الحضارة الإسامية هي المرآة التي عكست الثقافة الروحية والمادية للشعوب التي أظلها الإسلام، حيث امتدت الدولة الإسلامية من الهند وآسيا الوسطى شرقًا، إلى الأندلس وبلاد المغرب غربًا، وجنوب إيطاليا وصقلية شمالاً، حتى بلاد اليمن وداخل إفريقيا جنوبًا. وقد ضمت هذه الحضارة كل هذه الشعوب بعقائدها المختلفة وثقافاتها المتعددة، بل إن بعض الباد التي فتحها الإسام كانت مهدًا لحضارات شامخة استقرت في وجدان شعوبها، وبرغم كل هذه الاختلافات فقد صهرها الإسلام في بوتقة واحدة نتج عنها الحضارة الإسلامية التي غمرت كل هذه البلاد، ونشأ في أحضانها علماء من كل الملل والنحل والأعراق والأجناس من المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، وفي كل الآداب والعلوم والفنون، حيث كان الإسام هو المحور وروح الإبداع، مما مكّن هؤلاء -في النهاية- من إنشاء حضارة ذات طابع متميز ظل مستمرًّا على مر العصور.
ذلك أن هذه الحضارة -بآفاقها الرحبة الواسعة ومنجزاتها الضخمة المتعددة- جاءت ظاهرة فريدة من نوعها في سلسلة الحضارات التي زخر بها التاريخ، والتي أسهمت في تقدم الإنسان فكريًّا واجتماعيًّا ومعنويًّا وماديًّا.
الحضارة الإسلامية هي الإسهامات المدنية التي أنجزتها دمشق وبغداد وقرطبة وغرناطة والقاهرة وفاس وبلاد فارس، وسواها من المدن والحواضر الإسلامية والعربية.
مفهوم الحضارة الإسلامية
الحضارة الإسلامية هي الإسهامات المدنية التي أنجزتها دمشق وبغداد وقرطبة وغرناطة والقاهرة وفاس وبلاد فارس، وسواها من المدن والحواضر الإسلامية والعربية. والحضارة والثقافة تستخدمان بمعنى واحد سواء في الشرق أو الغرب، وقد يختلف البعض في تسميتها “حضارة إسلامية” أو “حضارة عربية” فلا تناقض بينهما، فهما توأم حضاري لا ينفصل. فالمسلمون من العرب وغير العرب ساهموا في تكوين وتفعيل هذه الحضارة.
خصائص الحضارة الإسلامية
الحضارة الإسلامية تتميز بعدة خصائص عن غيرها ممن سبقها من حضارات فهي:
1- حضارة توحيد وإيمان تؤمن بالله ورسالاته وأنبيائه عليهم السلام، وتهتدي بهدي خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير)(البقرة:285)، والحضارة الإسلامية عندما اتخذت الإيمان ركيزة لها، إنما استهدفت حماية كيانها بسياج منيع من القيم الروحية والمثل الخلُقية الكريمة فلا خير في علم دون خلُق. ومكارم الأخلاق هي جوهر الديانات السماوية كلها، بحيث إنها تتفق جميعًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والإيمان في الإسلام لا يتعارض مع العقل؛ لأن الإسلام يقوم على أساس مبدأ تعقل الإيمان حتى يكون الإيمان راسخًا ثابتًا لا يتأرجح بتأرجح العاطفة. والحضارة الإسلامية حين تتخذ التوحيد والإيمان ركيزة ومنطلقًا لها، إنما تهدف حماية كيانها واستمراريته بسياج منيع من القيم الروحية والمثل الأخلاقية والمبادئ الفكرية.. فهي حضارةٌ ذات منطلقات إيمانية ومرجعية دينية، أدت إلى قيامها وإبداعها وازدهارها، من هنا اصطبغ كل نشاط حضاري فيها بصبغة التوحيد والإيمان، وهذا ما يجعلها تختلف عن أية حضارة أخرى لم تتبنَّ التوحيد صبغة وشريعة لها.
