من الأمور الواضحة أن الإنسان -إلا من رحمه ربه- أصبح يعيش جفافًا ملحوظًا وقسوة بارزة. قد تدمع العين على صورة دامية أو يخفق القلب على حال سائب. لكن، هل هذا إلا إحساس عابر من هول اللحظة، لينجرف الجميع في دوامة من الغثائية والعبثية، التي تجعل الفرد يجري دون أي إحساس بمجموعة من القيم التي تعطي لحياته معنى ودلالة، وتمهد له الطريق نحو السعادة؟
ولعل افتقاد الإنسان -بصفة عامة- في هذا الوجود لقيمة من أرقى القيم الإنسانية، وتمييعها وإلباسها لباسًا لا يمت بصلة إلى معانيها ودلالاتها، جعلت الحياة برمتها تفقد معنى وجودها ومغزى خلقها. هذه القيمة هي الحب.
السمو بقيمة الحب
فالحب من القيم السامية التي جعل الله سبحانه وتعالى فطرة الإنسان تهفو إليها، وجعلها سبحانه أساس العلاقة التي تربط بينه وبين عبده من جهة، وبين الأفراد والجماعات من جهة أخرى، وجعله جسرًا نحو الشعور بالرضا عن النفس كلما استطاع أن يحب وأن يُحَب، كما جعل من ينعم به أكثر إيجابية في حياته وعلاقاته وأعماله. لكن -للأسف- نظرة إلى مجتمعاتنا، تكشف أن ينابيع المحبة تكاد تجف من القلوب، وامتلأت هذه الينابيع بأعشاب الغفلة والنفور والقسوة والحقد والكراهية، وأصبح عجز الإنسان عن محبة ذاته نفسه ظاهرة فضلاً عن محبة غيره، بل فقدت هذه القيمة لبّ مفهومها وطبيعة وجودها، وانحرفت إلى مسارب الشهوة والمصلحة. ولم تعد تعبر عن مفهومها الكوني، من حيث هي تجربة وجدانية تساعد الإنسان على نسج علاقات رائعة ينعم في ظلها بالأمان والاستقرار والتساكن. ورحم الله الأستاذ “سعيد النورسي” حين قال في “الكلمات” في رسائل النور: “المحبة سبب وجود هذه الكائنات والرابطة لأجزائها، وإنها نور الأكوان وحياتها”.
ولعل قيمة الحب من أبرز القيم التي فقدت معانيها في حياة الإنسان بصفة عامة، وتشوهت مفاهيمها في العقل والوجدان، وارتبطت بكل ما يؤدي إلى الإسفاف والابتذال والزيف والآثام، وكان من نتيجة ذلك أن فقدت الحياة مغزى وجودها كله، يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56). ولن يتحقق مفهوم العبادة، إلا برابط الحب بين العبد ومولاه، وتسليمه ناصيته له طواعية واختيارًا وحبًّا. ولا يكفي أداء الشعائر المفروضة للتعبير عن هذا الحب، وإنما يجب أن يكون متغلغلاً في الفؤاد والوجدان، ليفيض في شرايين الممارسة والسلوك، ويرقى بالعلاقات في مدارج السمو اللائق بالإنسانية، أيْ إن رابط الحب بين الخالق والمخلوق، يجب أن يكون جسرًا للعبور نحو الآخرين ومحبتهم، مهما اختلفنا معهم. لكن -للأسف- فإن الفصل المهوّل بين إعلان الحب لله سبحانه وتعالى ، من خلال تنفيذ شعائره الدينية التي يقوم بها المسلم كل يوم عبر الصلاة مثلاً، وبين تفعيل مقاصد تلك الشعائر في حياته وسلوكه وعلاقاته، تجعل من السهل أن يطفو إلى السطح الجفاف والغلظة والتباغض والتحاسد، والغرق في التنافر بدل التآلف، والقسوة بدل الرحمة، والبخل بدل البذل والإنفاق المعنوي قبل المادي. وبالتالي لا يستطيع المسلم التبشير من خلال نفسه بالقيم الحقيقية والفاعلة، سواء في مجتمعه أو في أي مجتمع آخر، كما يفقد مصداقيته وعوامل تأثيره.
الحب والتآلف
وإذا عدنا إلى القيمة الأولى، التي قام عليها المجتمع الإسلامي الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجد أنه قام على المحبة الخالصة المؤلفة بين القلوب، والمسعفة على التآخي والعطاء. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّى أصحابه على قيمة الحب، وحثهم على إشاعته وتحقيقه عبر وسائل وممارسات مختلفة، لأهميته في تحقيق السعادة للفرد والأسرة والمجتمع والأمة والإنسانية، وفي توحيد القلوب وتآلفها، أو تعارفها وتعايشها وتفاهمها، ولدورها في إعطاء الأمة قوتها وصلابتها، فلا تهون ولا تتفتت ولا تعبث بها الفتن والدسائس، وتقوم كل العلاقات والممارسات على أساس من الحب: حب الله، حب نبيه، حب الخير، حب الناس… وكانت شخصيته صلى الله عليه وسلم التي تفيض حبًّا ورحمة ومثلا أعلى، يهدي المجتمع الوليد إلى تنزيل القيم الإنسانية التي جاء بها، أو رسّخها في واقعه وسلوكه، كما كانت الأحاديث من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم” (رواه مسلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة” (رواه البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (رواه البخاري)، وعن أنس رضي الله عنه أنّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم: “ما أعددتَ لها؟” قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحبّ الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم:”أنت مع من أحببتَ”، قال أنس رضي الله عنه: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أنت مع من أحببت”. مثل هذه الأحاديث كانت تسري ندية في حياته، وحياة الصحابة من حوله، ليشتد البناء ويقوى وترتفع هامته. فأين نحن من هذا الحب في مجتمعاتنا؟!
