الإعجاز البلاغي أو البياني أو الأدبي أو اللغوي أو الفني في القرآن الكريم ينطوي كما هو معلوم على جمالياته الخاصة. وقد كتب في ذلك الكثير، منذ فجر الدراسات القرآنية وحتى اللحظات الراهنة. وهو مع ذلك يتطلب المزيد بالنسبة لكتاب ليس كالكتب وظاهرة جمالية فريدة لا تنقضي عجائبها.
بديع الزمان سعيد النورسي أدلى بدلوه هو الآخر، وكان هذا منطقيا تماما بالنسبة لرجل تدفقت رسائله المائة والثلاثون من نبع كتاب الله المترع عذوبة وسخاء، ونسجت كلماتها على هديه.
وهو منطقي مرة أخرى لأن خلفيات الفكر النورسي تنبض بعشق الجمال، وتراه انعكاسا مدهشا للإبداع الإلهي في الكون.
وهو (أي النورسي) في وقفتيه إزاء كتابَي الكون المنظور والمقروء، كان يولي اهتماما ملحوظا ومؤكدا لمتابعة الملامح والتشكيلات والقيم والمفردات الفنية والجمالية هنا وهناك. إنه مهندس معماري من طراز أول، وإن المرء ليلمس وهو يجتاز رسائله كافة كيف أن رؤيته للعالم والأشياء والكلمات هي رؤية مهندس يلمح ببصيرة ثاقبة وخبرة عميقة عناصر التوازن والتناظر في معمار الكون الكبير والكلمة المعبرة.
عالج النورسي جلّ المسائل والقيم الفنية والجمالية التي عني بها القدماء والمحدثون في دراساتهم البلاغية والأدبية والفنية واللغوية لكتاب الله، بدءً من الجاحظ والزمخشري والسكاكي والجرجاني وصولا إلى الخولي وسيد قطب وبنت الشاطئ وعشرات بل مئات غير هؤلاء وهؤلاء… وهو لم يكد يترك واحدة من هذه القيم الفنّية دون أن يقف عندها متأملا، مدققا، مستدعيا الشاهد الذي يؤكدها.
القيم أو المعطيات البلاغية
ينطلق النورسي في تعامله مع “البلاغة” القرآنية وإعجازها، من الخصائص التي أكدها القدماء والمحدثون: جزالة النظم وحسن متانته، وبداعة الأسلوب وغرابته وجودته، وبراعة البيان وتفوقه وصفوته، وقوة المعاني وصدقها، وفصاحة الألفاظ وسلاستها،(1) مؤكدا أن “البيئة” التي تنـزَّل فيها القرآن كانت في أشد حالات فصاحتها الفطرية وبلاغتها المطبوعة تألّقا وتمكنا.
لقد عُوّض العرب بغياب التدوين ذاكرة حادة، وسلامة في الأداء الشفاهي جعلتهم يتعاملون مع “الكلمة” في سويتها التي لا يشوبها دخل. ولقد عبّر شعرهم، ومعلقاتهم السبع التي وضعت على جدار الكعبة، عن المستوى “البلاغي” العالي الذي بلغوه. فلمّا تحداهم القرآن ليأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة واحدة، وعجزوا عن الاستجابة، كان هذا بحد ذاته تأكيدا لمعجزة القرآن.(2)
كان هناك كما يقول النورسي دافعان في غاية القوة لمعارضة القرآن والإتيان بمثله. أولهما: حرص الأعداء على معارضة كهذه، وثانيهما: شغف الأصدقاء بتقليده. والنتيجة: “لا شَيء”. وأصبحت محاولة كمحاولة مسَيلمة الكذّاب -رغم أنه من أصحاب البلاغة- مثلا يتندر به المتندرون وصورة من صور الهذيان الذي لا يستحق الالتفات.
