لا يزال الكثيرون ينظرون للإنسان كنسخة متطورة من الحيوان، أو -في تصور آخر- كحيوان ذكي جعله ذكاؤه أكثر قدرة على السيطرة على الطبيعة وما حوله. كما جعله ذكاؤه أكثر طموحا وطمعا في المزيد من الشهوات والرغبات قياسا بباقي الحيوانات التي لا تجاريه في هذا الطموح. فطموح الحيوان هو السيطرة على قطيع أو منطقة من الغابة، بينما طموح الإنسان السيطرة على شعوب وقارات وكواكب. وبالتالي فالرغبة دافعها واحد والشهوات مصدرها واحد ولكن التعبير عنها يختلف حسب قدرة وذكاء الحيوان. والهدف من هذا هو المتعة الحسية والشعور بالسعادة. والطريق إلى هذه السعادة هو إشباع الغرائز. فهذا الكائن هو ماكينة تبحث عن العمل والنوم والمتعة الحسية ثم المزيد من العمل والإنتاج والتراكم المادي للممتلكات.
ومع هذه النظرة التي تقدم الإنسان كمصارع للطبيعة بدلا من أن يكون جزءا منها، نجد الكثيرين يفترضون أن قهر وتدمير الطبيعة هو شرط لتقدم الإنسان المادي وسعادته.
إشباع الجسد والروح معا
لكن هناك الكثير من العلامات التي تتعارض مع هذا التصور، وتنفي هذا التفسير للسلوك الإنساني في سعيه وراء السعادة والأمان. إذ لا يعقل أن هذا الحيوان المتعطش لإشباع غرائز التملك والمتعة يضحي بوقته في التعبد، أو مشاهدة لوحة فنية، أو الاستماع إلى موسيقى… فهذا لا يتماشى مع منطق الكائن المنتج الساعي وراء القوة والسيطرة فقط. بماذا نفسر وجود من يحرم نفسه من الطعام، أو يدفع المال لمساعدة فقير أو طفل أو ضعيف، رغم أن هذه الأفعال لن تزيد من ممتلكات هذا الإنسان أو من سيطرته؟ لماذا تدعو المجتمعات للعطف على كبير السن والضعيف والمريض رغم كون هؤلاء يُعتبَرون -بالمقاييس المادية- معوقات للإنتاج والعمل؟ لماذا ظل الإنسان على مر العصور يضيع وقته في الصلاة لمعبود أو في بناء مباني جميلة أو رسم لوحات فنية أو تأمل الطبيعة أو عمل مقطوعات موسيقية تمس المشاعر والأحاسيس، وهو ليس مجبرا على هذا، بل في أغلب الحالات هو يجد متعة في فعل هذا، ويتباهى به؟
إذن الإنسان ذو الجسد الحيواني، ذو الشهوات والغرائز والرغبات له وجه آخر روحاني لا يمكن إنكاره. وهذا الإنسان كي يصل إلى السعادة المنشودة لابد أن يُرضي الشق المادي والشق الروحي معا.
العلوم وفلسفة الحضارة
فروع العلم كلها -بما فيها الطب- تتأثر بفلسفة المجتمع المحيط بها ومتطلباته؛ فنجد مثلا الحضارة الإسلامية برعت في علوم الهندسة والحساب والفلك، وربما كان هذا لاحتياج الناس إلى تنظيم صلواتهم وصيامهم. ونجد علما مثل علم الأجناس وتصنيف الشعوب يتطور وينمومع حكم الدول العنصريه، مثل ألمانيا النازية، وأثناء غزو الأوروبيين للأمريكتين وإفريقيا… وفي المقابل نجد فلسفة المجتمع تتأثر بما تجده مناسبا لها من العلوم؛ فنجد نظرية مثل نظرية داروين في الانتخاب الطبيعي والبقاء للأقوى -رغم وجود الكثير من الأدلة المضادة لهذه النظرية- إلا أن هذه النظرية تجد من يؤازرها ويضعها في محل التطبيق على المستوى الاجتماعي والحضاري، وليس فقط على المستوى البيولوجي، ويجد فيها المبرر الأخلاقي لقهر الشعوب ونهب الثروات وتلويث البيئة وتدمير الطبيعة.
