عزيزي عبد الله.. أريد أن أتحدث معك قليلاً.. أنا جهازك العضلي الذي تتحرك به وتصول أنى شئت. كما تعلم إن الصخور تتميز بالصلابة، وكذلك الأشجار كائنات حية وصلبة في الوقت نفسه، ولكنها غير قادرة على التحرك، مغروسة في الأرض لا تهتز ولا تتحرك، لأنها لا تملك جهازًا يمكّنها من الحركة. أما أنت فيا عبد الله.. فقد خُلقتَ في أحسن تقويم، وتستطيع التحرك كيفما شئت. وإن كانت الحيوانات كلها قادرة على التحركِ -بدرجات مختلفة- بواسطة أنسجتها العضلية، فاعلم أنك لم تخلق لتكون كالحيوانات تسعى وترعى لتلبـي رغباتها وشهواتها فحسب دون أي إدراك ووعي، أو لم تُخلق لتكون كالشجر مغروساً في الأرض عاجزاً عن التحرك والتنقل، إنما جعلك الله خليفة له في الأرض، تسيح فيها وتمشي في مناكبها، خلقك الله لتتعلم وتكشف عن المكنونات والمخبوءات في هذا الوجود، ولتنثر بذور القيم الفاضلة وتقيم الحضارات العريقة. ولكن من أجل أن تؤدي مهمتك هذه بحق، لابد -قبل كل شيء- أن تملك الحرية في تغيير أوضاعك وتبديل أماكنك، أي لابد من أن تملك قدرة للتحرك كيفما شئت. ولهذا جعلني الله لك جهازًا كاملاً يتكّون من ملايين الخلايا ومئات العضلات، ووضعني لخدمتك فقط.
ومن أهم خاصيّاتي، هي امتلاكي الخلايا التي تتحرك باستهلاك السكريات -كمحرك السيارة تماما الذي يعمل بحرق البنـزين- ولديّ ألياف عضلية قادرة على الانقباض والانبساط داخل خلاياها، وهي تمنح هذه الخلايا القدرة على القصر والاستطالة التي منهما تتولد قوة السحب. ونتيجة لهذه القوة أتمكّن من تحريك العظام التي أتصل بها أو من تحريك عضو جسم آخر وأحدثُ بذلك تغييرات ميكانيكية. واعلم عزيزي عبد الله، أن عظام جسدك وسائر أعضائك -عدا قلبك- لا تملك قدرة التحرك من تلقاء نفسها، بل تستجيب لتوجيهات عضلاتي فقط. وقد تعني العضلة؛ العضو والنسيج معا. ولكوني نسيجًا عضليًّا أقوم بالمحافظة على خاصية الانقباض على مستوى الأعضاء والأجهزة، ولكوني خُلقتُ في كل أطراف الجسم، فقد تم تكويني من عدد كبير من الحزم التي تحتوي على الألياف العضلية الطويلة الرفيعة. وحتى تفهمني بشكل أفضل، سأشرح لك بنْية العضلة وتركيبها بطريقة بسيطة.. لنعتبر بكرة الخيط الرفيع هي الخلية العضلية، ثم لنجمع عددا كبيرًا من خيوط هذه البكرة ونصنع منها “فتلة” واحدة رفيعة، ثم لنجمع عددًا من هذه الفتل ونصنع منها خيوطًا نسيجية، ثم لنجعل من هذه الخيوط النسيجية حبلاً غليظًا. والآن يمكنك أن تتصور ذلك الحبل الغليظ كعضلة من عضلات جسدك. إن أليافي العضلية تتكون من خيوط بروتينية -بدلاً من الألياف القطنية في بكرة الخيط الرفيع- وهي خيوط الأكتين الرفيعة وخيوط الميوسين الغليظة، وهما اللذان يمنحان الليفة العضلية قدرة الانقباض. وقد اصطفتْ هذه الخيوط مقابل بعضها البعض كأسنان مشطين، وعند الانقباض تنـزلق خيوط الأكتين تجاه خيوط الميوسين، ويتم بذلك الانقباض العضلي. ومن ثم تظهر عملية الانقباض والانبساط، تمامًا مثلما تتداخل وتتباعد أسنان المشط مع أسنان مشط آخر.
