تعيش البشرية فوق كوكب صغير يسمى الأرض، وهو على شساعته لا يعدو كونه نقطة زرقاء سابحة في الفضاء. وكوكبنا بحكم اكتشاف سكانه عددا من الإمكانات الهائلة التي تقرب المسافات وتطوي الزمان وتيسّر التأثير والتأثر قد أضحى أشبه بخلية النحل الهائجة المائجة، وأضحت عليه هذه المجموعة البشرية أشبه بالبويضة الملقّحة التي يمكن أن يتولّد عنها كائن إنساني سوي وخيّر، كما يمكن أن يتولد عنها مارد مدمر لذاته وللحياة من حوله.
وبناء على هذا الإدراك فإن الحوار اليوم قد تجاوز بمراحل كونه مجرّد اختيار إلى صيرانه ضرورة؛ ولاسيما أن البشرية اليوم قد أصبحت أفعل وأقدر في مجالات التدمير منها في كل العصور التي مضت. فنحن نمتلك من القنابل النووية والذَّرية والهيدروجينية وغيرها، ما نستطيع به تدمير الأرض آلاف المرات وليس مرة واحدة. ويكفي تسلل قناعة مظلمة لواذا إلى عمق الإنسان فتستقر فيه لكي يدمر هذا الكويكب الذي ليس لنا ملجأ سواه؛ فلا أرض -راهنا- سوى هذه الأرض يمكن أن تُقلّ النوع البشري.
وقد أثبتت تجربتنا التاريخية المشتركة أن الرشد الذي برهنا عليه مجتمعين لم يبلغ درجة الكفاية، حتى في إطار تديناتنا المتنوعة، فالقراءة للتاريخ تثبت أن تعاطينا مع الوحي وهداياته لم يكن فيه -في الأغلب- التوجّه لهذا الوحي لنستمد منه أجوبة عن سؤالاتنا، وإنما كان تعاملنا معه -على الأعمّ- تعاملا استعماليا من أجل أن ننصر به قضايا ضيقة، أو أن نقضي به أغراضا زائلة، وقد يقارف هذه القضايا وهذه الأغراض في كثير من الأحيان إضرار بالذات أو بالمحيط، أو بهما معا.
وقد كانت الفترات -على قلّتها- التي سلَّم فيها الإنسان فعلا للوحي ولهدايته وأنواره بتوجه وفهم سليمين عبر التاريخ البشري أكثرَ الفترات سلاما وعطاء ورشادا وتعاونا على البر والتقوى.
إننا في هذه المرحلة أحوج ما نكون إلى فتح الأبواب على الواقع كما هو، لنتمكّن من إدراكه على ما هو عليه، لنكون أقدر على تصييره ذلك الواقعَ الذي نحلم به، فكلنا نحلم بالتسامح وبالجمال وبأن تكون البشرية متعاونة على البر والتقوى فوق هذا الكوكب، ولكن الواقع يُثبت أن ثمة سوابق معرفية وبرديغمات تؤطر الأذهان، ومن خلال هذا التأطير تُوجِّه الواقعَ وسلوكَ الإنسان. وبالتالي فإنه لا بد من فتح هذه المنطقة ودخولها لاستكشافها وتنقيتها وإعادة ترتيبها؛ وهي خمسة أمور لا يمكن تصوّر تحققها بدون اعتماد مستلزماتها ومقتضياتها، وفي طليعتها الأساس المعرفي البحثي العلمي.
ففتح رمّانة المعتقدات والتصورات والسوابق المعرفية والبرديغمات والقيم والمعايير، وإحصاءُ حبّاتها عددا، وقياس تأثيراتها، وتتبع تجلياتها في حياة الناس أفرادا وجماعات، أمر لا يمكن بدون ركوب مَركب المعارف المساعِدة، والتشميرِ للقيام بالبحث العلمي اللازم بالمناهج الملائمة، مراعاة للسياقات التاريخية والحضارية والثقافية المتنوعة.
كما لا يمكن تصور دخول هذه المجالات المركّبة دون الاستثمار الزمني والنفسي والذهني والمادّي الملائم، إذ هو دخول لا يمكن أن يتم دون التعاطي الميداني التفاعلي المباشر مع أهلِ ومكونات الحضارات المختلفة.
