عندما تمكن بميكروسكوبه المركب، ملاحظة وجود بعض التقسيمات المنتظمة في رقائق الفلين، أطلق على تلك الصناديق الصغيرة اسم “خلايا” (Cells). لم يدرك “روبرت هوك” العالِم الإنجليزي آنذاك (1665)، أنه وضع يديه على كنـز مليء بالأسرار والإعجاز. ومع اكتشاف أن الخلية هي وحدة بناء الكائن الحي كانت بداية لعلم الخلية، لكن بحلول القرن العشرين مهّد المجهر الألكتروني الطريق لدراسة المكونات الدقيقة للخلية، ولعل أهم ما يحفظ حياة الكائن الحي هي وفرة الطاقة التي تُعينه على أداء مهامه الحيوية ونشاطاته اليومية. فكيف تُدير الخلية المجهرية شؤون الطاقة داخلها؟!
إن للخلية الحية إستراتيجية غاية في الدقة والترشيد، فهي لا تلجأ إلى حرق جميع وقودها دفعة واحدة -مثل ما يحدث في حرق أي مادة عضوية هيدروكربونية- حيث ستتبدد الطاقة وتتحول المادة العضوية إلى مركبات ثانوية لا قيمة لها. فماذا تفعل الخلية وهي لا تحتاج إلى كل هذه الطاقة الناتجة عن حرق الوقود داخلها؟ إنها تلجأ إلى سلسلة من تفاعلات الأكسدة التي تضمن لها حرق الوقود بداخلها على دفعات، ثم تمتص هذه الطاقة الناتجة وتستخدمها في بناء جزيئات جديدة تختزن فيها الطاقة كرصيد تلجأ إليه عند الحاجة لإتمام بعض العمليات الحيوية. والمعجز أن للخلية قدرة على تحويل تلك الطاقة، إلى طاقة حركية أو كهربية تُستغل في إرسال النبضات العصبية أو طاقة ضوئية، مثلما يحدث في بعض الأسماك في قيعان البحار والمحيطات.
مخالفة قوانين الديناميكا الحرارية
الكائن الحي في حالة نمو دائم، لذا فعمليات البناء والتركيب في الخلية مستمرة، ويعني ذلك ازدياد الطاقة الناتجة وعدم تناقصها، مخالفًا بذلك قوانين “الديناميكا الحرارية” (Thermodynamics) التي تقضي بضرورة تضاؤل الطاقة تدريجيًّا مع مرور الوقت كما في حالة احتراق المواد العضوية، وبذلك تتميز الأنظمة الحية عما يحيط بها من مخلوقات.
محطـة القوى الرئيسية في الخلية
لا تأخذك الدهشة عندما تعلم أن جسيمًا خلويًّا لم يُكتشف إلا في نهاية القرن الثامن عشر، على يد العالمين “فليمنج” (Flemming) و”بيندا” (Benda) عام 1897، وحُدد على أنه مركز الطاقة في الخلية عام 1940، ضئيل للغاية عرضه (0.5-1 ميكرون) وطوله (10-12 ميكرون)، عظيم الشأن يسمى “الميتوكوندريا” (Mitochondria) هو الآلة الجزيئية المسؤولة عن توليد الطاقة واختزانها في الكائن الحي. وكلما زاد نشاط الخلايا وتخصصها زاد محتواها من الميتوكوندريا والعكس.. ففي خلايا الكبد تمثل الميتوكوندريا (20%) من وزن الخلية.
وعند تكبيرها (240,000) مرة تحت ميكروسكوب خاص، وُجد أنها تتركب من جدار رقيق جدًّا يحيط بفراغ داخلي يحتوي على سائل هلامي شبه شفاف -يحتوي على أغلب الأنزيمات اللازمة لإتمام دورة حمض الستريك التي تنطلق فيها الطاقة- ويتركب الجدار من غشائين رقيقين يتكونان من جزيئات البروتين يفصل بينهما فراغ رقيق -يتكون من طبقة دهنية- وينثني الغشاء الداخلي ليكوّن بروزًا على طول الجدار ليزيد مساحة السطح التي تتم عليه آلاف التفاعلات، ويبلغ سُمك الغشاء الواحد من 60 إلى 70 إنجستروم (1 إنجستروم = جزء من مائة مليون جزء من السنتيمتر).. وهي تتحكم في حجمها، فكلما زاد تركيز جزيئات (ATP) بداخلها انكمش حجمها، وإذا ما قل تسترخي ليتسع حجمها مما يمكنها من القيام بعمليات تحويل طاقة جديدة وإنتاج خازن الطاقة (ATP).. وهي ليست عشوائية في عملها، بل يرتبط ذلك باحتياجات الخلية من الطاقة ومدى قدرة هذه الخلية على سحب خازنات الطاقة (ATP) في العمليات الحيوية.