2- حضارة تقدمية بكل معانى الكلمة، لا جمود فيها ولا رجعية؛ حيث جاءت ثورة ضد الظلم والاستغلال والاستبداد والجمود والنكوص. فالإسلام لا يمنع المسلم من الأخذ بكل جديد طالما أن هذا لا يتعارض مع روح الدين ومثله العليا وآدابه، وليس حقيقيًّا ما يدعيه الهدامون من أن الإيمان يتعارض مع مبادئ العدالة الاجتماعية، لأن العكس هو الصحيح، بمعنى أن الصورة المثلى للعدالة الاجتماعية لا تكتمل إلا تحت مظلة الإيمان.
3- حضارة تتصف بالمرونة وسعة الأفق؛ بمعنى أنها لم تكن أبدًا منذ مولدها منغلقة على نفسها، وإنما كانت دائمًا مرنة قابلة للأخذ والعطاء، ولم تقف موقفًا معاديًا لما سبقها من حضارات، بل أخذت منه ما يتناسب معها، على العكس تمامًا مما فعلته الكنيسة وكهنتها من معاداتها لكل ما يخالفها من حضارات وعلماء. ولم تجد الحضارة الإسلامية العربية ما يحول دون الإفادة من تراث الحضارات اليونانية والفارسية والهندية وغيرها من الحضارات التي احتكت بها. وفي الوقت نفسه وقفت الحضارة الإسلامية موقفًا سمحًا من التراث الحضاري لكل من اليهود المسيحيين، فأقرَّت ما أتت به الكتب السماوية السابقة من مبادئ خلُقية كريمة، قال تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)(آل عمران:3-4)؛ كل ما في الأمر هو أن الحضارة الإسلامية أحسنت الانتقاء، فلم تتقبل ما صادفته من عناصر الحضارات الأخرى، وإنما تخيرت ما من شأنه أن يساعدها على الاحتفاظ بقيمها ومثلها وطابعها وهويتها، ورفضت كل ما لا يقبل التكيف، وكل ما لا يتفق وروح الإسلام ومبادئه.
حضارة تتصف بالمرونة وسعة الأفق؛ بمعنى أنها لم تكن أبدًا منذ مولدها منغلقة على نفسها، وإنما كانت دائمًا مرنة قابلة للأخذ والعطاء
4- هي حضارة محبة وسلام؛ ففي ظل السلام يكون البناء والإنشاء والتعمير، وفي ظل السلام (الإسلام) يأمن الإنسان على نفسه وعرضه وماله وأهله وعقله ودينه وهي مقاصد الإسلام، مما يجعل الإنسان ينصرف إلى العلم والعمل والإنتاج والإبداع مع يسر وسهولة الانتقال بين ربوع العالم الإسلامي في سلام وأمن وأمان، حتى أطلق بعض المستشرقين على ذلك الوضع اسم “السلم الإسلامي”. وقد أجمع الباحثون على أن البلاد والأقاليم التي احتوتها الدولة الإسلامية، والتي ترعرعت بين جوانبها الحضارة الإسلامية العربية، نعمت تحت مظلة الإسلام بقدر من السلام لم تعرفه في تاريخها السابق. وقد حررت هذه الخاصية الحضارة الإسلامية من أنماط الطبقية والعصبية التي من شأنها أن تجعل من المجتمع طبقات مغلقة، كما لعبت هذه الخاصية دورًا هامًّا في إثراء الحضارة الإسلامية وتنوعها، من خلال تنوع وتعدد الأجناس البشرية الداخلة في صياغتها؛ فقد اجتمع في بوتقتها العربي والفارسي والرومي والتركي والأفريقي.. وتجمعت خصائصهم وطاقاتهم لتتعاون في صياغة أمة واحدة وحضارة واحدة على قدم المساواة المطلقة التي تربط بين البشر.
