لقد طالعت بإمعان وتأن مجلة “حراء” العلمية الثقافية، وأعجبت بعنوانها وموضوعاتها التي كتبت فيها، ونوعية الأقلام التي شاركت فيها، فقادني ذلك إلى مرجعين تاريخيين عظيمين.
أما المرجع الأول فهو اسم المجلة “حراء”… فقد كان اختيار هذا الاسم ينبع من ذلك المكان المقدس الذي كان أول مكان لامست فيه السماءُ الأرضَ، وتلقى فيه محمد صلى الله عليه وسلم الدرس الأول من الرسالة… تذكرت تلك الكلمة العظيمة التي رددها الروح الأمين على قلب وسمع محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿اقْرَأْ﴾… تذكرت ذلك الحادث العظيم الذي انبثقت منه رسالةٌ من عنان السماء إلى مشارق الأرض ومغاربها… تذكرت تلك الضمة الروحية التربوية التي ضم بها جبريل الروح الأمين محمدا صلى الله عليه وسلم… تذكرت تلك الساعة الرهيبة التي رجع فيها إلى زوجه الكريمة خديجة بنت خويلد وهو يقول: “زملوني زملوني”… وتذكرت تلك الكلمات اللطيفة الودية المهدئة التي قالت له فيها: “واللهِ لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لَتصل الرحم وتحمل الكلّ وتعين على نوائب الخير”… وتذكرت ذلك الشيخ المسن الخبير بالأديان ورقة بن نوفل وهو يستمع لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يقص عليه ما رأى وما سمع والشيخ يقول: “هذا الناموس الذي أُنزل على موسى ليتني فيها جذعا إذ يخرجك قومك”.
تذكرت بعد ذلك أصداء هذه الرسالة التي وصلت إلى هرقل وكسرى والمقوقس والنجاشي وغيرهم من ملوك الدنيا، ولم تقف عند تلك الحدود، بل وصلت إلى الجن وهم يستمعون، ووصلت إلى العالم الأعلى وهم يستقبلون محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج وهم يرحبون به، ويؤمهم في بيت المقدس ويتابع إسراءه… تذكرت تلك الوقفات العظيمة التي واجه بها قريشاً وهم يعرضون عليه مختلف الحلول للتخلي عن الرسالة وهو يقول: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما كنت لأفعل حتى يظهره الله أو أهلك دونه”.
تذكرت ذلك الموقف الرهيب الذي دبرت فيه المؤامرة لكنها تفشل، ويصل صلى الله عليه وسلم رسولا مبلغاً وقائداً مظفراً… تذكرت ذلك الموقف العظيم الذي فتح فيه مكة وقال لقريش وهم لا يدرون ماذا سيفعل بهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”… تذكرت كل تلك الوقفات وأنا أنظر إلى كلمة “حراء” تحمل كل هذه المعاني…
وهنا وصلت إلى الذكرى الثانية، وتذكرت تلك الدولة العظيمة التي لا تغرب عنها الشمس، والتي نشرت الإسلام في مختلف أقطار الدنيا؛ إنها الدولة العثمانية التي كانت عاصمتها هي مصدر هذه المجلة… وهنا تذكرت عظمة هذه الدولة وما تركته من حضارة وعمران في آسيا وأوربا، والتي هزت عظمتُها مختلف العروش فنشرت عزة الإسلام وأعادت إليه مكانته العظيمة.
واليوم ها هي تلك الأمة العظيمة التي انطلقت منها الجيوش والأساطيل الإسلامية، ها هي اليوم تصدر منها مجلة “حراء” لتعلن للدنيا أنها إذا كانت فتحت البلاد بالقوة فإنها اليوم تفتحها بالفكر والحكمة والموعظة الحسنة عن طريق هذه المجلة، وعن طريق ما تقدمه أمة الخير من دعم وعون للهيئات الإسلامية الأخرى، لتواجه بذلك الحملات المدمرة التي انتشرت في أقطار الإسلام، وأصبحت تغزوه بوسائل الصحة والتغذية وغيرها… فقد أدركت الهيئات الإسلامية في تركيا أن التحديات ذات ألوان وذات وسائل مختلفة، ومن هنا فقد بدأت تواجه هذا الغزو الحضاري المدعم بالتكنولوجيا والمال.