عناصر الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم
يبدأ النورسي بتحليل عناصر الإعجاز البلاغي الخمسة فيبدأ بالنظم هذا الذي وقف عنده طويلا في كتابه المعروف “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز”. ويضرب لذلك مثلا: عقارب الساعة العادّة للثواني والدقائق والساعات والتي يكمّل كل منها نظام الآخر “كذلك النظم في هيئات كل جملة من جمل القرآن، والنظام الذي في كلماته، والانتظام الذي في مناسبة الجُمل كل تجاه الآخر”.(3)
1-النظم
إن النورسي يوظف هنا بعض معطيات ما يسميه المحدثون بنظرية النظم التي بلغت على يد عبد القاهر الجرجاني أقصى حالات اكتمالها في كتابيه المعروفين “أسرار البلاغة” و”دلائل الإعجاز”.. ويحاول متابعة الارتباط أو العلاقات الداخلية -إذا صح التعبير- في نسيج النص القرآني بين الكلمات والجمل والتعابير والأنساق، فيما عده البعض جهدا بنيويا بشكل من الأشكال.
وفي تفسيره لسورة البقرة في “إشارات الإعجاز” نفّذ النورسي محاولة تطبيقية لنظرية النظم هذه في بعض جوانبها، ولكنه في “الكلمات” يكتفي بشواهد محددة فحسب حيث لا يتسع المجال للاستفاضة. ومن هذه الشواهد تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْـهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ (الأنبياء:46) حيث يقول: “هذه الجملة مسوقة لإظهار هول العذاب، ولكن بإظهار التأثير الشديد لأقله، ولهذا فإن جميع هيئات الجملة التي تفيد التقليل تنظر إلى هذا التقليل وتمده بالقوة كي يظهر الهول. فلفظ ﴿لَئِنْ﴾ هو للتشكيك، والشك يوحي القلة. ولفظ “مَسَّ” هو إصابة قليلة يفيد القلة أيضا. ولفظ ﴿نَفْحَةٌ﴾ مادّته رائحة قليلة، فيفيد القلة، كما أن صيغته تدل على واحدة، أي واحدة صغيرة، كما في التعبير الصرفي -مصدر المرّة- فيفيد القلة. وتنوين التنكير في ﴿نَفْحَةٌ﴾ هي لتقليلها، بمعنى أنها شيء صغير إلى حد لا يعلم فينكر. ولفظ ﴿مِنْ﴾ هو للتبعيض، بمعنى جزء، فيفيد القلة. ولفظ ﴿عَذَابِ﴾ هو نوع خفيف من الجزاء بالنسبة إلى النكال والعقاب، فيشير إلى القلة. ولفظ ﴿رَبِّكَ﴾ بدلا من القهار، الجبار، المنتقم، فيفيد القلة أيضا وذلك بإحساسه الشفقة والرحمة. وهكذا تفيد الجملة أنه إذا كان العذاب شديدًا ومؤثرا مع هذه القلة، فكيف يكون هول العقاب الآلهي؟! فتأمَّلْ في الجملة لترى كيف تتجاوب الهيئات الصغيرة، فيعين كلٌّ الآخَرَ، فكلٌّ يمد المقصد بجهته الخاصة”.(4)
ولا ينسى النورسي أن يشير إلى الأسباب التي قد تخلّ في الحالات الاعتيادية بقدرة الخطاب على الاحتفاظ بسلامة “نظمه” من الخلل والاضطراب. أما في كتاب الله فإن الإعجاز القرآني يعرف كيف يتمثلها ويطويها.