5- هي حضارة تسامح؛ فلا حقد فيها ولا تعصب ولا كراهية، ويظهر ذلك من خلال سماحة الإسلام تجاه ما سبقه من رسالات وشرائع، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(الحج:17). وقد أمر الله عز وجل رسولَه والمؤمنين بالصفح والتسامح في أكثر من موضع منها قوله تعالى: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(الزخرف:89)، كذلك طالب الإسلامُ المسلمَ بألاّ يحمل في قلبه حقدًا أو غلاًّ لغيره، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(الحشر:10)؛ وقد أدت هذه السمة إلى صبغ الحضارة الإسلامية بالتسامح والمحبة مع شعوب العالم كله، مما أسهم في انفتاحها على الحضارات والثقافات الإنسانية التي عرفتها شعوب العالم القديم، ومن ثم تمثل كل ما هو إيجابي فعّال في بناء الحضارة واستمراريتها ونموها وتنوعها.
وقد وُجِد من أهل الذّمة في ظل الحضارة الإسلامية، من وصل إلى أرفع المناصب في الدولة وحظي باحترام العامة والخاصة، ليدلي بدلوه في نمو الحضارة الإسلامية، ويسهم في صياغة بعض إنجازاتها، وعلى النقيض مما كانت تفعله أوروبا مع المخالفين لها في المذهب أو الدين، وصفحات التاريخ ملأى بهذه الحوادث.
6- تتصف الحضارة الإسلامية بالحيوية والاستمرار والوحدة منذ مولدها؛ وحتى اليوم تواصل نشاطها بدرجة متفاوتة على مر القرون والعصور، وإن تعرضت للذبول والانكماش حينًا نتيجة لعوامل طارئة، مثل الهجمات العدوانية الشرسة التي يتعرض لها العالم الإسلامي؛ فإن مثل هذه العوامل كان تأثيرها مؤقتًا لا يصل إلى حد التوقف، وبزوال المؤثر يعود لهذه الحضارة وجهها المشرق، وتستأنف مسيرتها البناءة بنشاط وثبات؛ ذلك أن الحضارة الإسلامية قامت على أسس متينة من الدعائم الروحية والخلقية والفكرية.
ورب أجزاء من العالم الإسلامي حاول الاحتلال فيها أن يجتث الحضارة الإسلامية -عقيدة وفكرًا ولغة- ولكنها لم تلبث بزوال السيطرة الاحتلالية أن رفعت رأسها معتزة بتراثها الإسلامي وطابعها العربي. ولذا فإن هذه الحضارة حتمًا ستستعيد عافيتها لا محالة وتغمر العالم أجمع من جديد.
7- هي حضارة إنسانية بكل معاني الكلمة؛ تستهدف -أولاً وأخيرًا- خير الإنسان وصلاحه في الدنيا والآخرة، والحفاظ على كرامته وحريته، والنهوض بمستواه الروحي والفكري والاجتماعي والاقتصادي، ومنع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وتجنبه كل ما من شأنه أن ينزل به الضرر، حيث نظّم الإسلام حياة الإنسان -الخاصة والعامة- تنظيمًا دقيقًا يستهدف سعادة الفرد والأسرة والمجتمع، فالإنسان هو محور هذه الحضارة، وسعادته غايتها.
8- تتصف الحضارة الإسلامية بالأمانة المطلقة؛ وهي صفة ميَّزتها عن كثير من الحضارات السابقة عليها واللاحقة بها، ووضح هذا في نسبة ما نقلوه وترجموه من علوم اليونان والفرس والهنود وغيرهم، فلم ينسبوه إلى أنفسهم بل ردوا الفضل إلى أهله، وعلى العكس مما فعله اليونانيون عندما نقلوا الكثير عن غيرهم -وبخاصة الحضارة المصرية القديمة- ونسبوه إلى أنفسهم، وأيضًا ما يفعله الكثير من الكتّاب الغربيين اللهم إلا قليلاً منهم، عندما يكتبون عن تاريخ العلم والعلماء، ويغفلون عن قصد دور الحضارة الإسلامية وعلمائها في ارتقاء الحياة البشرية، وفيما وصلوا هم إليه من تقدم. كانت الحضارة الإسلامية هي الدعامة الأساسية الرئيسة في ذلك، أما علماء الحضارة الإسلامية، فقد ضربوا مثلاً رائعًا في الأمانة العلمية ونسبة الحقائق والأفكار إلى أصحابها دون تمييز؛ مما جعل الحضارة الإسلامية تقدم إنتاجاتها وكشوفاتها للعالم بأسره دون تفرقة أو تمييز، وجعلها في متناول الجميع أيًّا كان.. فقدّمت للإنسانية عطاءً زاخرًا بالعلم والمعرفة والفن الإنساني الراقي، وكان عطاؤها لفائدة الإنسانية جمعاء، لا فرق بين عربي وعجمي أو أبيض وأسود، بل لا فرق بين مسلم وغير مسلم.
