قال رسول اللّٰه صلى الله عليه وسلم: مثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثَل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى” (رواه مسلم). إن الرابطة القلبية الإيمانية بين المسلمين، هي من أهم خصائص العمران الأخوي، وبدون هذه الرابطة القلبية يبقى الحديث عن العمران الأخوي حديثًا غير ذي معنى، وكلمة تلوكها الألسن الغافلة.
الرابطة القلبية المقصودة، تلك المشار إليها في قوله تعالى في حق الأنصار رضي الله عنهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(الحشر:9).
ولو قال: “تبوؤُا الدار” فقط، لكانوا كباقي المجتمعات التي تحكمها روابط مصلحية دنيوية محضة سرعان ما تتبخر وتذهب أدراج الرياح، لكن قال: ﴿تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ﴾، فهو تبوء ثنائي: تبوأوا الدار، وتبوأوا الإيمان. هكذا كان الأنصار رضي الله عنهم؛ وقوا شح أنفسهم وخرجوا من دهاليز نفوسهم المجبولة على الشح، إلى فضاء عبودية اللّٰه تعالى ومحبته، فنصروا النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانهم المهاجرين رضي الله عنهم، وآووهم وأنفقوا عليهم وأحبوهم… هذه هي الأخوة الصادقة الحقة التي أثنى عليها اللّٰه عز وجل، ودعانا إليها لبلوغ المرام.
التوازن الفريد بين الثنائيات
لقد جمع هذا العمران الأخوي بين الدنيا والآخرة، والثبات والتطور، والأرض والسماء، والفردية والجماعة، والعدل والإحسان، والوحي والوجود، وعالم الغيب وعالم الشهادة، والقدر والاختيار، والروح والمادة، والتربية والجهاد، والإيمان والعقل، وبين الظاهر والباطن، والدعوة والدولة، والوحدة والتنوع: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللّٰهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات:13)، فهي جماعات وشعوب، لكن يجمعها ويوحدها الإسلام. هذا إضافة إلى الشمولية التي تميز بها هذا العمران، على عكس الحضارة الغربية والحضارات السابقة.
فالعمران الأخوي، عمران شمولي وواقعي وإنساني وعالمي، يحمل رسالة الإسلام لينشرها في العالمين، لا يفرّق بين أسود وأبيض، ولا بين عجمي وعربي، ولا بين السيد والعبد، ولا بين المرأة والرجل… الكل سواسية، وصدره مفتوح لكل من أراد الانضواء تحت لواء الإسلام أيًّا كان موقعه في الزمن والمكان. ومن خصائص العمران الأخوي، كونه إيجابيًا يبني ولا يهدم، يصلح ولا يفسد، يسعى لتحقيق الخلافة الكاملة في الأرض، وتطهير الأرض من كل ما يصد عن اللّٰه سبحانه وتعالى. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه وسلم: “إنْ قامت الساعة وبيَد أحدكم فسيلةٌ فإنْ استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فلْيفعل” (رواه أحمد).
الأصالة والتجديد
العمران الأخوي يجمع بين الأصالة والتجديد، قادر على الاجتهاد على نور الإسلام، قادر على حماية ذاته من التفكك والانحلال، قادر على وضع كل القيم والخبرات لدى الحضارات الأخرى في محك الإسلام، للاستفادة من سليمها الموافق لمبادئ الإسلام، والرمي بالباقي في مخازن الأفكار الضالة. يقول الدكتور عماد الدين خليل: “إنه منذ اللحظات الأولى، أخذ الإسلام على عاتقه مهمة تكوين جماعة مؤمنة “متحضرة”، تعرف كيف تحقق التقابل الفعال بين أصالة الذات العقائدية وبين الانفتاح على معطيات الأمم والشعوب. (…) وفي فترة قصيرة تمكّن الإسلام من أن يحوّل العرب إلى أمة “متحضرة”، خرجت إلى أطراف الأرض تحمل علمها الجديد ورؤيتها المتوحدة، لكي ترسم للعالمين مصيرًا جديدًا”.