وهنا فإنني أذكر بأننا نحن المسلمين لن ننتصر ما لم نستعمل سلاحين اثنين؛ أما السلاح الأول فهو الإيمان الذي بدأ يضعف في نفوس أصحابه، وأما السلاح الثاني فهو الأخذ بالأسباب العلمية والتكنولوجية… وإذا كان السلاح الأول يوجد عندنا ولا يوجد عند الآخر، فإن درجة قوته قد انحطت… فلابد أن نضع برامج تربوية وثقافية وتوجيهية واقتصادية لتقوية الإيمان في نفوس المؤمنين، كما أنه علينا أن نأخذ بأسباب العلم والتكنولوجيا، وأن نوجه شبابنا إلى هذا الاتجاه المزدوج بين الإيمان والعلم، وبذلك وحده نعيد عزتنا ومجدنا… وهذه المهمة تقتضي منا أن نراجع مناهجنا التربوية والثقافية والإعلامية حتى تكون على مستوى الحدث، كما أنه علينا أن نوحد الصف الإسلامي ونبتعد عن كل ما يفرقه، وأن نضع الخطوط العريضة المتفق عليها بيننا بعيداً عن النظرة الضيقة أو الإقصائية… فلماذا نفترق وربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد؟ ولماذا نضعف عن الحق ويقوى الخصم على الباطل؟
وهذا في رأيي يقتضي أن نصلح الداخل ونوحد الصف ونقبل من الخير أقله ومن الشر أخفه، وأن نقدم خطة تأخذ بما يعرف بفقه المرحلة. فحياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت صورة ورسماً وخطاً بيانياً لما ستعيشه أمته من بعده؛ عاش في دار الأرقم بن الأرقم وفي بطحاء مكة يوم نزلت: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ فانهالت جاهلية قريش عليه، فوجه أصحابه إلى ملك لا يظلم الناس عنده “النجاشي”، وعاش يوم وصل المدينة ليؤسس دولة الإسلام الأولى وكان من بينها المشركون واليهود والمنافقون، وعاش يومَ الحديبية حيث جرى الحوار بينه مع سهيل بن عمرو وهو يقول: لا نعرف باسم الله الرحمن الرحيم بل اكتب: باسمك اللهم، ولا تكتب محمد رسول الله بل اكتب: محمد بن عبد الله”، وتأتي شروط الوثيقة وهي تحمل ذلك البند الصعب: “أن من جاء إلى المسلمين من قريش يُرَدّ إلى قريش”، ولكن بُعد النظر المدعوم بالغيب والوحي كان ينظر من وراء هذه الوثيقة إلى يوم الفتح الأكبر.
كما عاش صلى الله عليه وسلم يوم الفتح الأكبر وهو يقرأ القرآن على ناقته ويعلن تحرير قريش من تبعات الماضي، كما عاش صلى الله عليه وسلم يوم عرفة بعرفات وهو يعلن ذلك الإعلان الكبير الذي يرسم حقاً من حقوق الإنسان منذ أربعة عشرة قرنا: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد”.
فهذه النماذج من حياته صلى الله عليه وسلم ترسم بشكل واضح ما ستعيشه أمته من بعده… والسؤال المطروح الذي يمكن أن نستلهم منه إستراتجية العمل وفقه المرحلة: أين نحن اليوم؟ فهل نحن في بطحاء مكة بعد بيان الصفا أو في مهجر الحبشة أو في يوم الحديبية أو في يوم الفتح؟ أم إننا في دار الأرقم بن الأرقم؟ ذلك سؤال آخر يستحق الدراسة والتأمل والتفكير.
كما أن هناك سؤالا آخر حول إحصاء المسلمين، فإذا كنا نعلن أن المسلمين قد وصل عددهم إلى ما يزيد على المليار والنصف مليار، وأن المسلمين في بعض الأقطار بنسبة كذا… فما هي نسبة الإسلام في المسلم، نسبته في الامتثال، نسبته في الانتهاء؟
وفي الأخير أرجو لمجلة “حراء” أن تظل نبراساً مضيئاً كما كان “حراء” مصدر النور المحمدي ومنطق الرسالة العظمى على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.