في الطب كان من الطبيعي أن ينظر الطبيب إلى الإنسان كوحدة متكاملة من جسد وروح، هكذا كانت النظرة منذ أقدم العصور. فكنا نجد حكيم القبيلة المسؤول عن علاج الأمراض هو نفس الشخص الذي يستعين به أفراد القبيلة لاتخاذ قرار صعب أو في التعبد والصلاة. وكان هذا الشخص يجمع بين العلم والروحانية والسحر والشعوذة والطقوس الموروثة.
ولقد تطور الأمر في بعض الحضارات، فوجدنا في الحضارة اليونانية فلاسفة وأطباء في نفس الوقت. ومع الحضارة الإسلامية وجدنا هذا التطور في أبدع صوره تكاملا، لقد رأينا العالم والطبيب والكيمائي هو نفس الإنسان الشاعر والفقيه والفيلسوف. لقد رأينا صورا من الإبداع في العلوم المادية التجريبية صدرت من الفقيه صاحب الإبداعات الفنية والفلسفية. من أمثلة هذا في الطب ابن سينا (980-1037م) والرازي (864-923م) وابن النفيس (1210-1288م)…إلخ.
طب الجسد وطب الروح
ولكن مع ظهور الحضارة الغربية الحديثة حدث تحول عن هذا الاتجاه في العلم والطب. فكان أن أخذت أوروبا عن المسلمين العلوم التجريبية منفصلة عن الروحانيات. وقامت نهضه أوروبا على فصل العلوم التجريبية عن الروحية. ولقد حدث هذا نتيجة اضطهاد الكنيسة في تلك العصور للعلم والعلماء وللمنهج التجريـبي مما أدى إلى رد الفعل بفصل الدين عن الدولة، والروحانيات عن العلوم المادية، والأخلاقيات عن التجارة، وطب الجسد عن طب الروح. وكانت النتيجة شعار: “الغاية تبرر الوسيلة” في السياسة والحكومات، ومجتمعات تنفق على علوم تخترع أسلحة الدمار الشامل أكثر مما تنفق على التعليم أو الغذاء، وتجارة رأسمالية تستغل الشعوب ويزيد معها غنى الأغنياء وفقر الفقراء، وإنسان يقهر ويدمر الطبيعة في سبيل المزيد من المال، وطب ينظر إلى الإنسان كمجموعة من التفاعلات الكميائية والوصلات الكهربية والعلاقات الهندسية دون أن يرى الروح التي نفخها الله في هذا الإنسان، وإبداع الخالق من وراء كل ذلك.
ومما يدعو للحزن أن هذا النهم والإشباع المادي الذي تحصل عليه قلة من أهل الأرض على حساب باقي الشعوب لم يفلح في أن يعطي هذه القلة الشعور بالسعادة أو الاطمئنان، وظل هناك سعي محموم وراء السعادة بمحاولةِ تملّكِ المزيد وإشباعِ المزيد من الشهوات، وهكذا استمرت الحلقة المفرغة دون سقف أو شاطئ مأمون. وظهرت هناك زيادة في الكم دون الكيف؛ فوجدنا الإنسان يعيش أعواما أكثر ولكن مع تعاسة واكتئاب. ووجدنا أمراضا تتم السيطرة عليها ولكن دون أن تتحسن نوعية حياة المريض أو قدرته على الشعور بالسعادة والأمان، أو الاستمتاع بالحياة.
بشائر الأمل
ولكن بشائر الأمل قد بدأت في الظهور، ففي أثناء العقد الأخير بدأت تظهر توجهات -رغم بساطتها- على أن العلم والطب سوف يعود إلى سابق عهده في رؤية متكاملة للمادة والروح. وللنظرة التي تعي الطبيعة وما وراء الطبيعة. نظرة ترى الكون والخلق، وتشعر بعظمة الخالق، وتستشعر روح الكائنات ولا تكتفي بما تستقبله حواسنا الخمس البسيطة من سمع وبصر وشم ولمس…إلخ، تلك الحواس التي وهبنا الله إياها لتساعدنا على الإدراك وليس لتكون منتهى إدراكنا للكون. والنظر للإنسان كجزء من البيئة المحيطة يجمعه معها مصالح مشتركة وليس كعدو أو مصارع لها.