فهناك ما يقارب تسعة أسباب: “إذ إن القرآن المبين نزل في ثلاث وعشرين سنة نجما نجما لمواقع الحاجات نزولا متفرقا متقطعا، مع أنه يظهر من التلاؤم الكامل كأنه نزل دفعة واحدة. وأيضا إنه نزل في ثلاث وعشرين سنة لأسباب نزول مختلفة متباينة، مع أنه يظهر من التساند التام كأنه نزل لسبب واحد. وأيضا إنه جاء جوابا لأسئلة مكرّرة متفاوتة، مع أنه يظهر من الامتزاج التام والاتحاد الكامل كأنه جواب عن سؤال واحد. وأيضا إنه جاء بيانا لأحكام حوادث متعددة متغايرة، مع أنه يبين من الانتظام الكامل كأنه بيان لحادثة واحدة. وأيضا إنه نزل متضمنا لتنـزلات كلامية إلهية في أساليب تناسب أفهام مخاطبين لا يحصرون، ومن حالات من التلقي متخالفة متنوعة، مع أنه يبين من السلاسة اللطيفة والتماثل الجميل كأن الحالة واحدة والفهم واحد، حتى تجرِي السلاسة كالماء السلسبيل. وأيضا إنه جاء مكلما ومتوجها إلى أصناف متعددة متباعدة من المخاطبين، مع أنه يظهر من سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الإفهام كأن المخاطبين صنف واحد بحيث يظن كل صنف أنه المخاطب وحده بالأصالة. وأيضا إنه نزل هاديا وموصلا إلى غايات إرشادية متدرجة متفاوتة، مع أنه يبين من الاستقامة الكاملة والموازنة الدقيقة والانتظام الجميل كأنّ المقصد واحد. فهذه الأسباب مع أنها أسباب للتشويش واختلال المعنى والمبنى إلاّ أنها استخدمت في إظهار إعجاز بيان القرآن وسلاسته وتناسبه..”.(5)
2- المعنى
المعنى هو العنصر الآخر في الإعجاز البلاغي للقرآن، يقول النورسي: “تصور نفسك قبل مجيء نور القرآن، في ذلك العصر الجاهلي، وفي صحراء البداوة والجهل، فبينما تجد كل شيء قد أسدل عليه ستار الغفلة وغشيه ظلام الجهل ولف بغلاف الجمود والطبيعة، إذا بك تشاهد بصدى قوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ﴾(الحديد:1) أو ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾(الإسراء:44) قد دبّت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة بصدى ﴿سَبَّحَ﴾ و﴿تُسَبِّحُ﴾ في أذهان السامعين فتنهض مسبحةً ذاكرة لله. وإن وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجوم جامدة، والأرض التي تدبّ فيها مخلوقات عاجزة، تتحول في نظر السامعين بصدى ﴿تُسَبِّحُ﴾ وبنوره إلى فم ذاكر لله، كل نجم يشعّ نور الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بالغة. ويتحول وجه الأرض بذلك الصدى السماوي ونوره إلى رأس عظيم، والبر والبحر لسانَين يلهجان بالتسبيح والتقديس، وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبحة حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة”.(6)
إن معاني القرآن كلها، بفضاءاتها الفسيحة، يقدمها الخطاب القرآني للناس في كل زمان ومكان بأسلوبياته المتميزة التي هي وحدها كفاء لمضامين هذا الخطاب.
3- الأسلوب
وهذا ينقلنا إلى العنصر الثالث في الإعجاز البلاغي لكتاب الله: الأسلوب.. إنه غريب وبديع، كما هو عجيب ومقنع: “لم يقلد أحدا قط ولا يستطيع أحد أن يقلده. ولقد حافظ وما يزال يحافـظ على طراوته وشبابيته وغرابته مثلما نزل أول مرة”.(7)