إنه عمران أخوي أصيل، قادر على مواكبة المستجدات والاستجابة للتحديات، متوازن وشامل وجامع وواقعي وبنّاء، يسعى لإخراج الناس من ظلام الأوثان إلى نور الإيمان، ومن عبادة الخلْق إلى عبادة الخالق، ومن ظلم الأديان إلى عدل الإسلام، ولو لم يكن للإسلام إلا هذه المزية لكفاه فخرًا وشرفًا. تلك إذن هي شرائط إحلال العمران الأخوي وبدايته. وما دمنا قد تحدثنا عن الطريق إلى العمران، فإنَّا نتم كلامنا في الحديث عن دعائمه وأعمدته.
دعائم العمران الأخوي
1- العقيدة الصحيحة: عقيدة المؤمن هي وطنه، وهي قومه، وهي أهله، وهي كل شيء، وعليها يجتمع البشر. إنها أهم دعامة للعمران الأخوي؛ العقيدة السليمة المستمدة من وحي السماء. وبهذا يتجاوز كافة الحضارات الغارقة في أوحال الماديات، والتي لا ترى إلا ما تحت قدميها. إن هذا العمران يعبر عن ذلك اللقاء بين السماء والأرض، بين الدنيا والآخرة، بين الدين والسياسة… وعلى ضوء ذلك يخطط لعمله وفق ما تحدده العقيدة في دائرتها لا خارجها.
وإن أهم ما تميز به هذا العمران، أنه قام بكل ما قام به من عمارة الأرض، وهو يستظل بظل العقيدة الصحيحة، بل ينطلق من منطلقها ويحقق مقتضياتها.
فمنذ لحظات الفجر الأولى، كانت العقيدة بالنسبة للإنسان المسلم والجماعة المسلمة، بمثابة الدافع والهدف، فهي تحركهم من الداخل بعطائها الدائم ومطالبها المستمرة، وهي تناديهم من الخارج ليتحركوا إلى الأهداف الكبيرة، التي جاء بها هذا الدين لكي يجعل العالم يتحقق بها فيكون عالمًا جديرًا بالإنسان الذي كرمه اللّٰه سبحانه وتعالى.
فالأساس الأول لهذا العمران هو التوحيد الذي جاء به الإسلام ليعيد إليه صفاءه الأول، وليأخذ بيد الناس إلى ربهم، وليخرجهم من ظلمات الشركيات وكهوف العقائد المنحرفة الضالة، إلى نور التوحيد والعقيدة السليمة، ليعبد الناس ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم ولا يجعلوا معه أندادًا، يقول اللّٰه سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ * اللّٰهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾(الإخلاص:1-4). إنها أروع صورة للعقيدة الإسلامية الصحيحة التي بها اهتدى الناس إلى سبيل الرشاد، وبها تبوأوا المكانة الرفيعة في العالم. إنها الطاقة الخالدة لانطلاق العمران.
فإنه ما من خطوة في تاريخ البشرية حررت العقل وكرّمته، ووضعته في موقعه الصحيح كهذه الخطوة؛ تحويل التوجه الإنساني من التعدد إلى التوحيد، ومن عبادة العباد إلى عبادة اللّٰه وحده، ومن عشق الأحجار والأصنام والتماثيل والأوثان إلى محبة الحق الذي لا تلمسه الأيدي ولا تراه العيون.
إن العقيدة روح العمران، وما أصاب الأمة الإسلامية اليوم من تخلف وصَغَار، ومن نكبة قاصمة لظهرها، وتتابُع الخطوب عليها، يرجع كل ذلك إلى غيبة تلك الروح من جسد الأمة، فتضعضع ذلك الكيان، وأصبحت الأمة خائرة جامدة متوعكة مريضة. إن الإرادة القوية التي تهدف إلى البناء، هي التي خارت وضعفت بسبب الداء العضال الذي أصابها “داء الأمم” الذي أكل أحشاء الأمة ونخر كيانها.
لقد كان مؤرخنا الكبير ابن خلدون -رحمه اللّٰه- حكيمًا لما جعل الشؤون السياسية، والاقتصادية، والعلم في دولة مسلمة تبعًا للشأن الديني وجعل العقيدة الحقيقة الأولى لهذا الدين الحنيف. ففي ضوئها درس ما حلّ بالدولة من مصائب وفساد، وركود العمران، وانتقاص الصنائع واختلال طرائق العلم، وتلاشي ملكات العلوم وغير ذلك… فوجد أن كل هذه الأدواء والأمراض، راجعة إلى اختلال العقيدة دعامةِ العمران البشري والدولة القائمة.
