إن عام 2009م، سنة فلكية تعيد لنا ذكرى 400 سنة منذ أن وجه “جاليليو” منظاره إلى السماء، والتي أحدثت ثورة علمية في الفلك لا نزال نعيش آثارها حتى يومنا هذا. فقد عرف الإنسان منذ القدم -بحبه لمعرفة ما حوله رغم اختلاف الدوافع في ذلك- دافع المعرفة وتسخيرها لخدمة البشرية، أو دوافع حب جمال الأجرام السماوية في قبة السماء.
ولكن “جاليليو” أحد مؤسسي علم الفلك الحديث والذي أهدى إلى البشرية ما يتسع للخيال، كان أسير الإقامة الجبرية في منزله لمعارضته أفكار الكنيسة وقتذاك؛ في أن الشمس هي مركز الكون وليس الأرض، وأن الأرض تدور حول الشمس، وهذا قبل أن يصاب -بعد ذلك- بالعمى رغم أنه أول من شاهد الجبال والفوهات على سطح القمر، وأول من اكتشف أربعة من أقمار المشتري وعددًا من النجوم التي لا ترى بالعين المجردة. وقد قال “جاليليو” واصفًا حالته تلك: “إن هذا الكون وهذه الأرض وهذه السماء التي كبرت أبعادها مئات ألوف المرات، أكثر مما اعتقده حكماء العصور السابقة، بفضل اكتشافاتي العجيبة وبراهيني الواضحة، قد بات مقصورًا -بالنسبة لي- على الفضاء الصغير الذي تملؤه حواسي الجسيمة”.
ولد جاليليو في “بيزا” الإيطالية عام 1564م، قام خلال حياته بأعمال علميه قيمة حتى وفاته عام 1682م.
ومن هذه الانطلاقة بدأ تسابق العلماء في اكتشاف الطرق التي يستطيعون من خلالها سبر أغوار الكون، فتعددت أساليب الرصد وطرق استكشاف الفضاء؛ فهناك المراصد المرئية والراديوية، والمراصد بالأشعة المتعددة في الطيف الكهرومغناطيسي، بالإضافة إلى مراصد فضائية تنطلق في الفضاء الخارجي لاستكشاف الأجرام الدقيقة في الفضاء الفسيح.
التلسكوبات الفلكية
جاءت الحاجة إلى التلسكوبات، لتلبي رغبة الإنسان في تطلعه للكمال واكتشاف أسرار الكون. فمن المعلوم أنه لا يمكن لقزحية العين أن تتسع أكثر من 8 مم، وبالتالي لا يستطيع الإنسان أن يرى الأجرام السماوية البعيدة أو يرى بعضها بضوء خافت، لذلك تتطلب التلسكوبات الفلكية أن تكون ذات قدرة عالية لتجميع الضوء، ومن ثم أن تكون بأقطار كبيرة. فالتلسكوب الذي قطر مرآته 78 مم، يستطيع أن يجمع قدرًا من الضوء يزيد 100 مرة عن القدر الذي تستطيع العين البشرية أن تجمعه. وبالتالي يستطيع هذا التلسكوب أن يقوم برصد النجوم التي يقل ضوؤها 100 مرة عن ضوء أضعف النجوم والتي يمكن أن تراها العين البشرية. ويبلغ قطر التلسكوب الموجود في “مونت بالومار” بولاية كاليفورنيا الأمريكية خمسة أمتار، ويستطيع هذا التلسكوب تجميع ما يزيد على عدة ملايين من المرات على ما تستطيع العين البشرية تجميعه.
وقد تم تصنيف التلسكوبات إلى نوعين وفقًا لطريقة تجميعها للضوء الصادر من الأجرام السماوية؛ فتم تصنيفها إلى التلسكوب العاكس وهو النوع الأكثر شيوعًا الآن، والتلسكوب الانكساري صاحب التكلفة العالية، كما هناك تلسكوبات أرضية وأخرى فضائية.