وفي مكان آخر يقف النورسي طويلا عند إحدى الخصائص الأسلوبية للقرآن، تلك هي “جامعيته” المثيرة للدهشة “حتى إن سورة واحدة تتضمن بحر القرآن العظيم الذي ضمّ الكون بين جوانحه، وإن آية واحدة تضم خزينة تلك السورة، وإن أكثر الآيات -كل منها- كسورة صغيرة، وأكثر السور -كل منها- كقرآن صغير. فمن هذا الإيجاز المعجز ينشأ لطف عظيم للأرشاد وتسهيل واسع جميل. لأن كل إنسان على الرغم من حاجته إلى تلاوة القرآن كلَّ وقت فإنه قد لا يتاح له تلاوته.. فلكي لا يحرم أحد من القرآن فإن كل سورة في حكم قرآن صغير. بل كل آية طويلة في مقام سورة قصيرة، حتى إن أهل الكشف متّفقون أن القرآن في الفاتحة والفاتحة في البسملة. أما البرهان على هذا فهو إجماع أهل التحقيق العلماء”.(8)
4- اللفظ
أما العنصر الرابع فهو “اللفظ”. “نعم، إن القرآن كما هو بليغ خارق من حيث أسلوبه وبيان معناه، فهو فصيح في غاية السلاسة في لفظه. والدليل القاطع على فصاحته هو عدم إيراثه السأم والملل، كما أن شهادة علماء البيان والمعاني برهان باهر على حكمة فصاحته”.(9) ويمضي النورسي إلى القول بأنه “لو كرر ألوف المرات فإنه لا يورث سأما ولا مللاً، بل يزيد لذة وحلاوة. ثم إنه لا يثقل على ذهن صبي بسيط فيستطيع حفظه، ولا تسأم منه أذُن المصاب بداء عضال الذي يتأذى بأدنى كلام، بل يتلذذ به وكأنه الشراب العذب”.(10)
ويبحث النورسي عن الأسباب وراء تألق اللفظ القرآني ويقول: “إن القرآن قوت وغذاء للقلوب، وقوّة وغناء للعقول، وماء وضياء للأرواح، ودواء وشفاء للنفوس، لذا لا يملّ.. إنه حق وحقيقة وصدق وهدى”.(11) ويضرب على ذلك مثلا آية واحدة من سورة آل عمران.(12)
وما دام النورسي يتعامل ها هنا مع “الألفاظ” فإنه يجد نفسه ملزما بالرجوع كرة أخرى إلى “النظم” القرآني الفريد: “نعم، إن الألفاظ القرآنية قد وضعت وضعا بحيث إن لكل كلام بل لكل كلمة بل لكل حرف بل حتى السكون أحيانا وجوها كثيرة جدّا، تمنح كل مخاطب حظه ونصيبه من أبواب مختلفة؛ فمثلا ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾(النبأ:7). فحظ عامي من هذا الكلام أنه يرى الجبال كالأوتاد المغروزة في الأرض كما هو ظاهر أمام عينه، فيتأمل ما فيها من نعم وفوائد ويشكر خالقه.
وحصة شاعر من هذا الكلام أنه يتخيل أن الأرض سهل منبسط، وقبة السماء عبارة عن خيمة عظيمة خضراء ضربت عليه، وزُيّنت الخيمة بمصابيح، وأن الجبال تتراءى وهي تملأ دائرة الأفق، تمس قممها أذيال السماء، وكأنها أوتاد تلك الخيمة العظيمة، فتغمره الحيرة والإعجاب ويقدس الصانع الجليل.
أما البدوي البليغ فحصته من هذا الكلام أنه يتصور سطح الأرض كصحراء واسعة، وكأن سلاسل الجبال سلسلة ممتدة لخيم كثيرة بأنواع شتى لمخلوقات متنوعة، حتى إن طبقة التراب عبارة عن غطاء ألقي على تلك الأوتاد المرتفعة فرفعتها برؤوسها الحادة، جاعلة منها مساكن مختلفة لأنواع شتى من المخلوقات. وكذا يفهم فيسجد للفاطر الجليل سجدة حيرة وإعجاب بجعله تلك المخلوقات العظيمة كأنها خيام ضربت على الأرض.
أما الجغرافيّ الأديب فحصّته من هذا الكلام أن كرة الأرض عبارة عن سفينة تمخر عباب بحر المحيط الهوائي أو الأثيري. وأن الجبال أوتاد دقّت على تلك السفينة للتثبيت والموازنة. هكذا يفكر الجغرافي ويقول أمام عظمة القدير ذي الكمال الذي جعل الكرة الأرضية الضخمة سفينة منتظمة وأركبنا فيها، لتجري بنا في آفاق العالم: “سبحانك ما أعظم شأنك”.