السبب الرئيس الذي جعل الأمة تصل إلى حضيض التخلف والتأخر عن الركب، هو “داء الأمم”، فعندما فرغت أفئدة أبنائها من المحبة للّٰه ولرسوله والمؤمنين، أصبحت تلك القلوب تصفر فيها رياح الشحناء والحقد والبغضاء. ولن تقوم لنا قائمة حتى نرجع إلى المنهاج النبوي، لنغير ما بأنفسنا حتى يغير اللّٰه ما بنا، يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللّٰهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد:11).
فبمحبة اللّٰه ورسوله شفيت الأمة في بداية أمرها، وبه تشفى في وسط أمرها وآخره. فمهما التمس الناس الهدى في غير الإسلام، ومهما تفلسفوا عن القوميات ومعانيها… كل ذلك يتبخر ويذهب أدراج الرياح ما دامت الأمة تركن إلى الأهواء القاتلة، والنّعرات القبلية، والطموحات الشخصية، وما دام داء الأمم يضرب بخيله ورجله في أرضها. معين العلاجات كلها يكمن في الأخوة الصادقة والمحبة والمواطنة القلبية بين المؤمنين، وفي عودة الأمة إلى أصلها مرة أخرى، إلى أس العلاج.
2- محبة الله ورسوله: المحبة عماد العمران، لولاها لما استقام البناء على وجه الأرض لحظات. إنها السبيل الذي يخرجنا من ذلك المستنقع الآسن، والدرك الهابط، والظلام البهيم… إنها السبيل الذي يعيدنا إلى ذلك العمران الأخوي الأول؛ محبة اللّٰه ورسوله ومحبة المومنين. ما بال الناس يرتكسون في الحمأة الوبيئة والعلاج بين أيديهم؟ إن المحبة هي العلاج المنسي في عالمنا الإسلامي المعاصر، يتسارع المسلمون إلى فجاج، وإلى جهات، وإلى أساليب ووسائل شتى، بحثًا عن العلاج والعلاج بين أيديهم وهم عنه تائهون.
تلك المحبة هي ترياق العمران، هي المفتاح الذي يقود الأمة إلى عمران أخوي. هي المفتاح الذي يدفع الإنسان إلى اقتحام العقبات الكؤودة من أجل البناء؛ بناء صرح العمران على أس القرآن وسنة النبي إمام أهل الإحسان صلى الله عليه وسلم. إن البناء الذي ينسى هذا الأساس المتين، لا يمكن أن يحمي صاحبه من الأخطار الوافدة إليه بشكل من الأشكال، بل سرعان ما ينهار على أم رأسه. إذا انفك قلب الإنسان عن تاج المحبة العظيم، ما الذي يبقى له؟ لا شك أن قلبه يصبح مأوى ووكرًا لأفاعي الريب وسوء الظن، وذئاب الهوى والطمع.
إذن، فهذا العمران لا ينهض إلا على دعامة رئيسة واحدة، ألا وهي دعامة الحب. وإذا سلم أساسها وقامت صافية عن الشوائب والزغل، سَهُل البناء وقام صرح العمران. وكلما كانت المحبة شديدة كلما كان البناء شامخًا ومتينًا.
لو أن القلوب صفت وغُرس فيها مغرس المحبة، لجمع اللّٰه شملها ووحّد كلمتها، ولفجّر القوة من حيث لا تحتسب من كيانها. فما انتصر الإسلام بالفكر ولا الجدال، لكنه انتصر بالمحبة والطاعة للّٰه سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وبتلك الروحانية الإيمانية العالية. فالإسلام الفكري وحده لا يحقق شيئًا، لا ينبت كلأ ولا يعطي ثمارًا، لأنه شجرة فوق الأرض لا جذور لها، سرعان ما تعصف بها الرياح العاتية وتهوي بها في مكان سحيق.
3- إقامة العدل: المقصود بالعدل، الاستقامة في حقوق اللّٰه سبحانه وتعالى وفي حقوق عباده. يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾(المائدة:8). والقسط المذكور في الآية هو “العدل”، والمقصود بـ”العدل” هو عدل الحكم وعدل القسمة. فالأول هو الفصل فيما يقع بين الأفراد من تشاجر وخصومات، والثاني هو المساواة بين أفراد المجتمع، وذلك بقطع دابر المترفين، وتقليم أظافر المسرفين والمبذّرين، وتسوية الفساد الطبقي، والتكافل الاجتماعي من كفالة اليتيم والمسكين والعاجزين، بالإضافة إلى توفير الشغل للقادرين.
