلى مسمعي ذلك الصوت الرقيق الرنان:”أهلا بعودتكما يا فلذات كبدي”.
هي ذي حكاية رحلتي التي لا تنتهي، فأنا شريان الحياة، تشكلتُ من عناق ذرة الأكسجين بذرتي هيدروجين، سافرت إلى كل مكان، وعرفتُ الكثير من الأسرار، ترقرقتُ في رحلة أسفاري مع قطرات الندى، وانزلقتُ بنعومة في أنهار مختلفة، تسللتُ إلى باطن الأرض، وحلّقتُ مع السحاب في الجو، تدفقتُ في عروق الكائنات، وتصببتُ قطرات عرق من جباه العاملين، تبخرت في الهواء، طرتُ كالعصافير، سبحتُ كالأسماك، تحولتُ في رحلاتي الطويلة من السيولة إلى الصلابة البيضاء المتجمدة أُقبّل بثلوجي قمم الجبال الشاهقة، وانتقلتُ من ملوحة البحر إلى عذوبة النهر، بل إني تلوثتُ في المستنقعات الراكدة ومياه المجاري لكني لم أفقد يوما طهارتي ونقائي.
رحلتي أبدية مستمرة، تتعاقب عليّ المدن والقارات، أطوي آلاف الأميال لا أكلّ ولا أملّ، أتنقل من حال إلى حال وتبقى رحلتي هي الأجمل برغم جميع مصاعب الحياة، يبقى سفري هو أعذب الأسفار الكونية وصدق الإله العظيم: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ)(الأنبياء:30).
التوقيع: قطرة ماء