أما الاستكشاف، فلا يمكن تصوّر وقوعه بدون ما يلزم من آليات منهاجية ولغوية للتعايش مدخل الاستكشاف، وكذا يلزم من مهارات ومقتضيات مادّية لدراسة العلوم والآداب والفنون والصنائع والشرائع والنظم، والتي هي جميعا مُتجلّى المعتقدات والتصورات والسوابق المعرفية والبرديغمات المؤطرة والقيم والمعايير، مع ضرورة مواكبة ذلك كله بالانتباه المتوفّز للفروق بين مختلف الحقول العلمية والعملية، والتفاوتات التاريخية، ومع الملاحظة الدقيقة والجمع المستوفي للمعطيات مع دراستها وتحليلها بالمناهج الملائمة، وهي مناهج يضطر المستكشف في كثير من الأحيان أن يبنيها بناء.
كما لا يمكن تصور القيام بتنقيةٍ، دون امتلاك ناصية المعرفة الدقيقة بالأصول والمنطلقات، إذ لا تعدو التنقية في نهاية المطاف تصفية الأمور ممّا يشوبها عبر الزمن وردّها إلى أصول نشأتها الأولى دون تمحّل ولا تكلّف، كسحاً للألغام المفاهيمية، والإعاقات التصورية التي قد تتسرّب إلى هذه الأنساق خلال مساراتها التاريخية وتقلباتها الاجتماعية، فتحجمها وتلجمها أو تفتحها على سراديب الكلّيانية والعنف الحضاري والدمار المدني.
أما إعادة الترتيب، فلا يجوز أن تكون خارج الثوابت تنصيصا وتقصيدا في مراعاة تامة للواقع وتطلباته، واعتبارٍ لمختلف المآلات التي قد تنجم عن هذا الترتيب أو ذاك.
أنواع المحافل الحوارية
غير أننا حين ننظر إلى المحافل الحوارية في عالمنا اليوم فإننا لا نجدها تتجاوز خمسة أنواع رئيسة من المحافل؛ معظمها في منآة عن هذا الكدح الخماسي المشار إليه آنفا:
1- المحافل التوظيفية
في هذا النوع من المحافل يتم توظيف الحوار من أجل الإبقاء على أمور معينة، أو من أجل الوصول إلى أغراض محددة.. كما يغلب على المقولات والأفكار التي تروَّج في هذه المحافل كونُها صدى لما يحمله المنظِّمون من قناعات؛ إذ يتم البحث في دائرة “الآخر” عمن سوف يتكلم بما في أذهان المنظمين وعما يشتهون، وليس عمن يحمل أفكارا وقناعات “أخرى”!
وهذا المنحى التوظيفي تندرج ضمنه جلُّ الدراسات التي تم القيام بها خدمةً للمنظور الاستعماري، أو خدمةً لأغراض ومنافع تجارية واقتصادية صرفة. وهو ما قامت به الدول عبر التاريخ مرورا بالفراعنة ووصولا إلى يومنا هذا؛ حيث تدرس المعتقدات والقناعات ضمن هذه المقاربة التوظيفية بغرض التسلل إلى المعمار الذهني للآخر بغية تأطيره والتحكم فيه.. ومن هنا فإن المحافل التي تنحو هذا المنحى توظيفية بامتياز.
2- المحافل الدعوية التبشيرية
وهناك منحى ثان، يمكن أن نصطلح على تسميته بـ”المنحى الدعوي أو التبشيري”. وهو منحى لا تكاد تبرأ منه ملة من الملل؛ ويمكن أن نجده في المسيحية كما يمكن أن نجده في الإسلام، أو في الهندوسية أو البوذية أو في كل الديانات ذات النـزوع التبشيري، ومن ثم فإن الحوار في هذه المحافل لا يكون تعارفيا استكشافيا بقدر ما يكون مستهدِفا ضم الآخر بل أحيانا هضمه.
3- المحافل الأكاديمية
الضرب الثالث من المحافل يمكن أن نصطلح على تسميته بـ “الأكاديمي”، حيث يُعنَى فيه الباحث بمعرفة الأمور والوقائع والمعطيات كما هي، يكشف عنها ويتركها بحياد متاحة للتوظيف من طرف أي من المحافل الأخرى. وهو محفل له إيجابياته ويحتل المنـزلة بين المنـزلتين: التوظيفية والتعارفية.
