يا أهل النور، خذوني معكم، فإني أغالب الشوق والشوق غلاب، ويكويني الحنين إن بدا من جانبكم شهاب قبس، فكأن الظلمة تغشاني إلا أن أسير في ركابكم وأقتبس من نوركم، فلا تتركوني وحيدا، ولا تخلفوني شريدا. خذوني معكم ولو سلكتم بي الشعاب المهلكة والمفاوز الرهيبة، أو صعدتم بي الجبال الوعرة، أو دخلتم بي الغابات الموحشة، زئير السباع فيها يقضقض الأضلاع، ومداد الأفاعي فيها يسبب الأوجاع، خذوني معكم وستجدونني إن شاء الله من الصابرين.
وأُشْهِدُ الله ما تخلفتُ عنكم رغباً ولا رهباً، ولا رغبت بنفسي عن أنفسكم، فلم تزل بي منذ زمان رغبة جامحة في اللحاق بكم، عسى أن يكون غبار خيل الله زادي، وما زال الجهاد يصور في قلبي وردة من السماء، وما زلت أمني النفس وأدعوها لأخذ العدة، خشية أن يقال لي يوما: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً﴾(التوبة:46)، ولات ساعة مندم. وما زلت على تلك الحال أعالج الأشواق، ورجْل في الركاب وأختها متعلقة بالتراب، حتى أدركني ما أدركني، فطرق طارق الأيام فقوس ظهري، وأنضى مطيتي، وأشعل الشيب في مفرقي، ولم يعد لي غير زفرات أرسلها، ودمع أسكبه، لولا أن العين جفت وغادرتها الدموع، وما أدري أذلك من قسوة القلب، أم من الغفلة، أم من كثرة ما ذرفت العين في الأعصر الخوالي؟ وقد كنت وأنا عند الكعبة أقول:
“قال لي: ما تشتكي؟ قلت: أنا *** أشتكي قسوة قلبي يا أُخيّْ
على أن لي قلبا ما تزال به خفقة في جنح الليل، وما يزال معلقا بالثريا، وإن أخطأ الطريق زمناً، وأنفق العمر في انتظار نوال كاذب، وكادت تحيط به نزغات الشيطان فتكسر همته، ولكن الشوق لم يبرح لحظة، والتعلق بطريق النور لم يفتر ثانية واحدة، فجددوا فيّ العزم يا أهل النور تجدوا ما يرضيكم وأجد ما تطمئن به النفس وتقر به العين، فإن شبح الموت يكاد يخترم الأحلام، وينضي المطيّ، ويكسر الأقلام. أفأبرأ مما خطت يميني وأنا الذي جعلت النور هاديا؟ وقد كان لي صاحب ذاق فعرف، فسبقني إلى بلوغ الغاية، واستجمع ما بقي من العزم فانكشف له المحجوب، والتحق بركب الفرسان العائدين فصار منهم، وأنا أراهم من بعيد، وألوّح لهم عسى أن أجد منهم التفاتة، وأصيح: كيف لي أن أدرك الخيل، وقد نمتُ عن السحَــر؟ كيف لي أن أستحم في بحر النور، وقد أغراني الفراش بدفئه؟ ورأيتني يوما وأنا أصارع الأمواج بزورقي الصغير، حتى انكسر المجداف، وانقلب الزورق، فصرت ألتمس خشبة أتعلق بها، لا خوفا من فراق الجسد، بل أملا في اللحاق بالسابقين.
فيا أهل النور، بالله عليكم، ألا تذكرون فتى هام في صباه بالنور فأينعت زهرته، وتعلق بمحراب المساكين فسالت دمعته، وغنى للمستضعفين غير عابئ بزمجرة الرياح، وقصف الرعود؟ وها هو وكأن لسان حاله يقول:
أيذهب يوم واحد إن أسأته *** بصالح أعمالي وحسن بلائيا
وأعوذ بالله من أن أقول ذلك مَنًّا فأكون كمن يبطل صدقاته بالمنّ والأذى، ولكني أقول ذلك تحريكا للأمارة بالسوء، عسى أن تنهض فتصل ما انقطع، وتلحق بأهل الصفة إن لم تستطع أن تكون من الذين نفروا ساعة العسرة.
آنس موسى نارا فقال لأهله ﴿امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾. ثم ذهب إلى مناجاة ربه وقال: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾. وسمع إبراهيم النداء فخلّف أهله بواد غير ذي زرع ولم يعقب. فما بالك تسمع النداء فلا تجيب، وتدعى إلى مأدبة الله فلا تلبي؟ أكل هذا إشفاقاً على ذرية لن يضيعها خالقها؟ أم ركونا إلى عيش رهيف ولبس شفيف وظل وريف؟ فما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع. أسمع هاتفا من الأعماق يهتف: آه من قلة الزاد وبعد الشقة ووحشة الطريق، فتأخذني رعدة.إذا كان هذا قول من ذاق وعرف، فما قولي أنا المشدود إلى الحطام؟ ما الذي يقعد بك يا هذا؟ وهذا رب العزة يقول: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً﴾، فهل ترى منزلة بين المنزلتين؟ هيهات هيهات! كل رائح فمعتقها أو موبقها، فأيهما أنت؟ هذا أوان الاختيار!
أحباب قلبي، بالله عليكم، مدوا أيديكم لهذا الغريق! خذوني معكم إلى التلال الزمردية.