أمثلة من جراحة العظام
كانت نظرة الأطباء إلى الإنسان كمجموعة من التفاعلات الكميائية والكهربيات، وإلى العظام كروافع هندسية. كانت هذه النظرة هي العامل المحرك في تطور علاج أمراضِ وكسور العظام، وبخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين؛ ففي علاج الكسور كان الأسلوب الغالب هو تثبيت الكسر بأقوى الوسائل وأشدها صلابة من شرائح معدنية أو مسامير. وكان التنافس بين العلماء هو في اكتشاف مواد أكثر تحملا للضغوط المتكررة على جسم الإنسان، وفي الوصول إلى تصميمات أكثر متانة كي تعيش أطول عمر ممكن داخل جسم الإنسان وكي يتقبلها الجسم مدة أطول قبل أن تنهار تحت ضغط التحريك المتكرر والاحتكاك والتآكل التدريجي للمعادن، وتآكل العظام والأنسجة المحيطة بالجسم الغريب.
وفي علاج المفاصل المريضة أو علاج الأورام انتشرت طريقة تعتمد على إزالة الورم أو المفصل المريض واستبداله بمفصل صناعي من سبائك معدنية وبلاستيك. وظل نفس التحدي هو الحصول على مادة تعيش فترة كافية ويتقبلها الجسم، وتتحمل الضغوط والاحتكاك كي تقوم بالعمل داخل جسم الإنسان مثل المفصل والعظام الطبيعية، وتسمح لمن أجريت له هذه الجراحة بالعودة إلى حياته الطبيعية أو أقرب ما يكون إلى ذلك.
ولكن محاولات الأطباء والعلماء لم تصل حتى الآن إلا إلى نجاح محدود نسبيا؛ فالعمر الافتراضى لأغلب هذه المفاصل الاصطناعية يتراوح بين عشرة وخمسة عشر عاما، في حين أن متوسط عمر الإنسان يتراوح بين ثمانين وتسعين عاما. وهذه المفاصل لا تعطي مجال الحركة الطبيعي أو القوة الطبيعية أو الليونة أو القدرة على المناورة التي يمنحها المفصل الطبيعي، حيث إنها تفتقد إلى الكثير من التفاصيل الدقيقة التي تحتويها العظام الحية. ثم إن مضاعفات هذه الجراحات عالية نسبيا، حيث إن وجود جسم غريب بحجم كبير مثل المفصل الصناعي يجعل المريض أكثر عرضة واستعدادا لحدوث تلوث صديدي، وللعدوى بالميكروبات، حيث إن مناعة المنطقة التي يتم إجراء الجراحة بها تكون أقل من باقي الجسد، وذلك لأن الدورة الدموية -بما تحمله من كرات الدم البيضاء والمواد المسؤولة عن الدفاع عن جسم الإنسان ضد الميكروبات- لا تكون متواجدة داخل هذا الجسم الغريب، وبالتالي فإن هذا المفصل الصناعي أو الجسم الغريب يكون مَخْبأ ممتازا للميكروبات التي تختبئ فيه من أجهزة المناعة لدى الجسم. وعند انتهاء العمر الافتراضي للمفصل وتآكله أو تآكل العظام والأنسجة المحيطة به يحتاج المريض إلى جراحات أخرى أكثر تعقيدا، وأقل بكثير في نسبة النجاح.
ولكل هذا -ولأسباب أخرى- ينصح الأطباء بتأخير تركيب هذا المفصل الصناعي، وقَصر تركيبه على الموغل في السن، ليس فقط لقصر عمره الافتراضي، ولكن لأن تحمل هذه المفاصل محدود، ولا تتحمل نشاطَ أو حركةَ شاب رياضي أو جندي أو عامل في حقل، فينصح الأطباء مثل هؤلاء بالتقاعد والتقليل من الحركة قبل إجراء الجراحة وبعد إجرائها، كي يعيش المفصل الصناعي أطول وقت ممكن.
وبالطبع هذه المفاصل لا تنمو، فلا يمكن تركيبها في الأطفال إلا في حالات خاصه.