قد وُجِد من أهل الذّمة في ظل الحضارة الإسلامية، من وصل إلى أرفع المناصب في الدولة وحظي باحترام العامة والخاصة، ليدلي بدلوه في نمو الحضارة الإسلامية، ويسهم في صياغة بعض إنجازاتها
ولعل ما سبق وبخاصة مسألة الأمانة العلمية التي تتصف بها الحضارة الإسلامية؛ يتضح عندما تطالع بعض الكتب عن تاريخ العلم والعلماء لبعض الكتاب الغربيين، فتجدهم يحذفون الحقبة التي سادت فيها الحضارة الإسلامية العالمَ في العصور الوسطى؛ وهي فترة تخلفهم وظلامهم عن عمد وقصد، متناسين ما يتشدقون به من الأمانة العلمية وعدم التمييز والمساواة، وهي شعارات يملؤون بها الدنيا، فما هم فيه الآن ما هو إلا تقدم تقني وليس حضارة، فالصفات التي سبق الإشارة إليها هي التي تبرهن على كونها حضارة أم تقدم تقني وفقط.
عنصران تقوم عليهما الحضارات
إن كل حضارة فيها عنصران؛ عنصر روحي أخلاقي، وعنصر مادي.
• أما العنصر المادي؛ فلا شك في أن كل حضارة متأخرة تفوق ما سبقها، وتلك هي سنة الله في تطور الحياة ووسائلها، ومن العبث أن تطالب الحضارة السابقة بما وصلت إليه الحضارة اللاحقة، ولو جاز هذا، لجاز لنا أن نستخف بكل الحضارات التي سبقت حضارتنا؛ لما ابتدعته حضارتنا من وسائل الحياة ومظاهر الحضارة، مما لم تعرفه الحضارات السابقة فقط. فالعنصر المادي في الحضارات، ليس هو أساس التفاضل بينها دائمًا وأبدًا.
• وأما العنصر الأخلاقي والروحي؛ فهو الذي تخلد به الحضارات، وتؤدي به رسالتها من إسعاد الإنسانية وإبعادها عن المخاوف والآلام. ولقد سبقت حضارتنا كل الحضارات السابقة واللاحقة في هذا الميدان، وبلغت شأوًا لا نظير له في أي عصر من عصور التاريخ، وحسب حضارتنا بهذا خلودًا.
وأخيرًا فالغاية من الحضارة هي أن تقرب الإنسان من ذروة السعادة، وقد عملت لذلك حضارتنا ما لم تعمله حضارة في الشرق والغرب. وحضارتنا الإسلامية تظل الوحيدة من بين سائر الحضارات الأخرى، القادرة على الانبعاث، لا سيما إذا تذكرنا قدرة النص القرآني والحديث النبوي على حماية مصداقيتهما بوعد الله، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر:9)، وشهادة التاريخ والوقائع، تثبت أنه ما من نص ذي أصل ديني، قدر على مجابهة التحريف والتزييف كالنص الإسلامي، مما يحقق لأمتنا الإسلامية التقدم والازدهار وإعادة الحياة والاستمرار لحضارتنا الخالدة.
(*) كاتب وأكاديمي مصري.