تقوم الفيزياء الحديثة على ركيزتين أساسيتين هما:
1- النظرية النسبية العامة لـ”أنشتين”؛(1) وهي تمنحنا الإطار النظري لفهم العالَم في أبعاده الكبرى: الكواكب، النجوم، المجرَّات… إلخ.
2- ميكانيكا الكمّ؛(2) وهي تمنحنا الإطار النظري لفهم العالَم في أصغر أبعاده: الجزيئات، الكواركات… إلخ.
كان الاعتقاد أن كلا النظريتين صحيحتان، وهذا ما منح الفيزياء راحة لمدة قصيرة، ثم ما لبث العلم أن وصل إلى مشكلة معقَّدة غير مريحة؛ وهي أن إحدى النظريتين تنفي الأخرى، فهُما متعارضتان، بحيث لابد أن تكون إحداهما فقط على صواب، والأخرى بالضرورة تكون على خطأ. لكن لماذا حدث هذا التناقض الحاد؟
ذلك أنه في معظم الحالات يقوم الفيزيائيون، إما بدراسة الأشياء الكبيرة فقط، أو بدراسة الأشياء الصغيرة فقط، ولا يجمعون بينهما في آن واحد، بحكم التخصص الدقيق، وضعف الوسائل، والاهتمام البشري المحدود… إلخ.
الآن لنستبدل المجال والنظريتين، ولنتحول إلى الفكر والحضارة الإسلامية، لنجد أن مجمل تراثنا الحضاري موزَّع على جانبين:
إما الجانب العلمي النظري؛ وهو غالبًا ما يكون من اختصاص العلماء والطلبة ومن يدور في فلكهم.
وإما الجانب العملي التطبيقي؛ وهو ميدان السياسيين والتجار والعسكريين ومن يحوم في حقلهم.
والتعارض بين الجانبين حتى وإن لم يكن مطلقًا في تراثنا الإسلامي المعاصر منه بالخصوص، إلا أنه في كثير من الأحيان كان مهيمنًا، فهو معيارُ التخلف والضعف في أغلب الأحيان، وهذا حال أمتنا الإسلامية اليوم، إلا ما شذ. ذلك أن ثمة هوَّة وشقَّة بين العلم والعمل، بين الفكر والحركة. وهذا غير ما كانت عليه في العهد النبوي الزاهر، وفي العهود المشابهة له المستقاة منه.
السؤال المترتب والبدهي هو: لماذا هذا التعارض؟
الجواب بناءً على ما مضى في التوطئة، هو أن العلم وأهله -عادة- لا علاقة لهم بالواقع، وأن الواقع وأهله -عادة- لا علاقة لهم بالعلم، من هنا ولد الانفصام.
ولكن إلى هنا، يبقى الجواب مجرد وصفٍ والوصف لا يدفع إلى العمل، فهو إجراءٌ مختزَل عاجز؛ ومِن ثم لزم تحديد سبب أو أسباب هذا الانفصام المحير فكريًّا وواقعيًّا.
ولقد حاول العديد من العلماء أن يؤلفوا -إجابة على هذا السؤال الهام- في الفعالية، وفي مشكلات اللفظية، وفي العجز عن الفعل، وفي النزعة الخطابية… وما إلى ذلك من المحاولات المشكورة والتي نبّهت إلى بعض الأسباب القريبة والبعيدة، الظاهرة والخفية.
ونموذج الرشد، يضع هذه المعضلة في اللب وفي رأس قائمة الاهتمامات؛ ولذا كانت الخاصية الأولى لهذا النموذج هي “حركية الفكر والفعل”، أو ما يطلق عليه “كيث ديفلين” عبارة “تحويل المعلومة إلى معرفة، والمعرفة إلى سلوك”.
فنموذج الرشد إذن، يتخطى عقبة “إما وإما”، أي “إما الفكر وإما الفعل”، “إما العلم وإما الواقع”، ويؤسس لعلاقة تقوم على أساس “كذا وكذا”، أي “العلم لأجل العمل”، و”العمل أساسه العلم”، و”كل علم لا يفسَّر إلى فعل حضاري يسهم في رقي الأمة وازدهارها، هو مجرد ضياع للطاقة”، و”كل واقع ديني أو اجتماعي أو سياسي أو تربوي أو اقتصادي… أو غير ذلك ليس له جذور ذاتية أساسية في علم ذاتي أصيل، هو مجرد تشويه لروح الأمة ومسخ لكينونتها”.
ولملاحظٍ أن يلاحظ أن العلم له حدود، وأن النموذج قد يكون قاصرًا عن الوفاء لهذه الثنائية تمامًا مثلما كانت الفيزياء بشقّيها عاجزة عن الوفاء للصورة الكلية للكون، فالجواب بالطبع أننا لا ندَّعي الشمولية في الكم، وأن التركيز هو على الكيف ولو في أبسط وأصغر فكرة أو أبسط وأصغر فعل، المهم فيهما أن يتَّسما بالحركية وبالتبادل، أي أن يكون بينهما جسر واصل وخيط موصل.