4- المحافل التوليفية المستهدِفة لتحقيق التعايش
هذا النمط الرابع من المحافل الحوارية يسعى إلى البحث عن نقاط الالتقاء والقواعد المشتركة مع “الآخر” من أجل وضع حد للصراعات العدمية؛ فهو بهذا يمارس التوظيف، لكن بطريقة إيجابية تروم حقن الدماء، وصيانة الأرواح، واستبقاء المصالح وعيا بضرورة الإبقاء على التوازنات بشكل أو بآخر دون الغوص في معرفة الآخر ومحاولةِ فهمه فهما عميقا صادقا وصحيحا وإفادته والاستفادة مما عنده.
5- المحافل المعرفية التعارفية
وهي أكثر هذه المحافل ندرة، إنها المحافل التي تريد أن تستفيد من الحكمة أينما كانت؛ إذ الحكمة ضالة الباحث المحاور فأينما وجدها فهو أحق الناس بها. ونحن لا نتحدث هنا عن النص أوعن العلاقة الإيمانية به ولا عن تصديقه أو هيمنته، وإنما نتحدث عن الحكمة التي تبلورت من خلال التعامل مع النصوص في كل الديانات.
والحاصل أن المرء يمكن أن يتعلم الكثير ضمن هذه الخانة كما يمكن أن يتعلم منه الناس. وثمة حاجة ماسة للعمل ضمن هذه المحافل حتى يُرَقّى فيها الحوار نحو أن يصبح تعارفيا؛ يتأسس على البراديغمات التي تشجع على العبور نحو الآخر والإفادة منه، مثل براديغم وحدة البشرية أو الأسرة الآدمية الممتدة، وبرديغم مؤقتية الوجود الإنساني ومؤقتية الكون كله، وبرديغم نسبية الإنسان ونسبية معارفه وبرديغم التكامل وغيرها من البرديغمات المؤسسة. وهذا النموذج المعرفي التعارفي نموذج مستوعِب متجاوِز مقارنة مع “نموذج التسامح” السائد. والذي يعتريه قصور؛ لأن التسامح (Tolérance) يفيد أنني أسجل عليك أشياء أتحفظ عليها ولا أقبلها فأتفضل وأتغاضى عنها من أجل أن أصل إلى خانة التوظيفية أو التبشيرية أو ربما التوليفية.. ومن ثم فإن التسامح يبقى محدودا ليس بإمكانه تجاوز هذا المستوى. أما النموذج التعارفي فهو أكثر قابلية للتعاطي والإثراء الإيجابيين.
وهو نموذج نجد التعبير عنه والتوجيه إليه بصيغ متعددة ومختلفة في جل الديانات، ومن أجلى التعبيرات عنه عندي، ما نجده في القرآن الكريم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات:13). وعند التأمل فإننا نجد في كل الديانات تدريبات على التعارف تختلف في شموليتها واستيعابيتها على التعارف.
والنموذج التعارفي ينطلق من حقيقة أن كل طائفة من بني آدم قد عاشت في سياقات مختلفة حَررت فيها كفاءات معينة وأطلقتها، بحيث إن التحديات التي تفرضها هذه السياقات تضغط أزرارا في الكينونة الإنسانية، فتنشئ أضربا من المعرفة ومن الحكمة عادة ما لا تكون عامة، وبشكل يجعل باقي بني آدم محتاجين للاستمداد منها. إن هذا النموذج يعترف بأن كل طائفة من الآدميين قد بلورت في مجالاتها حكمة خاصة واستثنائية يمكن -من خلال تشغيل نموذج التعارف- أن يتم تقاسمها مع الآخرين وتعديتها إليهم، كما يمكن من خلال هذا التشغيل ذاته أن يؤخذ عنهم ما بلوروه هم أيضا من الحكمة ومن المعارف.
وفي النموذج الإسلامي يوجد هذا بقوة وإشراق كبيرين في عبادة الحج، ففي قوله تعالى لنبيه إبراهيم ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾(الحج:27)، يعني يفدون لكي يتجمعوا حول نقطة معينة هي الكعبة. وهذه الكعبة سميت كذلك لأنها مكعبة، لا أقل ولا أكثر، وحين تصل إلى هذه النقطة تجد أن الصف ليس صفا مستقيما وإنما هو دائري، وهذه الدوائر يصطف وفقها المسلمون وينظرون من مواقعهم فيها إلى الكعبة التي لا تعدو كونها سهما مؤشرا على جلال الله وقدرته، وحضوره وعنايته.
