نستعرض فيما يلي، الأسس والمهارات الواجب توفرها في القائد أو المدير الناجح، في ضوء أحداث قصة “ذي القرنين” في القرآن الكريم.
1- الإيمان بالله
القائد الناجح، هو الذي تنبع قوته من إيمانه بالله العزيز الحكيم. وإيمانه بالله، هو الذي يرسم لـه منهجه في العمل وتعاملـه مع الآخرين. فهو صاحب رسالة نابعة من منهج الله عز وجل، يعمل على تحقيقها على أسس وضعها الله عز وجل لصالح البشرية وعمارة الأرض. فذو القرنين، عبد من عباد الله الصالحين، مكنه الله في الأرض وآتاه من كل شيء سببًا فأتبع سببًا. رسالته وتنقلاته في أنحاء المعمورة كانت للدعوة في سبيل الله عز وجل والعمل الصالح، وقيادة الأمم لما فيه صالحها. وهذا ما وضح من رحلته إلى “مغرب الشمس”، كذا إلى “مطلع الشمس”، وإلى بقعـة من الأرض يسميها القرآن الكريم “بين السدين”. ولقد اتسم حديثه دائمًا بذكر الله عز وجل والثناء عليه سبحانه، فلقد بدأ حديثه إلى شعب “دون السدين” بقوله: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾(الكهف:95)، وقال عندما انتهى من إقامة الردم بضخامتـه وإعجـازه: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾(الكهف:98). وفي هذا ما يشير إلى قوة إيمانه بالله سبحانه وإرجاع كل أمره إلى الله العليم الحكيم.
2- أمانة القائد
الأمانة سمة أساسية يجب أن تتوافر في القائد أو المدير الناجح. فلقد وُكِل إلى ذي القرنين، أمانة التعامل والتصرف مع القوم عند مغرب الشمس من قِبَل الله عز وجل، ولا يكون ذلك إلا لقدرته على تحمل المسؤولية وأمانة ما وكل إليه، قال الله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾(الكهف:86). كذلك عندما شرع في بناء الردم كان أمينًـا على ما في أيدي القوم من ثروات، فعندما عرضوا عليه جَعْلَ خَرْجٍ له نظيرَ إقامته سدًّا لهم، لم يطمع فيما بأيديهم، ولكن قال معقبًا: ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾(الكهف:95).
وكان أمينًا على ما في أراضيهـم من ثروات ومعـادن، فرغم أن معـه الجند الكثير إلا أنه أرادهم أن يكتشفوا بأنفسهم ما في أرضهم من ثروات معدنية وخامات، فقال لهم: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾(الكهف:96)، و﴿قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾(الكهف:96).
وكأني أراه يحثهم بقوله: اذهبوا إلى أرضكم.. ثيروا الأرض.. اكتشفوا ما في باطن أرضكـم من ثروات ومعـادن.. ولا يطَّلع عليهـا أحدٌ غيركم…
وكان أمينًا على أرواحهم، فشرع على الفور يقيم لهم ردمًا يحميهم من قوم يأجوج ومأجوج، وذلك بمعاونتهم له بقوة. تلك هي الأمانة التي هي روح القيادة والإدارة وأساسها، والتي يرضاهـا الله عز وجل فيمن يلي أمر الجماعة.
3- التطبيق الفعلي لقوانين الجزاء والعقاب
﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾(الكهف:87-88). إن دستور عمل ذي القرنين، والذي أوضحه في هاتين الآيتين الكريمتين يتلخص في وضع نظام للعقوبات والحوافز…
• ويتمثل في معاقبة الظالم، بأن يوقع عليه عقابًا دنيويًّا يظهر للجميع، حتى يكون رادعًا لكل من تسوِّل له نفسه فعل المحرمات أو التقصير والإفساد في الأرض والظلم.
• مكافأة الأفراد المتميزين في أخلاقياتهم وأعمالهم والحوافز عند ذي القرنين تنقسم إلى حوافز مادية وتمثلت في قوله: ﴿فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى﴾. وحوافز معنوية وجاءت في قوله: ﴿وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾، أي سنثني عليه بالقول، ونكرمه ونعلي من شأنه. وهذه الحوافز لازمة للأفراد، فهي تقوي وتزيد الدعامات النفسية لديهم وتحفزهم لمزيد من الجهد والعطاء.