ولنمثل بفعل يومي يمارسه الكثير من الناس؛ وهو شراء جريدة في الصباح، والاطلاع على أهم العناوين، ومطالعة أبرز الفقرات، والتركيز على أكثر المواضيع إثارة… فكثيرًا ما سأل الشباب: هل هذا فعل حضاري يدل على أن صاحبه يقرأ ويطالع ويهتم بأمر البلد، أم هو فعل اعتيادي لا يتميز بسمة الحضارة والفعل الإيجابي؟
هنا يكون الجواب بناء على نموذج الرشد وبناء على جدلية الفكر والفعل، أن من يشتري الجريدة بغرض الربط بين ما فيها من معلومات بما يصنع موقفه هو وبما يحركه وجهة الفعالية والفعل، يعتبر راشدًا في تفاعله مع الجريدة… أما من يشتريها ليملأ عقله بالأخبار والمعلومات في كل المجالات بلا حدود، ثم بعد ذلك يتخذها مادة لحديثه، ويكررها على أصدقائه ومعاشريه، ثم ينتهي اليوم ويأتي يوم جديد، ويشتري جريدة جديدة، وهي تحمل أخبارًا جديدة، فيدور صاحبنا عليها مثلما يدور “حمار الطاحونة” على الرحا… وهكذا بلا ملل ولا نهاية ولا جدوى… هذا بالطبع مخالف للرشد، وهو تصرف مدعاة للوهن، بل وسبب في العجز غالبًا.
ولو أن كل قارئ لأي جريدة، حاول أن يتحرك إيجابًا في نقطة واحدة، على صغرها، في يومه، ثم يتحرك في الغد نحو فعل إيجابي ثانٍ، وثالثٍ… لجمعنا نهاية كل يوم الملايينَ من القطرات التي تسقي بساتين البلاد وابلاً لا طلاًّ، وتحوِّل اليابسة جنَّات، وتعد الوطن والأمة بغد مشرق منير.
وليس لنا أن نتوقف في الوصف ونقول: “إن الجرائد أساسًا لا تعرض الأخبار بهذه الرؤية الكونية الشمولية، وإنما تعرضها بغرض التنفيس وبقصد الإثارة والتهريج”، ليس لنا أن نتوقف هنا، لأن الفعل الإيجابي المترتب عن هذا الاستدراك، هو أن نتحرك نحو إنشاء جريدة تخالف هذا المسار، وتصنع إعلامًا مختلفًا بغاية مختلفة ومنهج مختلف هو في الأخير منهج الرشد والرشاد، وهو سبيل الرجل المؤمن من آل فرعون، الذي لم يستسلم للواقع ولم يبك مثل الثكالى حال الناس، بل راح يصدح بالقول ويضع المخططات ويدعو الناس إلى السير وفقها… ولذا مدحه رب الجلال بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾(غافر:38).
ولقد ضرب “البراديم كولن” أروع مثال بتأسيسه للعديد من المجلات ثم الجرائد ثم القنوات التلفزيونية فوكالات الأنباء… بناء على رؤية واضحة، ومشروع ناضج متكامل قد لا نجد له في العالم العربي اليوم الأثرَ الواسع لأسباب معقَّدة ومتداخلة، غير أن أثره العميق يسري في جسم الأمة القطبِ سريان الماء الرقراق في جذور “شجرة التوت” الشامخة ذات الفروع الممتدة، والثمار الحلوة، والعراقة الأكيدة، والنفع الدائم.
ولنهمس في أذن كل مسلم ونقول: لنبدأ بالفعل أو بالفكر… المهم أن نبدأ ونسدد ونقارب ونبادل الأدوار في “حركة حلزونية” لا متناهية… فمن بدأ لم يتوقف، ومن تهيب لم يبدأ، والله هو الهادي لسواء الصراط وهو المجازي على حسن الفعال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) تشتمل النظرية النسبية على عدة أفكار أهمها باختصار بحسب ذاكرتي:
• مفهوم الزمان والمكان وقد اشتق منه لفظ “الزمكان”؛ ومنه نتج مصطلح “انحناء الزمكان”، وهو عند وجود الكتلة أو الطاقة يصبح الزمكان مشوهًا بانحناءٍ بدلاً من أن يكون مستقيمًا. وقد أثبت أن الضوء لا يسير بخطوط مستقيمة، بل ينحني بمقدار معين.
• فسَرت النسبية العامة الجاذبية على أنها نتاج انحناء الزمكان بسبب الكتلة أو الطاقة، لأنها تقوم بصنع انحناءٍ للزمكان، يتولد مجال جاذبية حولها، وقد خالف بذلك مقولات “نيوتن” بأن الكتلة هي ما يسبب الجاذبية.
• عندما يحدث اضطراب في الشحنة، ينتج عنه موجات كهرومغناطيسية سميت بـ”أمواج الجاذبية”.
• لا يوجد فرق بين المادة والطاقة، فالكتلة تتحول لطاقة إذا سارت بسرعة الضوء وذلك بحسب القانون E=mc2، أي إن الطاقة تساوي الكتلة في مربع سرعة الضوء، ولأن المادة مكونة من ذرات، والضوء مكون من ذرات فلا يوجد فرق بينهما.
• الكون مكون من أربعة أبعاد “الطول، العرض، الارتفاع، والزمن”، أما الآن وبعد ظهور نظرية الأوتار الفائقة، فالكون مكون من أحد عشر بعدًا.
• كلما زادت سرعة الجسم يحدث تباطؤ في زمنه، حتى إنه إذا وصل لسرعة الضوء يصبح الزمن قليلاً جدًّا “وهذا مستحيل”. أما إذا تجاوز سرعة الضوء فإن الزمن سيتوقف “وهذا مستحيل أيضًا”.
(2) ميكانيكا الكمّ، فزياء الكمّ، أو النظرية الكمومية (Quantum Theory): نظرية فيزيائية أساسية جاءت كتعميم وتصحيح لنظريات “نيوتن” الكلاسيكية في الميكانيكا، وخاصة على المستوى الذري ودون الذري. تسميتها بـ”ميكانيكا الكمّ” يعود إلى أهمية الكمّ (Quantum Plural: Quanta)
في بنائها (وهو مصطلح فيزيائي يستخدم لوصف أصغر كمية يمكن تقسيم الأشياء إليها، ويستخدم في الإشارة إلى كميات الطاقة المحددة التي تنبعث بشكل متقطع وليس بشكل مستمر).