والزاوية التي تراها أنت من الكعبة؛ حجرا أسود كانت أم ركنا يمانيا، أم ركنا شاميا… لا يستطيع غيرك رؤيتها؛ لأنك تنظر من نقطة لو تزحزحتَ عنها بقدر أنملة فسوف تتغير الرؤية والبانوراما كلها، ولذلك فأنت مدعو ضمن هذه الشعيرة / الركن، التي هي الحج، إلى أن تطوف، وأن تنظر إلى الزوايا الأخرى من النقط والمواقع التي يقف عندها الآخرون… وطوافك لن يكون في نقطة رؤية واحدة، بل سوف تجتمع في أشواطك السبعة كثير من النقط التي تكون ضمن المطاف. غير أن هذا يستدعي النباهة؛ إذ لا تعارف دون انتباه لما تراه، وبعد ذلك يتم الصعود إلى عرفة. ولم يُسمَّ ذلكم الموقف عرفة من عبث، وإنما لوجود التعارف فيه. وشعيرة عرفة لا يحل إبانُها إلا وقد تشابهت الأشكال والملامح وتمازجت الروائح؛ إذ لا حق لك بعد يوم التروية في استعمال الطيب، ولا حق لك في الحلق، كما أنك تجتنب لبس أمور الزينة والتميّز وتمتزج مع غيرك من الحجاج الذين جاؤوا من كل فجّ عميق كأنك وُضعتَ معهم كلهم في قِدْرٍ واحدة تَمَّ تحريكها لكي تمتزج فيها التوابل وتكون الطبخة من ثم طبخةً واحدة!
حين ننظر في النصوص التي فيها حديث عن ما بعد مرحلة التعارف بعرفة نجد شيئا اسمه “الإفاضة”، ونجد أن الناس يُفيضون ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ﴾(البقرة:198). والإفاضة توحي بأن ثمة قوةً تُذلل العقبات التي في طريقها: كجمرة العقبة التي ليس رجمها رجما لإبليس، وإنما هو تذليل للعقبات التي تحول دون الناس والتعارفِ فيما بينهم ومن ثم التعاون على البر والتقوى سواء من باطن أم من ظاهر.
وفي هذا رسالة للبشرية جمعاء لتحقيق الامتداد النابض لنفَس التعارف ذهابا إلى الكعبة وإيابا منها، حيث يلتقي الناس من كل فج عميق فيتعارفون، ويتشاطرون أضرب الحكمة المتعالية، ثم يعودون بها لأقوامهم ويأتي آخرون… وهكذا دواليك، في حركة تحاكي نبض الفؤاد.
الواقع البحثي في مجال الأديان المقارنة
ويحق لنا من خلال هذا النموذج المعرفي أن نسائل الواقع البحثي في مجال الأديان المقارنة… فلنذهب مثلا إلى مكتبة موريال، أو مكتبة كمبريدج أو مكتبة جامعة محمد الخامس ولنبحث عن صورة الآخر في الديانات المختلفة، فسوف نجد أنها تندرج جميعها -إلا ما استثني- ضمن الخانات الثلاثة الأولى؛ كما سوف نجد أن البحوث التي تندرج ضمن الخانة الرابعة قليلة، أما الخانة الخامسة فحدث عن النذرة ولا حرج.
مما يعني أن صورة الآخر في الكتابات التي تدرّس في مقررات تاريخ الأديان تكون في أغلبها إما توظيفية، أو تبشيرية، أو تقريرية؛ تقرر الواقع وترصده كما هو. وفي حالات ناذرة جدّا تكون توفيقية؛ ولذلك فإن الباحثين الجادين الذين يريدون بالفعل البحث عن تجليات هذا النموذج المعرفي التعارفي في الدراسات والأبحاث والكتابات المختلفة سيجدون فراغا كبيرا.