العودة إلى النظرة التكاملية
لكل هذه الأسباب بدأ الإنسان يبحث عن بديل حي للعظام المريضه، وبدأ يعرف أن أسرار الحياة المعقدة لا يمكن استبدالها ببعض السبائك والأجهزة البسيطة، فبدأ في البحث عن بدائل حية في صورة زرع العظام من المريض نفسه (وهذا كميته محدودة ولا تكفي لتعويض نقص كبير بالعظام)، أو عن طريق ما يسمى ببنك العظام، وهو بنك يحفظ عظاما من أشخاص متوفّين أو متبرعين. ولكن قدرة التئام هذه العظام المنقولة من شخص غريب تكون محدودة جدا، إما نتيجة رفض الجسم لها ومهاجمة جهاز المناعة لها لكونها أنسجة غريبة، أو لعدم احتوائها على ما يكفي من الخلايا الحية التي يحتاجها الجسم أو المكان المصاب، وذلك نتيجة موت أغلب الخلايا أثناء عملية التبريد والحفظ أو التعقيم بالبنك.
وهنا ظهرت بوادر مرحلة جديدة من العلاج وهي العلاج بخلايا حية من جسم الإنسان نفسه، ولكن لها القدرة على بناء أنسجة جديدة تحل محل الأنسجة المصابة.
ومن هذه الطرق ما يسمى طريقة إعادة تكوين الأنسجة عن طريق الإطالة التدريجية، وهي طريقة وصفها عالم روسي يدعى “أليزاروف” في الستينيات من القرن العشرين، ولكن بدأت تنتشر حول العالم مع أوائل التسعينيات من القرن العشرين. وهي عبارة عن عمل شق بالعظام بطريقة جراحية معينة ينتج عنه بعد عشرة أيام من الجراحة ما يشبه مركز النمو لدى الأطفال. ثم يتم توجيه النمو عن طريق أجهزة تثبيت داخلية أو خارجية في الاتجاه المطلوب، وبسرعة مليمتر واحد في اليوم. أي، إذا كان المطلوب إطالة ساق قصيرة مسافة ثلاثة سنتيمترات فتتم الإطالة على مدى ثلاثين يوما، بعدها ينتظر الطبيب المعالِج بعض الوقت حتى يتم نضج الأنسجه الجديدة ثم يُزيل جهاز التثبيت الداخلي أو الخارجي ويعود الإنسان إلى حياته الطبيعيه. ونلحظ هنا أن هذه الطريقة يَنتج عنها ليس فقط خلايا من عظام جديدة بل وعضلاتٌ وأعصاب وشرايين وجلد…إلخ.
ومع هذه المرحلة الجديدة ظهر العلاج بالخلايا الجذعية -ولكن لا يزال في مراحل التجربة الأولى ولم يتم استعماله على مجال واسع بعد- وهي خلايا جنينية في مراحل التطور الأولى، ويتم التحكم في تطورها ونضجها إلى النسيج المطلوب والذي يحتاجه المريض. فإذا كانت هناك مشكله بغضاريفِ أحد المفاصل فيمكن تعويض الخلايا المريضة بخلايا جديدة يتم توجيه نشاطها بحيث تتحول إلى خلايا غضروفية يتم زرعها بالجسم في المرحلة المناسبة.
وهناك العلاج بالهندسة الوراثية والجينات، وهو أيضا محل بحث في المراحل الأولية، وبه يمكن التحكم فيما تفرزه الخلايا من مواد وما تقوم به من تفاعلات عن طريق تغيير ترتيب الجينات والأحماض الأمينية بنواة الخلايا، بحيث يمكن تشجيع الخلايا على إنتاج مادة ناقصة من جسم الإنسان المريض، أو التوقف عن إنتاج مادة أو نوع من الخلايا التي قد تكون هي سبب المرض.
مما سبق، نجد أن العلم الإنساني قد بدأ يعود ثانية إلى التعامل مع الحياة كمجموعة متكاملة متداخلة من التفاعلات. منها ما هو مادة ومنها ما هو روح، قد يكون هذا التعامل في مراحل أولية، وقد يستمر هذا الاتجاه أو ينتكس، قد يصل إلى ما نحلم به بعد عدة سنوات أو عدة قرون، ولكن على المدى الطويل نتمنى أن نعود إلى النظرة المتكاملة للصحة والمرض وللجسد والروح، والتكامل -بدلا من التضاد- بين الإنسان والكون.