الوقود
إنه الغذاء الممتص بعد هضمه، بجميع عناصره العضوية التي تمتلك مقادير مختلفة من الطاقة الكامنة بين الروابط الكيميائية لذراتها، تنطلق هذه المقادير من الطاقة عندما يتأكسد المركب العضوي أكسدة تامة أو عند انحلال تلك الروابط. فعند احتراق “جرام جزيئ” -الوزن الجزيئي للجلوكوز مقدرًا بالجرامات ويقدر بـ(180جم)- من الجلوكوز في الهواء، تنطلق الطاقة (690,000 سعر حراري) دفعة واحدة وتتحول ما به من ذرات كربون إلى ثاني أكسيد الكربون، وما به من هيدروجين وأكسجين إلى ماء (مواد إخراجية فقيرة في الطاقة). وهذا القدر الكبير من الطاقة، ينطلق كلما تم احراق (180 جم) جلوكوزًا احتراقًا تامًّا، سواء كان الاحتراق أو الأكسدة على خطوة واحدة أو عدة خطوات.. فكيف تتعامل الخلية مع هذا القدر الهائل من السعرات الحرارية؟! لذا فهي تفضل إتمام عملية الأكسدة على عدة خطوات تحت ظروف غاية الدقة والإحكام، لكي تمكنها من الاستفادة من غالبية الطاقة المنطلقة في كل خطوة، وهذا الاستخدام للطاقة من قبَل الخلية على هيئة حرارة أمر مستحيل، لأنه -ببساطة- لم تُسجّل للآن تفاوت في درجات الحرارة بين خلية وأخرى.
وهنا يفرض سؤال نفسه: كيف للخلية المجهرية حفظ واستخدام الطاقة بداخلها؟!
بعد العديد من التجارب، ثبت أن الخلية تقتنص الطاقة في صورة طاقة كيمائية تساعد على بذل الشغل دون أدنى تغير في درجات الحرارة، وهذا يتطلب منها التحكم الشديد في عمليات تأكسد الغذاء، ويعاونها في ذلك عشرات الأنزيمات التي يقوم كل منها بتفاعل محدد دون غيره من تفاعلات الأكسدة، ينتج عن هذه التفاعلات سلسلة من التفاعلات الكيمائية تنتهي بأكسدة تامة للغذاء المهضوم، وينطلق في كل خطوة قدر معين من الطاقة تُختزن على هيئة روابط كيمائية في بعض التراكيب الخاصه المسماة بـ”خازنات الطاقة” (ATP) مصحوبًا بكميات من ثاني أكسيد الكربون والماء.
تشكل الخلية في أكسدة الجلوكوز تفاعلات شديدة التعقيد دام الكشف عنها عشرات السنين، نمر عليها دون أن نلج في التفاصيل، حيث يتأكسد الجلوكوز عبر دورتين متداخلتين هما؛ “دورة حمض البيروفيك” و”دورة كريبس”، وفي كل خطوة من سلاسل التفاعلات الطويلة بهاتين الدورتين، ينطلق قدرٌ من الطاقة تُستغل في تكوين جزيئات عالية الطاقة
(ATP)، حيث تتحد أيونات الفوسفات مع إحدى القواعد العضوية المحتوية على نيتروجين، والتي ترتبط بدورها بجزء سكر لتعطي جزء (ATP) الذي يحتوي على روابط عالية الطاقة بين مجموعات الفوسفات، ويمكنها إنفاق هذه الطاقة عند الطلب للقيام بنشاط عضلي ما، فتفقد مجموعة فوسفات وتتحول إلى مركب ثنائي الفوسفات (ADP) الذي يمكنه الارتباط بمجموعة فوسفات أخرى مكونة جزء (ATP) من جديد.
إن عملية تحول هذه الطاقة في الخلية الحية، تتم بكفاءة عالية تتفوق كثيرًا على كفاءة مثل هذه التحولات في معظم الآلات المعروفة.. وقد يدعو ذلك للاندهاش، وسرعان ما تزول تلك الدهشة عندما نعلم أن أكسدة جزء من الجلوكوز، يعطي عند أكسدته أكسدة كاملة إلى ثاني أكسيد الكربون وماء قدرًا من الطاقة يكفي لتحويل 38 جزيئًا (ADP) إلى 38 جزيئًا (ATP)، وذلك عن طرق اتحادهم مع 38 مجموعة فوسفات.
وإذا علمنا أن تحويل جزء (ADP) إلى جزء (ATP) يحتاج إلى (1200 سعر حراري)، وعليه فتحويل الـ 38 جزءًا (ADP) يحتاج إلى (38×1200 = 456,000 سعر).
وبما أن الأكسدة الكاملة لجزء الجلوكوز تعطي (690,000) سعرًا، فإن هذا يعني أن تكوين 38 جزءًا من (ATP) بأكسدة جزء واحد من الجلوكوز، يتسبب في استرجاع نحو (66% من الطاقة الكلية الناتجة)، وهذا معناه أن الخلية عند أكسدتها لجزء جلوكوز، فإنها تُتمم ذلك بعناية فائقة؛ فلا تُضيع أي جزء من الطاقة الناتجة وعندما تخزن (66%) منها، فإنها بذلك تفوق الآلات الحديثة. فمثلاً الآلالت المتحركة بالبخار، لا تستطيع أن تحول أكثر من (38%) من الطاقة إلى عمل مفيد، وهذا يؤكد الكفاءة العالية التي تدير بها الخلية الحية عملياتها المختلفة. وهنا تتجلى عظمة الخالق عز وجل في تميز الأنظمة الحية عن الجوامد.
