في البدء كان الكنز مخفياً، ثم أرشدك أحدهم إلى الكنز. ترى ما هو شعورك تجاه من دلّك على هذا الكنز؟! هل تحبه؟ هل تشكره؟ وماذا لو كان هذا الكنز هو الله؟! ماذا لو كان دليلك إلى الله هو الله؟!
في البدء كان الكنز مخفياً، ثم أرشدك أحدهم إلى الكنز. ترى ما هو شعورك تجاه من دلّك على هذا الكنز؟! هل تحبه؟ هل تشكره؟ وماذا لو كان هذا الكنز هو الله؟! ماذا لو كان دليلك إلى الله هو الله؟!
يقول الله عز وجل في كتابه العظيم: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾(الأعراف:172).
لقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يخلق معجزاته؛ من العدم إلى الدخان إلى الماء إلى بلايين النجوم إلى قطعة الصلصال إلى الخلية الحية، إلى مخلوقٍ يكتشف الكون ويبحث في السماء ويسعى لعطاء خالقه.
أي قدرة من الله، أي حب للإنسان، أي عظمة، أي عطاء، أي إحسان، أي حنان!..
ما أكرمه من إلهٍ وأرحمه… غمرنا بالودّ والدلال قبل أن تهدهدنا أمواج مشيئته إلى ضفاف الوجود. ولم يتوقف كرمه عند هذا الحد؛ إذ لا شواطئ لبحار جوده وعطائه. فهو الذي دبّر أمرنا في ظلمات الأحشاء، وتولانا بالرعاية واللطف بعد الإخراج، بل إنه يدثرنا بعنايته وفضله في الصغر والكبر، قبل الوجود وأثناء الوجود وبعد الوجود.
انظر إلى ما يتلألأ في وجه الكائنات من الإحسان الإلهي، وما نُقش على جبينها من الرحمة، تجدها كعنقودٍ نضيد بحبّات النعم، وقلادة منظومة بلآلئ المنن: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(النحل:18).
صدقتَ يا عظيم… يا من عطاؤه لا ينفك عنا لحظة واحدة… فواعجباً لكبير حبك يا أيها الملك!
وهل الحب إلا عطاء، وأنت وحدك مالك العطاء، أما نحن عبيدك فلا نملك من معنى الحب سوى اسمك؛ إذ لو أعطيناك وقتنا، فالوقت ملكٌ لك أصلاً، وإن قدّمنا كل مالنا في سبيلك، فالمال وديعة منك لنا، وإن مزقنا أجسادنا شظايا جهاداً في سبيلك، فأجسادنا ملك لك، بل إن كل طاعاتنا وقرباتنا هدايا هابطة منك إلينا، ثم إنها عائدة إلينا بفضلك وكرمك، فلا حول ولا قوة لنا إلا بك، ولا توفيق إلا منك.
ربّاه… أوَبعد أن تراكمت مننك علينا تقول في كتابك الحق: ﴿فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾(البقرة:158).
أتشكرنا على ما أنعمت به علينا؟! أتأمرنا بما فيه صلاحنا ثم تكافئنا على ذلك؟!
لقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يخلق معجزاته؛ من العدم إلى الدخان إلى الماء إلى بلايين النجوم إلى قطعة الصلصال إلى الخلية الحية، إلى مخلوقٍ يكتشف الكون ويبحث في السماء ويسعى لعطاء خالقه.
سبحانك… ما قدرناك حق قدرك، وما شكرناك حق شكرك، وما عبدناك حق عبادتك: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾(الأنعام:91). أسكرتْنا نعمك التي أغدقتَها علينا، وغرِقْنا بين سحب عطاياك الجزيلة.
وحُجبت كثرة من الناس بالصور عن المصوّر، فبات المرء عبد “النِّعم” لا عبد “المُنعِم”. منهم من وقع في رقّ النفس فكان عبد نفسه، ومنهم من أسرته الدنيا فكان عبد الدنيا، ومنهم من أفقده الهوى عقله فبات عبد الهوى… استأنسوا بالنعم الوافدة من السماء، فشُغِلوا بها عن صاحبها وواهبها ومانحها ومعطيها، تعلّقوا بها بدل تجنيدها وتذليلها لمرضاتك، ركنوا إليها ركون المخلّد ناسين: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾(النجم:42).
إلهي! إن ذاك الذي بين أضلعي يخفق بشدة… فبالرغم من أنه يحمل بحراً عميقاً من الحب والشوق لك وحدك دون سواك، إلا أن رماله ترتعش حياءً منك وخشية. أتراه ممن شُغل عنك بنعمك؟.. وماذا عساه أن يجيبك غداً إن سألته: ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾(الانفطار:6-8). أيكون جزاء ربك على تكريمه إياك وتسخير الكون كله لأمنك وعيشك وراحتك أن تتناسى عظيم حقه عليك؟!
﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾(سبأ:13).آهٍ يا خالقي من هذه الآية آآه. لا أملك إلا الانخراط في بكاء مرير كلمّا قرأتها. أشعر بالاختناق، وقلبي يكاد يمزق أحشائي من شدة ما يلاقيه من الحياء.
وا حيائي منك يا مولاي… أنقابل عطاءك بالجحود، وحبك بالصدود! وكيف تستوي هذه المعادلة المحيرة للعقول: ﴿فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ وهو الغني المتعال! ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ وهم الفقراء المحتاجون! أكاد أقع مغشيًّا عليّ لعظم هذا الأمر وهوْل وقعه عليّ، أولست من علمنا في كتابك الكريم: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ﴾(الرحمن:60).
فأي نكران منا يا إلهي أي نكران! ولمن؟ للرحمن! أيا قيّوم السماوات والأرض، ويا مالك الكون كله، إن شئت سلبتني هذه النعم كلها، وتركتني في أحلك ظروف الشدة والبلاء.
وإن شئت أعنتني على شكرك، ووفقتني لنيل هذا الشرف العظيم. فيا ذا المنّ والجود والعطاء والإحسان، أقسمتُ عليك بكرمك، إلا جعلتني من أكثر عبادك لك شكراً، ومن أشدّهم لك حباً، ومن أشبه الناس بحبيبك محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عبدك الشكور القائل: “أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً” (رواه البخاري).
فيا سيدي أُشهدك أني اتخذتُ هذه العبارة شعاراً لي، وأسألك بكرمك أن توفقني للعمل بها كما وفقت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فأكون من أفضل عبادك الشاكرين.