عزيزي عبد الله.. شرحتُ لك خصائص تلك البنية العضلية العظيمة ويسرتُ عليك فهمها، فصوّرتها لك بالخيوط والأحبال.. ولكني أسألك الآن، هل يمكن أن تتشكل تلك البنية العظيمة من تلقاء نفسها؟ وهل يمكن أن تتكون صدفة؟ إن أصغر قطعة من القماش لم تكن لولا ماكينة تنتجها ويد صانع تبدعها. فما بالك إذن، بكل عضلة من عضلات جسدك؛ تلك التي تتألف من ملايين الألياف العضلية وتحيط كل عظمة من عظامك، كما أنها تقيم جسدك وتسويه.. أتراها تلك الألياف العضلية قد نُسجت بهذا التقدير وتموضعت بهذه الحكمة حتى صارت في أحسن تقويم دون صانع يصنعها، أم تراها قد خلقت عبثًا؟
يختلف شكل وحجم عضلاتي التي تتألف من الحزم المتكوّنة من آلاف أليافي العضلية، حسب موضعها وحسب العظام التي تتصل بها والمهام المنوطة بها. فهناك “العضلات الهيكلية الحمراء” التي تقوم بتحريك عظام الساقين والذراعين، وهي عضلات طويلة مدببة الطرفين منتفخة الوسط. وهناك أيضا “عضلات ملساء” وهي التي تربط أعضاء جذعك وعظامه، وتكون ذات سطح أكثر اتساعًا واستدارة.
فأما العضلات الحمراء فتوجد حول الهيكل العظمي وتتميز بقوتها الشديدة أيَّا كان شكلها وحجمها، كما أنها تعمل حسب طوعك وتحت قيادتك. فأنت تستخدم دائمًا عضلاتي “الحمراء المخططة” في مشيك وجريك وقيامك وقعودك. تتألف هذه العضلات من بنية نسيجية “مغزلية”، ولذا تُرى تحت الميكروسكوب عضلات مخططة، وهي تشكل القسم الأكبر من عضلات جسدك.
وأما النوع الآخر فهو “العضلات الملساء” أو “العضلات اللاإرادية”، أي العضلات التي لا تستجيب لأوامرك. إنها تتحرك ببطء، وفترة انقباضها تكون طويلة ودون أي تعب، وإنها تبطن جدران قنواتك الهضمية وشرايينك الدموية ومسالكك البولية. إن هذه العضلات في الحقيقة لا سلطان لها عليك في ذهابك أو إيابك، لأنها لا تعمل تحت قيادة هيكلك العظمي، فلا همَّ لها ولا شاغل غير حركة أعضائك الداخلية. وقلبك أيضا -رغم اختلاف نسيجه العضلي المخطط- من الأعضاء التي تعمل خارج إرادتك. لذا عليك أن تعرف، أن المقصود من الجهاز العضلي هو تلك العضلات المخططة التي تؤدي دورها في حركة الهيكل العظمي.
لقد زوّد الله جسدك بعديد من العظام لتمنحه استقامته واستواءه، وجعل بين العظام مفاصل لتمنحه مزيدًا من الحركة والانسيابية، بيد أن هذه المفاصل تعجز عن الحركة بمفردها. فعلى سبيل المثال؛ مهما بلغ باب أو نافذة من اكتمال الصنعة وحسن التشكيل، فإنه يعجز عن الانفتاح أو الانغلاق دون قوة دافعة أو ساحبة. هذا الأمر ينطبق على المفاصل تماما، إذ ليس بين المفاصل مفصل يتحرك دون قوة خارجية، وعليه فإن جهازك العضلي هو الذي ينتج القوة التي تحرك مفاصلك وتوجهها. فهناك في نظام الحركة حوالي (340) عضلة. ومن هذه العضلات ما تؤدي أكثر من مهمة.. وإذا ما أخذنا هذا الجانب بعين الاعتبار، ندرك أن عضلات الجسم تنجز (510) مهمة مختلفة. كما أن معظم هذه العضلات تحرك العظام والمفاصل، وأما بعضها الآخر فيمكن أن يؤدي وظائف مختلفة بعيدة عن العظام، كعضلات الجبهة والوجه والجفون وعضلات البطن.