أما إذا كان الظلم والسِّفاء محل العدل والإنصاف، فلا شك أن مآل ذلك العمران إلى خراب، ويرحم اللّٰه العلامة ابن خلدون القائل في مقدمته: “الظلم مؤذن بخراب العمران”.
وعلاوة على ذلك، فإن العدل دعامة لهذا العمران الأخوي وهو أم المطالب التي يقصد إليها الشرع. هو صلب الدين، وبه بعث اللّٰه رسله وأنبياءه مبشرين ومنذرين.
وهنا لابد من تنمية وتوفير حاجيات الاقتصاد، للتصدي لضرورات الإنتاج والتصنيع، لأن المجتمع المسلم محتاج إلى حد أدنى من الرفاهية المادية، ليضمن بالمعاش الكريم الراحة الخلقية والروحية لرجاله ونسائه.
4- التكافل الاجتماعي: لقد فرض اللّٰه تعالى حدًا أدنى من التكافل وهو الزكاة، وحض عليه، بل وشدد في فرضيته وجعلها الركن الثالث للإسلام، وما ذكرت الصلاة إلا وذكرت معها الزكاة: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾(البقرة:43)، وذلك راجع لأهمية هذا الركن في التأليف الاجتماعي. وجاءت نصوص شرعية كثيرة تبشر مَن قام بهذه الفريضة، بطهارة النفس وفوزه في الآخرة، قال اللّٰه تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾(الأعلى:14).
والزكاة شرط المواطنة القلبية المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾(التوبة:11)، وأما وظيفتها الاجتماعية فهي مربوطة ربطا محكمًا بالوجه العبادي الإيماني.
فالمال مال اللّٰه سبحانه وتعالى، والإنسان مستخلف فيه وممتحن به. تُرى ماذا سيفعل به؟ وفي ماذا ينفقه؟ وبأي نية ينفقه؟ أرشد اللّٰه سبحانه وتعالى الإنسان إلى البذل من ماله في سبيله حتى لا يكون هذا المال سببا لخسرانه فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾(المنافقون:9).
فالزكاة فريضة من اللّٰه تعالى على كل مال -فصيح وصامت- حال عليه الحول وبلغ نصابه. هدفها إغناء المستحق لسنته، لقول فاروق الأمة، سيدِنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا أعطيتم فاغنوا” (رواه البيهقي)، ويعني: من الصدقة. إلى جانب ذلك إغناء الفقراء والمساكين، وكل الأصناف الثمانية المذكورة في القرآن. وهنا قضية يجدر الحديث عنها، وهي أن علماءنا الأفاضل اجتهدوا في هذا العصر ووسّعوا وعاء الزكاة، حتى يشمل الثروات المعدنية والبحرية والفلاحية والصناعية والتجارية والمنتوجات الحيوانية، والمستغلات من عمارات ومصانع، والنفط، والعسل… وحتى لا يبقى وعاؤها كما تركه من تقدم من سلفنا الصالح -رحمة اللّٰه عليهم- الذين لم يكونوا يعرفون مثل هذه الأنواع من الثروات، قاصرين على الإنتاج الزراعي البدائي المنحصر في الأنعام والقمح والشعير.
أضف إلى ذلك أن تشريع الإنفاق كان قبل تشريع الزكاة، بل جعل اللّٰه تعالى الإنفاق من سمات المتقين الواردة في أوائل سورة البقرة: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾(البقرة:2-3). وبالإضافة إلى ما سبق ذكره من زكاة وصدقة وحقوق أخرى المتعلقة بالأموال، فإن الشرع حث كذلك على البر والبذل.
فوجب إذن، أن ينبعث التطوع الإيماني من إرادة كل مسلم ومسلمة، محبة للّٰه سبحانه وتعالى واحتسابًا الأجر عليه. فكفالة المسلم وصيانة حرمته حيًّا وحفظ عهده ميتًا، أن يكون مكفولًا لا خاملاً، أن يسعى ليكون منتجًا، ليكون المعطي يحرث في دنياه لآخرته. وعلى هذه الأركان قام العمران الأخوي الأول، فكان نموذجًا خالدًا في التاريخ. وما زالت أنواره تشع على صفحاته، كما كان شجرة راسخة ذات جذع عظيم قوي تغالب الرياح المزمجرة.