كيف يمكن إذن أن نطمح للقيام بهذه التأسيسات ضمن الخانة التعارفية في المقررات التي تدرس للطلبة، وفي التكوينات التي تعطى للقساوسة أو تعطى للأئمة أوللحاخامات، أولأهل الديانات الأخرى؟ كيف يمكن أن نوصل البعد التعارفي إلى هذه التكوينات لكي لا يبقى بُعدا شعاراتيا، ويصبح واقعا حيا معيشا؟
إن هذا يصعب أن يتأتى بغير المقاربة البرهانية المخلصة سعيا إلى استخلاص وتحرير البحث العلمي من الشواهدية (أي طلب الشهادات)، ومن البراغماتية الجامدة وكذا من التوظيفية؛ فالمقاربة الشواهدية للدراسة والبحث قد جنت على البحث العلمي ما جنت، وهذه قضية تحتاج للعلاج من النواحي المنهجية والتوجيهية وكذا التشريعية.
أما القضية الثانية التي تستدعي العلاج فهي النفعية؛ فالمعاهد العلمية تحتاج -من أجل البحث- إلى تمويل، غير أن هذا التمويل غالبا ما يكون مشروطا؛ فالمؤسسات الداعمة تقول للباحث، بطريقة أو بأخرى: إذا أردت أن أعطيك هذا الدعم أو هذه المنحة البحثية فيجب أن يستجيب بحثك لجملة من المواصفات البراغماتية التي أتوخاها “أنا”، ومن ثم فإن الأبحاث والأعمال التي تنتج في هذه الإطارات تدخل ضمن الخانة التوظيفية بامتياز. وهو الأمر الذي يجب تجاوزه بإدخالِ بُعد العمل الاجتماعي في العمل البحثي.
إن كثيرا من الناس لا يتصورون العمل الاجتماعي خارج الأمور المتعلقة بالمجاعات والكوارث وقضايا اجتماعية كالصحة على سبيل المثال، بيد أن العمل الاجتماعي في المجال البحثي محوري أيضا وبالغ الأهمية.
واعتماد المقاربة البرهانية يقوم على ركنين:
الركن الأول: وهو عود على ما ذكرناه في مطلع هذا المقال، ومفاده: وجوب إدراك أن هذا الكوكب الأرضي كوكب محدود، وأن محدوديته تفرض التعايش، وأن هذا التعايش يجب أن يكون تعايشا مستداما، ولكي يكون كذلك فلا بد أن تكون لدينا القدرة على معرفة الآخر وفهمه، وأن نعينه أيضا على معرفتنا وفهمنا من خلال التواصل معه حتى نستطيع التعامل والتعاطي والتعاون الإيجابي على البر والتقوى.. فحينما نستطيع بحثيا أن نبرهن على أن هذا الخيار لا يمكن التخلي عنه، وأنه أمر ضروري وشرط لا محيد عنه من أجل كل تعايش إيجابي وبنّاء لنا مجتمعين فوق كوكبنا، فسوف نكون قد برهنا بالفعل على ضرورة القيام بالبحث والدراسة والحوار ضمن الخانة التعارفية.
أما الركن الثاني: فهو الركن الوظيفي؛ والذي يدرس التاريخَ سوف يجد الشواهد المتعددة على وظيفية المقاربة التعارفية؛ فحينما سادت هذه المقاربة في بغداد كان فيها من الازدهار ما كان، وكذا حين سادت هذه المقاربة التعارفية في قرطبة وفي أصفهان وشيراز وسمرقند ودلهي وغيرها… وجلي أن الانتصار لنجاعة هذه المقاربة لا يحتاج إلى كثيرِ مرافعة، فنحن إن لم نتعايش سوف نفوت فرصا ضخمة للبناء المشترك، وإن لم نحذر فقد يدمر بعضنا بعضا.. في حين أننا إن تعايشنا ازدهرنا جميعا، واستفاد بعضنا من بعض، ونفع بعضنا بعضا…
وإن صحّ لنا -انخراطا في استمرار البحث في هذه القضية المحورية- أن نختم بسؤال، فليكن هو الآتي: كيف السبيل إلى تعميم هذه المقاربة التعارفية في الجوانب البحثية والتكوينية؟ وتجاوزِ العادات والممارسات الستاتيكية أو السلبية التي لا تزال بهذا الصدد تسود في محافلنا الحوارية وفي جامعاتنا.