ومن أشهر التلسكوبات الفضائية، تلسكوب “هابل” الذي ينسب إلى العالم الفلكي “أدوين هابل”. أطلق في أبريل 1990م بواسطة المكوك الفضائي دسكفري الأمريكي، ويبلغ طوله 15.9م، عرض قطر مرآته 4.2م، ووزنه 11.110كغ، والعمر الافتراضي له 20 عامًا، وقد أجري له قريبًا ترميم بواسطة المكوك الأميركي أتلانتيس، ويعمل بالطاقة الشمسية بطاقة مقدارها 2400واط، يُتم دورة كاملة حول الأرض في 97 دقيقة، وسرعته 28000كم في الساعة، ويدور على ارتفاع 569كم فوق سطح الأرض، ينتج من 10 إلى 15 غيغا بايت من الصور والبيانات العلمية كل يوم، وقد التقط أكثر من 700 ألف صورة خلابة لسُحُب ضخمة من الغاز المضيء ومجموعة متنوعة من المجرات والأجسام غير المألوفة، ولولادة النجوم وموتها. وقد كان له أثر كبير على أفكارنا ونظرتنا إلى الكون، خاصة بعد اكتشاف “هابل” -بعد مراقبته للمجرات قرابة نصف قرن- تم اكتشاف أن المجرات تتباعد عن بعضها البعض، وهذا ما يعني أن الكون في تمدد. وإثباتُ تمدد الكون ليس بالأمر السهل، ولكن مع الأيام تبنى أكثر العلماء هذا الاكتشاف، وأصبح الآن جزءًا من الحقائق العلمية. وهذا الكشف أدى إلى تبين نظرية الانفجار العظيم، التي يعكف علماء العصر الحديث على دراستها. وكل ذلك أدى إلى تغير النظرة إلى الكون من كون ساكن أبدي إلى كون بدأ خلقه من زمن بعيد. وهذا ما أخبرنا به الله عز وجل في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾(الذاريات:47).
وهناك تلسكوبات أخرى أطلقتها كل من روسيا وأوروبا واليابان، كما سيتم مستقبلاً بناء تلسكوب “ماجـِلاّن” العملاق، وهو تلسكوب أرضي سوف يتم الانتهاء من إنشائه في عام 2018م. وهو يتكون من سبع قطاعات رئيسية بقطر 8.4م (27.6ق) بدقة تصوير مرآة رئيسية قطرها 24.5م (80.4ق)، وإجمالي مساحة سطحها 21.4م (70.2 ق). ومن المتوقع أن تصل قدرة التلسكوب الجديد، أربع أضعاف التلسكوبات القائمة حاليًّا. وفي وكالة الفضاء ناسا حاليًّا، يعمل على إعداد وتجهيز منظار “جيمس ويب” الفضائي العملاق لإطلاقه في 2013م، ليجري متابعة واختبارات للكون المحيط بنا من وراء القمر.
ومع تقدم العلم، راح يحلم كل فلكي بتكوين تلسكوب بقطر 1000م، وبالتالي يكون من الممكن تصوير كواكب شبيهة بالأرض خارج المجموعة الشمسية تبعد 75 سنة ضوئية أو أكثر، ودراسة غلافها الجوي للكشف عن إمكانية وجود الحياة عليها. وهذا التلسكوب سيساعد في اكتشاف نجوم تبعد أكثر من 12 بليون سنة ضوئية، ومراقبة ولادة مجرات تبعد حوالي 10 بلايين سنة ضوئية. وكم ستفتح للبشرية من أبواب للمعرفة عندما يتحقق هذا الحلم.
لأسلافنـا دور
شهد العصر العباسي نموًّا في الحضارة الإسلامية وبالأخص تطور علم الفلك. فإبان هذا العصر، تم إنشاء عدد من المراصد الأرضية في دمشق ومصر وسمرقند، كما طور علماء المسلمين أداة “الأسطرلاب”؛ وهي آلة دقيقة تصور عليها حركة النجوم في السماء حول القطب السماوي. وتستخدم هذه الآلة لحل مشكلات فلكية عديدة، كما تستخدم في الملاحة وفي مجالات المساحة. وتستخدم -إضافة إلى ذلك- في تحديد الوقت بدقة، ليلاً ونهارًا. وقد اهتم بها المسلمون اهتمامًا كبيرًا، واستخدموها في تحديد مواقيت الصلاة، كما استخدموها في تحديد مواعيد فصول السنة.
ووجه الأسطرلاب يحتوي على خريطة القبة السماوية، كما يحتوي على أداة تشير إلى الجزء المنظور من القبة السماوية في وقت معين. وقد رسمت القبة المنظورة على وجه الأسطرلاب المسطح بطريقة حسابية دقيقة، وهي الطريقة ذاتها التي استخدمت في رسم خريطة العالم (الكرة الأرضية) على مساحة مسطحة. وهذه الطريقة تسمح بتحول الدوائر من أشكال كُروية إلى أشكال مسطحة دون أي تغيير للقيمة الحقيقية للزاوية، التي ترسم بين خطين على الشكل الكروي. وقد اشتهر بصناعة الأسطرلابات، علماء فلكيون كثيرون، منهم: حامد بن محمد الأصفهاني، وأحمد بن حسين بن باسو، وأبو حامد أحمد بن محمد الصاغاني. وكل ما تم ذكره يدل على أن علم الفلك، تمتع بمكانة مرموقة بين العلوم الأخرى، وحاز اهتمام الإنسان -وما يزال- في مختلف العصور والأزمان بشكل كبير.