نعم، نتساءل بمرارة ونحن نرى مظاهر افتقاد الحب في علاقاتنا الإنسانية: أين نحن من الحب الذي فاض عن قدوتنا ومثلنا محمد صلى الله عليه وسلم، وسرى نديًّا في شرايين الأمة؟ لِمَ لَمْ نعد نستشعره ونتذوقه ونغترف منه لتليين قلوبنا وترطيب العلاقات بيننا، كي تتخللّٰها قيم التسامح والتجاوز والتناصح المؤدية إلى التآلف والتعايش؟ ألم يجعل الله سبحانه وتعالى الحب في الله، سببًا للنجاة من النار ودخول الجنة؟ ففي الحديث الصحيح المتفق عليه في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله، منهم: “رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه”. ألم يقل صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: “إن من عباد الله عبادًا ليسوا بأنبياء، يغبطهم الأنبياء والشهداء”، قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: “هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس”، ثم قرأ: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(يونس:6).
الحب سكينة
ألم يأن للذين آمنوا، أن يعلموا أن إيمانهم يفقد عناصر حيوية مسعفة على الإحياء والتوازن، حين يهمشون دلالات الحب من حياتهم؟ إننا إذا حاولنا إحصاء النصوص الداعية إلى تفعيل معاني الحب في حياة الإنسان، نجدها لا تعد ولا تحصى، بل يمكن أن نجزم أنها تكاد تشمل كل مناحي الحياة، ولعل هذا الحديث النبوي الشريف يضع معايير شاملة لبناء الإنسان الحضاري، الذي يجعل من الحب قضيته الكبرى التي يجب أن يعيش من أجلها في كل مراحل حياته، ويقف في سبيلها مواقف تصقل مشاعره، وتذيقه الطعم الحقيقي للإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم: “ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار” (رواه البخاري) .
إن الحب نعمة من الله سبحانه وتعالى لا يجب التفريط فيها، أو تمييعها، أو تحريفها عن مسارها المفضي إلى الله سبحانه وتعالى، نعمة تتوالد منها نعم كثيرة أبرزها نعم الوحدة والتآلف، ابتداء من أصغر وحدة في المجتمع (الأسرة)، مرورًا بكل الوحدات الأخرى إلى أن تشمل الإنسانية جمعاء، لتصبح مدار حياة الإنسان لا تخرج عن دائرته الربانية، التي تذيقه طعمًا إيمانيًّا، ينبع عنه سلوك عملي وأخلاقي يتميز به المسلم عن غيره، ويربطه بأصل الانبعاث الإسلامي في قوله :صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
ودون أن ندخل في تجليات الحب المفترضة في حياتنا، لأن ذلك يحتاج إلى وقفات وتفاصيل أخرى، لكن قد يكفي أن نتساءل: هل يبني المسلم حياته مع غيره، على أساس التعاون والتسامح والنصح والصفح، ويجعل ذلك من ضرورات بناء علاقاته الاجتماعية، وتحقيق التوازن في صلاته الإنسانية؟ هل يستشعر المؤمن روح الإيمان الحي من المشاعر الرقيقة التي يكنها المسلم لإخوانه حتى إنه ليحيا معهم وبهم؟ هل فكّر الواحد منا، أن يسامح أخاه مهما كانت إساءته له، وأن يمد له يد المحبة المرة تلو الأخرى حتى يلين قلبه؟ هل يحاول أن يمحو من ذهنه كل سلبيات من يعايشهم، ويضع نصب عينيه إيجابياتهم كي يستطيع إقامة علاقة المحبة بينه وبينهم؟ هل يتذكر الزوج أحيانًا زوجته بشكر وثناء على مجهوداتها في إدارة البيت، أو يقدم لها هدية رمزية وكلمة دافئة تشعرها بحبه وتقديره؟ وهل تتذكر الزوجة في ظل ضغوط الحياة، أن تمنح زوجها ابتسامة عذبة ولمسة حانية تخفف عنهما عنف الضغوط مهما كانت؟ وهل تفهم أن للزوج حقوقًا يجب أن تؤديها قبل أن تطالبه بحقوقها لكي يتجدد تدفق نهر الحب بينهما، ويعيشا حياة يملؤها الدفء والحنان؟ هل يحاولان نسيان تصيد الأخطاء لبعضهما البعض وتذوق الإنجازات الإيجابية في حياتهما مهما كانت بسيطة؟
إن هذه الأسئلة وغيرها، قد تكون ميزانًا نقيس به حرارة قلوبنا، وحافزًا على سلوك سبيل التحولات الإيمانية الكبرى، التي لا يقوى عليها إلا أصحاب الأرواح العظيمة المؤرقة، التي يقلقها ثقل المسؤولية التي شرفها الله تعالى بتقليدها. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة تعلمنا كيف نعيش الحياة بحب، ولا نفرط في كل دقيقة أن نحيا بالحب مهما كانت المعاناة، ومهما كانت ثقل المسؤوليات، لأن في إسعاف أنفسنا على إشاعة علاقات الحب الإنسانية الراقية، دليلاً على أننا نحيا، وأننا في طريقنا نحو السعادة والإيجابية.