سالك طريق… مُستَهَامٌ لا يفيق… حامل هوًى… مُتعَبُ خطوٍ… شاردُ لُبٍّ… أخو سفَر… أشعثُ أَغبَرُ.. ما استظلَّ بظلٍّ… ولا بأرضٍ أقام… ولا بمنـزلٍ نزل… إذا حَلَّ ارتحل… فلا أراحَ ولا استراح… على نفسه علا… وسلالـمَ الروح ارتقى… وبسَنَا أشواقه اهتدى… وبساطَ الأكوان طوى… وفضاءَ الكشف والعيان اعتلى…!
فادْعُ -يا درويشُ- هِمَّتكَ… فالطريق لا زالت طويلة… مُنداحَةَ الآفاق… مَهُولَةَ الأمداء… فامتطِ متـن عزيمتك… واركبْ جوادَ إرادتك… وإيّاك أنْ تَنْصَب.. وخباءَك وسْطَ الطريق تَنْصِب… وعن عصا ترحالك تتخلَّى… فذاك موتُك… فَذاك موتُك…!
يا “درويش”… يا قلبًا ذَابَ حتَّى عَذُبَ… يا فؤادًا هَامَ وعشق… يا حزنًا تعالى وتزكَّى… والعالـمَ احتوى… والإنسان بكَى… وعلى ضَيَاعِهِ نَاحَ وانتحب…!
يا “درويش”… يا حامل حيرة الإنسان من قديم الزمان… مَنْ أنا…؟ وأينَ أَنا…؟ ولماذا أنا…؟ وتظلُّ وراء الجواب تجري… قطعتَ الفيافي والقفار… وجُبْتَ البحار… وعلوتَ الجبال… وسألتَ الشجَرَ والزهر… والنجم والقمر… وغِبْتَ في غَابِ الأقلام… وَخُضْتَ في مداد العقول والأذهان… فَزِدْتَ ضياعًا… وفِضْتَ حيرةً… فلا أنتَ عرفْتَ.. ولا أنتَ وصَلْتَ…! ولكنَّ صوتًا من ذاتِكَ يأتي: “اِشْحذْ ذِهْنَكَ تَسمَعِ الجواب… وتدركْ مَبْعَثَ السؤال… لك وحدك أستطيع أَنْ أُفضي بجميع مكنونات صدري… لكَ وحدك أفتحُ أبوابَ كنوزي… وبين يديك وحدك، أنثر دُرَرَ علومي ومعارفي…!
سمعتُ مَرَّةً “درويش الأناضول” يحدثُ فيقول:
“من الطريق تعلّمتُ كيفَ أعيش الخطر… وأمشي على حاجز الموت… آنسًا بهدير العواصف… ومستضيئًا ببوارق الرعود… نابذاً عيش الهامدين… رافضًا سلامة العاجزين… أولئك العَوَّامين فوق الخواء… الناكصين عن مطاولة الأعماق… المشفقين من السباحة ضِدَّ التيار…!
ومن الطريق تعلمتُ كيف أنقذ روحي من الهاوية… وكيف أخرق بها السبْع الطباق… وكيف أرتقى الأسباب… وأعلو على الأسَى… وأستعذب الألم… لأحظى بالوصل وأنال المراد…!
ومن الطريق تعلمتُ كيف أخاف نفسي… وَأفْرَقُ من طغيان وجودي… وأحذر من ربوبية أَنايَ… وأتجنّب خيالات وهمي… وشطحات فكري… ومزاعم هواي… فلا أرى في الكون غيري… ولا في العالم سواي… وكأني أنا الفِكْرُ والمُفكِّرُ والمُفَكَّرُ به… ولا شيءَ غير ذلك..! وهذه هي الطامة الكبرى!
وعلّمتْني الطريق إذا كبوتُ نهضتُ… وإذا تأخَّرتُ تقدَّمتُ… وإذا فَتُرتُ هجتُ… وإذا خمدَ لهيبُ روحي أَوقدتُ… وإذا نِئْتُ بقيدي كسرتُ… وإذا احتجبتُ خرقْتُ… وجهلي قهرتُ… وسفينتي أطلقتُ… ونفسي في هادر الروح قذفتُ… وربِّي ناديتُ… أيدني -يا ربُّ- وثبتني… وعلى معرفتك أعنّي… وعنك لا تبعدني… وبالقرب منك أبقني… وزدني صحوًا ووعيًا… ومسكنةً وفقرًا… فكيف تبارحني الحياة وأنتَ حياتي… وكيف يخونني حزمي وأنتَ حزمي وقوتي…؟!
ألفَ مرَّة… في اليوم والليلة… أموتُ في العشق وأحيَا… أُوجَدُ وأفنَى… يا رماد قلبي المحترق… اِجمَعْ ذَرَّاتِك… وقُمْ من جديد… فؤادًا فتيًا… عاشقًا أبديًّا… واقطع مسافات الوجود… وَاضْوِهِ تحت جناحك… وعُدْ إلى نفسك منقّبًا عن جواهر علومك… وارتفع ثُمَّ ارتفع… لتصبح نزيل علوم السماء… وأسرار الأرض…!”
سريتَ حيثُ سَرَتْ بك دروب “الأناضول”… طرقتَ أبواب الجامعات غير هياب… واعتليتَ أسوار المدارس والمعاهد… وجُبْتَ الأسواق… واقتحمتَ المقاهي والمطاعم والمعامل… فأثرتَ استغرابًا واستنكارًا… وألفُ سؤال وسؤال دار في الأذهان… ما رأينا في الدراويش درويشًا كهذا… ماذا يفعل عندنا… ولماذا يخترق صفوفنا.. ويقتحم علينا مجتمعاتنا…؟ يا ويحه… يا ويحه…!
ويأتي من بعيد صوت… اِنْتَبِهْ يا “درويش”!… فالليل سَاجٍ… والنّجمُ في الأُفُقٍ باكٍ… اِلبَسْ جَنَاحَ الليل… وبجلبابه تجلبب… ثُمَّ قُمْ تضَرَّعْ… وألطافَ اللهِ تَشَرَّبْ… فالْمَلأُ الفرعونيُّ بكَ يأتمرون… ليُبْعدوك أَو ينفوك… وخارجَ التُّخُوم يقذفون…!
تجرَّعْ يا “درويش” سُمُوَّ أَحزانِك… واعْتَنِقْ طُهْرَ آلامِك… واستمطِرْ بَرَكاتِ غُربتك… فقد انكسرتْ أَقْفال العقول… وتحطَّمَتْ أَغْلالُ النفوس… وانكشفَ المستور… وسطع النور… وانفجر الينبوع… وأشرق سَنَاءُ الكتاب المهجور(1)… من القلب المبعوث(2) رحمةً للعالمين…
_____________
الهوامش
(1)المقصود: القرآن الكريم.
(2)المقصود: الرسول صلى الله عليه وسلم.