ولقد أصبح من المعتاد تسمية العضلة وفق ما تقوم به من مهام داخل الجهاز العضلي، فيطلق مثلا اسم الضامة (Abductor) على العضلة التي تقرب جزءً من أعضاء الجسم إلى الجزء الآخر منه، والباسطة (Extensor) على العضلة التي تسحب جزءً من الهيكل العظمي، والقابضة (Flexor) على العضلة التي تثني جزءً منه، والرافعة (Levator) على العضلة التي ترفع جزءً من الهيكل العظمي، والكابة (Pronator) على العضلة التي تُدير إلى الداخل جزء منه، والدوارة (Rotator) على العضلة التي تلف ذلك الجزء، والاستلقائية (Supinator) على العضلة التي تديره إلى الخارج.
إن أجزائي العضلية تتسم بالقوة والمرونة، وهي ما تجعلك قادرًا على أداء كل حركة يتطلبها جسمك براحة ويسر. كما أن أجزائي العضلية تتميز أيضًا بقدرتها على تقوية ذاتها إذا ما ارتبطت بأداء منظم. وكما هو معلوم فإن هدف كل رياضي في منافسة رياضية يتمثل في تقوية عضلاته وجعلها أكثر تحملاً. وأليافي العضلية تزداد حجما وقوة إذا ما قامت بجهود مكثفة وسريعة على فترات طويلة. وبهذه الكيفية أكتسبُ القوة التي تمكنني من أداء المزيد من الأعمال والقدرة على الانقباض السريع. ولكن عليك ألا تنسى أن العوامل الوراثية أيضا تلعب دورا مهما في هذا الانقباض عدا التدريبات الرياضية والمجهودات الشاقة. ومن هنا فليس ثمة قاعدة تقول بأن كل متدرب سيصبح رياضيًّا بارزًا، فالأمر كله يرجع إلى مدى ملائمة عضلات الرياضي وعظامه جينيًّا، فهي وحدها التي تمكنه من الارتقاء إلى أعلى المستويات من خلال التدريب، ومن دونها لا يحق لنا أن ننتظر من رياضي -لا يمتلك بنية عضلية تتلاءم مع رياضة ما- أن يصبح بطلاً رياضيًّا. ولئن بدت عضلاتي للوهلة الأولى من الخارج عضلات ذات شكل ونمط واحد، إلا أنها تتسم بسمات مختلفة حسب توزيع أليافي الداخلية وكثافتها، حيث تختلف انقباضات وانبساطات أليافي العضلية فيما بينها من حيث السرعة والبطء. فالحركات التي يعتاد كل شخص القيام بها، والرياضات التي يمكنه ممارستها تختلف أيضا حسب توزيع هذه الألياف العضلية. فثمة فرق في حجم وتوزيع الألياف العضلية الخاصة بين العدّاء الرياضي الذي يقطع مسافات قصيرة مثل (100 متر) وبين العدَّاء الذي يقطع مسافات متوسطة (10.000 متر).
إن انقباض أي عضلة يكون في نوعين مختلفين؛ إذا كانت القوة التي تؤثر على عضلتي أكثر من مقاومة نسيجها فإن توتر العضلة يظل ثابتا ويقصر طولها (العضلة). وقد تسمى هذه الحالة بـ”متساوي التوتر” (Isotonic)، أما إذا ما تساوت القوة الممارسة على العضلة مع مقاومتها فإن عضلتي لا تنقبض، بل يزداد توترها، وهذا ما يسمى بـ”متساوي القياس” (Isometric)، أما مقدار القوة الناجمة عن التقلص فمرهون بطول عضلتي ومقدار نبضاتها الكهربية.