أما المتخصص في أمور المجتمع والملم بمتطلبات الحضارة الحديثة فحصّته من هذا الكلام أنه يفهم الأرض عبارة عن مسكن، وأن عماد حياة هذا المسكن هو حياة ذوي الحياة، وأن عماد تلك الحياة هو الماء والهواء والتراب التي هي شرائط الحياة. وأن عماد هذه الثلاثة هو الجبال، لأن الجبال مخازن الماء، مشاطة الهواء ومصفاته إذ ترسّب الغازات المضرة، وحامية التراب إذ تحميه من استيلاء البحر والتوحل، وخزينة لسائر ما تقتضيه حياة الإنسان. هكذا يفهم فيحمد ويقدس ذلكم الصانع ذا الجلال والإكرام الذي جعل هذه الجبال العملاقة أوتادا ومخازن معايِشنا على الأرض التي هي مسكن حياتنا.
وحصّة فيلسوف طبيعي من هذا الكلام أنه يدرك أن الامتزاجات والانقلابات والزلازل التي تحصل في باطن الأرض تجد استقرارها وسكونها بظهور الجبال، فتكون الجبال سببا لهدوء الأرض، واسقرارها حول محورها ومدارها وعدم عدولها عن مدارها السنوي، وكأن الأرض تتنفس بمنافذ الجبال فيخف غضبها وتسكن حدتها. هكذا يفهم ويطمئن ويَلِج في الإيمان قائلا: “الحكمة لله”.(13)
5- البيان
أما العنصر الخامس وهو “البيان” فيقف عنده طويلا باعتباره جماع العناصر كافة. إنه أعلى مرتبة من مراتب طبقات الخطاب وأقسام الكلام كالترغيب والترهيب، والمدح والذم، والإثبات والإرشاد، والإفهام والإفحام.(14)
“ومن بين آلاف أمثلة مقام الذم والزجر الآية الكريمة: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾(الحجرات:12). تنهى هذه الآية الكريمة عن الغيبة بست مرات وتزجر عنها بشدة وعنف، وحيث إن خطاب الآية موجَّه إلى المغتابين فيكون المعنى كالآتي: إن الهمزة الموجودة في البداية، للاستفهام الإنكاري حيث يسري حكمه ويسيل كالماء إلى جميع كلمات الآية، فكل كلمة منها تتضمن حكما؛ ففي الكلمة الأولى تخاطب الآية الكريمة بالهمزة: أليس لكم عقل -وهو محل السؤال والجواب- ليعي هذا الأمر القبيح؟ . وفي الكلمة الثانية ﴿أَيُحِبُّ﴾ تخاطب الآية بالهمزة: هل فسد قلبكم -وهو محل الحب والبغض- حتى أصبح يحب أكره الأشياء وأشدها تنفيرا. وفي الكلمة الثالثة ﴿أَحَدُكُمْ﴾ تخاطب بالهمزة: ماذا جرى لحياتكم الاجتماعية -التي تستمد حيويتها من حيوية الجماعة- وما بال مدنيتكم وحضارتكم حتى أصبحت ترضى بما يسمم حياتكم ويعكر صفوكم. وفي الكلمة الرابعة ﴿أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ﴾ تخاطب بالهمزة: ماذا أصابت إنسانيتكم حتى أصبحتم تفترسون صديقكم الحميم. وفي الكلمة الخامسة ﴿أَخِيهِ﴾ تخاطب بالهمزة: أليس بكم رأفة ببني جنسكم، أليس لكم صلة رحم تربطكم معهم حتى أصبحتم تفتكون بمن هو أخوكم من عدة جهات، وتنهشون شخصه المعنوي المظلوم نهشا قاسيا، أيملك عقلا من يعضّ عضوا من جسمه؟ أوَليس هو بمجنون؟! وفي الكلمة السادسة ﴿مَيْتًا﴾ تخاطب بالهمزة: أين وجدانكم؟ أفَسدتْ فطرتكم حتى أصبحتم تجترحون أبغض الأشياء وأفسدها -وهو أكل لحم أخيكم- في الوقت الذي هو جدير بكل احترام وتوقير”.(15)
ثم يخلص النورسي إلى القول بأن هذه الآية يفهم منها: “وبما ذكرناه من دلائل مختلفة في كلماتها، أن الغيبة مذومومة عقلا وقلبا وإنسانية ووجدانا وفطرة وعصبية وملّة. فتدبر هذه الآية الكريمة، وانظر كيف أنها تزجر عن جريمة الغيبة بإعجاز بالغ وبإيجاز شديد”.(16)
خاتمة
إن النورسي وهو يتحدث عن البعد الجمالي في أسلوبيات القرآن الكريم ويحاول أن يجزّئ المعطى الجمالي بالإحالة على مصطلحات البلاغيين كالنظم والمعنى والأسلوب واللفظ والبيان والتكرار…الخ.. لم يقصد ألبتة أن يحصر هذه المعطيات في دوائر تلك الحلقات المحددة في الدراسات البلاغية، ولا أن يخصص للموضوع عددًا من المقاطع والمباحث والرسائل والكلمات، ثم يمضي لمعالجة الموضوعات الأخرى بعيدًا عن أطرها أو نبضها الجمالي.