ويُعد الدهن من أهم مصادر الطاقة لدى الخلية الحية، وله تركيب عام يتمثل في ارتباط الجلسرين بثلاث وحدات من الحمض الدهني قد تكون مختلفة أو من نفس النوع. والحمض الدهني هو الذي تستخدمه الخلية في إنتاج الطاقة، ويتركب الحمض الدهني من مجموعة “كربوكسيل” (COOH) وسلسلة هيدروكربونية.
ولقد اكتشف العلماء أسلوب الخلية في أكسدة الحمض الدهني للحصول على الطاقة بعد جهد مضني، ووجدوا أن تلك العملية تتم في خطوات متناسقة متناغمة؛ يتم في كل خطوة استقطاع ذرتين من الكربون، بشرط أن تكون إحداهما ذرة مجموعة الكربوكسيل والمجاورة لها، وبذلك تقل ذرات الكربون ذرتين وتتحول ذرة الكربون الثالثة إلى مجموعة كربوكسيل ثم يتم استقطاعها من المجاورة لها، وهكذا تقل في كل خطوة ذرتان من الكربون حتى يتأكسد الحمض الدهني تمامًا، متحولاً إلى طاقة وثاني أكسيد الكربون وماء. فلو افترضنا أن التفاعل بدأ في حمض دهني ثماني ذرات يتحول بعد الخطوة الأولى لحمض دهني ست ذرات ثم إلى حمض دهنى أربع ذرات وهكذا.
وتتم عملية أكسدة الأحماض الدهنية بالخلية، بمساعدة الميتوكوندريا وما بها من أنزيمات متخصصة، بالإضافة إلى عوامل مساعدة تسمى “CO – Enzyme” المرافق الأنزيمي.
والعجيب أن عملية أكسدة الحمض الدهني تأخذ مسارًا فريدًا، فتفاعلات الأكسدة تبدأ من اللحظة التي يرتبط فيها الحمض الدهني بمساعد الأنزيم، وتبلغ درجة الارتباط حدًّا هائلاً فلا يحدث انفكاك لمساعد الأنزيم حتى تنتهي عملية الأكسدة تمامًا، وعندئذ ينفصل مساعد الأنزيم على صورته الحرة.
والخلية لديها حسن تدبير فائق لمواردها وترشيد عجيب في استهلاكها.. فبالإضافة إلى ما سبق في هذا السياق، فإنها تستهلك خازنات الطاقة (ATP) في إنتاج مساعد الأنزيم، ولذا فهي تُحسن استخدامه.. فبمجرد ارتباط مساعد الأنزيم بالحمض الدهني، لا يمكن فك هذا الارتباط إلا بعد انتهاء عملية الأكسدة تمامًا، وهنا يتجلى الاقتصاد الفائق والترشيد الهائل التي تمارسه الكائنات الحية في إدارة الطاقة.
ولكن ما الفائدة التي تجنيها الخلية من أكسدة الأحماض الدهنية إذا كانت تنفق مقابلها أجزاء من خازنات الطاقة (ATP).. وهنا يَبرُز مثال آخر في حسن إدارة الخلية للطاقة؛ فعندما تنفق الخلية جزءًا واحدًا من (ATP) في بداية عملية أكسدة الأحماض الدهنية، فإنها تجني في نهاية المشوار طاقة تكفي لتخليق (100 جزء) (ATP)!
ومن الإعجاز أن عملية إنتاج الطاقة والاحتفاظ بها في الخلية ليست مركزية، بل هي إلى حد بعيد محلية.. بمعنى أن كل خلية من خلايا الكائن الحي لها محطات القوى الخاصة بها، حيث إنه يلزم توفير الطاقة في نفس الموقع الذي يتطلب استخدامها فقط؟! وبالتالي لا يُفقد أي جزء من تلك الطاقة أثناء انتقالها.. وقد يُذهل العقل البشري عندما يعلم أن الخلية العادية تحتاج إلى قدر من الطاقة يحمله مليوني من جزيئات (ATP) في الثانية الواحدة، لكي تؤمن التفاعلات التي تدور بها وتقوم بأنشطتها الحيوية، وكلما كانت خلايا من نوع خاص -مثل أجنحة الطائر- زاد الطلب على أعداد محطات القوى وما تنتجه من طاقة.
فمن علَّم تلك العضية متناهية الدقة ما يعجز عن تنفيذه علماء البشرية ولو اجتمعوا له؟ ومن وضع فيها كل هذه التقنيات التي لم يستوعبها أفذاذ العلماء إلا بعد عشرات السنين من الجهد والعمل الدؤوب، ولا يزالون في بدايات الطريق؟