ولكي تصدر الحركة التي تسمى الانقباض يتحتم مرور النبضة الكهربية الصادر عن ليفة الأعصاب الحركية إلى المنطقة الواقعة بين غشاء خليتي العضلية وبين غشاء خليتي العصبية. ونتيجة لرد الفعل الكيميائي الذي يحدث مع هذه النبضة الكهربية، يتم خلال فترة قصيرة انزلاق خيوط الأكتين على خيوط الميوسين داخل ليفتي العضلية، وبهذا يقصر طول ليفتي العضلية. وخلال مرحلة رد الفعل يصدر بعض الشيء من الحرارة، كما أن هذه الحرارة الصادرة عن عضلاتي هي التي تحدد درجة الحرارة الطبيعية لجسمك. ولذا فإن عضلاتي عندما ترتجف في الهواء البارد تقوم بإنتاج حرارة أكثر لتحافظ على حرارة جسمك. أليس هذا برهان واضح في أن لله حكمة فيما خلق؟ فعضلاتي كما أنها تمكنك من التحرك، فكذلك تحميك من البرد وتوفر لك الدفء بحركاتها. ولعلك أدركت الآن لماذا يتحرك الإنسان في الهواء البارد ويقي نفسه من التجمد.
إن الحركات الانقباضية التي تنتج عن النبضات الكهربية التي ترد بشكل متوال من ليفة عصبية إلى ليفة عضلية، تسبب بعد فترة الإرهاق لِلّيفة العضلية وتجعلها بحاجة إلى الاستراحة، عندها تبدأ أليافٌ عضليةٌ أخرى لم تنقبض بعدُ بالعمل وتنفذ تلك المهام. أما إذا ظلت النبضات الكهربية تتوالى بشكل مكثف على أليافي العضلية ولم تترك لها فرصة الاستراحة، فعندئذ تصاب بحالة من الانقباض المستمر، وهو ما يطلق عليه “التشنج العضلي”.
من أجل الحصول على حركات منسجمة متناسقة؛ بدءً من المشي إلى الجري، ومن الوثوب إلى القعود.. فإن عضلاتي التي تحمل مستقبلات للتوتر، ترسل كل لحظة وعبر الجهاز العصبـي بيانات عن حالة العضلة وسرعة ودرجة انقباضها، فيتم بذلك مراقبة حركات عضلاتي وتنظيمها عن قرب. ومن ثم فلا تترنح أنت عند السير ولا ترتجف يداك عند تناولك الطعام.
وكما أن كل جهاز من أجهزة الجسم وكل نسيج فيه قد يصاب بأمراض معينة، فإني أيضا أصاب بأمراض خاصة بي. وأكثرها الضعف، واضطراب الهيئة، والألم، والتشنجات العضلية اللاإرادية، والالتهابات العضلية، وضمور العضلات أو تيبسها، والأورام العضلية الحميدة والخبيثة.
عزيزي عبد الله.. لعلك أدركت الآن قدرة الصانع جل جلاله وحكمته في كل عضلة من عضلاتي، الصانع الذي حرّك أعضاء جسمك، وكسا عظامك، وأقام عودك. فمن المستحيل أن تكون ليفة واحدة من أليافي العضلية قد تكونت من تلقاء نفسها. هذا وقد أستغرب كثيرا من الذين يزعمون أن الخلايا العضلية والأجهزة الحركية لدى الكائنات كلها، قد خلقت صدفة أو أنها من نتاج الطبيعة.
عزيزي عبد الله.. لعلك أصبحت أنت أيضا تسخر من تلك القوانين البيولوجية المشوهة المنحرفة التي تنسب المخلوقات إلى الطبيعة.
ــــــ
(*) الترجمة عن التركية: د. طارق عبد الجليل.