ذلك أن الإحساس بالجمال، ورؤيته، والتفاعل معه، وتلقيه، وتحليل أبعاده وعناصره -سواء في كتاب الكون المنظور أو الكتاب المقروء- يهيمن على كلمات النورسي ورسائله من بدئها حتى منتهاها.(17) ومن ثم فإن ما يقوله النورسي ها هنا عن جماليات الأسلوب القرآني، قد ينتشر بالكلمة القرآنية نفسها، جنبا إلى جنب مع الإبداع الإلهي في الكون والعالم، عبر الرسائل المائة والثلاثين جميعا.
ولكنها ضرورات الدراسة -كما يقولون- تقتضي -أحيانا- من الطرفين: المفكر ودارسيه، تحجيم القيم والمعاني من أجل السيطرة عليها.
ويبقي كتاب الله، قبل هذا وبعده، ينطوي على ما هو أغلى وأعلى وأكثر إثارة للدهشة والإجلال والتقدير: إنه الجلال الإلهي الذي تعجز الكلمات عن تقريب أبعاده للمتلقي، لأنه كلام الله جلّ في علاه، والذي يمكن للمرء أن يلمسه ويحسّه وينفعل معه وهو يقرأ في كتاب الله منذ أول كلمة فيه حتى آخر حرف، لكنه لن يكون بمقدوره أن يصفه، أو يحدده، أو يكتب عنه بما يوازي تمامًا حجمه أو تأثيره الحقيقي.
هذا الجلال القرآني الذي ينبض بالجمال.. بالتناظر والتناسب، والتوزيع المذهل للأبعاد والمساحات.. هذا التدفق الموصول الذي لا يكف عن الخفقان لحظة واحدة، ولا عن الإيماض لحظة واحدة، ولا عن الوعد بالعجيب المدهش لحظة واحدة.
أليس هو قبل هذا، ومعه وبعده، من عطاء الله الجميل الذي يحب الجمال، والذي لا تنفد كلماته، والذي إذا أراد شيئًا أنْ يقول له “كُن” فيكون؟!.
______________
الهوامش
(1) الكلمات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ص424.
(2) انظر بالتفصيل: الكلمات ص 434-426،518-519،522.
(3) الكلمات ص 426؛ وانظر: إشارات الإعجاز، ص 134،208.
(4) الكلمات ص 426-427
(5) الكلمات ص 481-482
(6) الكلمات ص 429-430.
(7) الكلمات، ص 431.
(8) الكلمات، ص 459-460.
(9) الكلمات، ص 436.
(10) الكلمات، ص 436.
(11) الكلمات، ص 437.
(12) ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(آل عمران:154)
(13) الكلمات ص 452- 453.
(14) الكلمات، ص 439.
(15) الكلمات ص 439- 440.
(16) الكلمات ص 440- 441.
(17) سبق وأن أنجز الباحث دراسة بعنوان “الكلمات: رؤية جمالية” تناولت الأسلوب والتقنيات، والموضوع الجمالي في الطبيعة والعالم والكون وقد نشرت في المجلد الخاص ببحوث الندوة العالمية الثانية حول فكر النورسي، إستانبول، دار سوزلر – 1993م.