4- المهارات في التعامل مع مختلف الجنسيات
لقد ورد في قصة ذي القرنين، أنه ذهب إلى عدة بقاع من الأرض؛ وهي مغرب الشمس، ومطلع الشمس، وبين السدين، الأمر الذي يلفت انتباهنا إلى أن ذا القرنين قد تعامـل مع جنسيات مختلفة، في بقاع متباعدة على كوكب الأرض. وفي هذا إشارة إلى أن المدير أو القائد الناجح، لابد أن تكون له القدرة على التعامل والتكيف مع أنماط عدة من البشر، وفي بيئات مختلفة، ويتكيف بسرعة مع الظروف غير العادية، والتعايش مع كافة الظروف والبيئات.
كذا ضرورة أن يجيد التخاطب والتفاهم بلغات مختلفة. فعندما ذهب ذو القرنين إلى مغرب الشمس، تحدث مع القوم بلغتهم، كذلك عند مطلع الشمس، وعندما التقى بالقوم عند “بين السدين” -وهم لا يكادون يفقهون قـولاً- استطاع أن يقودهم بمهارة فائقة، وتعامل معهم بوسيلة للتخاطب، فهموا كل خططه وتوجيهاته حتى أتم بناء الردم الضخم لهم.
وفي هذا إشارة إلى أن القائـد الذي تتطلب ظروف عملـه التنقل بين أقطـار مختلفة (القائد العالمي)، يجب عليه أن يجيد التخاطب بأكثر من لغـة.
وتوفر وسائل الاتصال بين القادة والمرؤوسين، ضرورة حتمية لقيادتهم وتحقيق الأهداف المرجوة. ومن أهم هذه الوسائل، تواجد القائد أو وليّ الأمر بينهم، والتحدث إليهم بلغة يفهمونها.
5- القدرات الذاتية والخبرات للقائد
لقد أشار القرآن الكريم في سياق الآيات الكريمة في هذه القصة، إلى أن القائد لابد أن يكون أهلاً للثقة، وأهلا للخبرة.والإشـارة لكونه أهلاً للثقة جاءت في قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾(الكهف:86). والإشارة لكونه أهلاً للخبرة ما ذكرناه آنفا في قوله سبحانه وتعالى:
﴿كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا﴾(الكهف:91)
ولقد ساق الذكر الحكيم الإشارة إلى خبرة ذي القرنين بصيغة النكرة ﴿خُبْرًا﴾، أي إن الخبرة لديه تتعدد وتتنوع ما بين الخبرة الإدارية، والخبرة في فنون القيـادة، والخبرة العلمية والمهنية في مختلف المجالات، والقدرة على التعامـل مع مختلف الأجناس في ظل متغيرات متباينة… وهذا ما وضح في قيادته لشعوب الأرض، مما يدل على الخبرات المتعددة لديه… ولقد بلغت تلك الخبرات والإمكانيات من العظمة، أن يذكر الحق سبحانه إحاطته بها تشريفًا وتعظيمًا بشأنها.
وهذه الخبرات لازمة لقيادة التابعين، حيث تساعد على اتخاذ القائد أو المدير، للقرار المناسب إزاء كل موقف حسبما تقتضيه ظروفه.
6- الثـــــقة فــي الآخـــــرين
إن إنجاز أي عمل لا يتم على الوجه الأكمل، إلا بالثقة المتبادلة بين القادة ومرؤوسيهم. فلابد للقادة أن يمنحوا الثقة لتابعيهم ويشعروهم بها، ويُذكُوا فيهم قدراتهم الذاتية وثقتهم في أنفسهم. تلك الحقيقة أعلنها ذو القرنين وهو يتحدث إلى هذا الشعب المتكاسـل الذي لا يجيد إلا دفع الخراج بقوله: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾. وكأني به يقول: ليس بالخراج يُشْترى أمنكـم، ولكن بقوة أبدانكـم، وبفكركم تصنعون أمنكـم.
فهـا هو الممكّن في الأرض، والتي دانت له، مشارقهـا ومغاربها، وحكم شعوبها يطلب العـون منهم. لقد نفخ فيهم من روحه، وذكّى قدرتهم الذاتية فأكسبهم ثقة في أنفسهم، فتحولوا إلى طاقات بشرية هائلة نفّذت أكبر ردم.
7- الرؤيـــة المستقبلية وبراعة التخطيط
القادة لابد أن يكون لهم “رؤية مستقبلية”، كي يستشعروا بها الأحداث المستقبلية برؤى مدروسة ومنطقية، ويقيمون عليها المتطلبات اللازمة لتحقيقها، لذا قال لهم: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾.
إن يأجوج ومأجوج بكثرتهم، سيعيثون في القوم فسادًا طيلـة حياتهم وحياة ذرياتهم من بعدهم… تلك هي الرؤية المستقبلية التي رآهـا ذو القرنين، وبدراستهــا جيــدًا، وضح الهدف ومتطلبات تنفيذه. فالأمر يستلزم إقامة ردم ضـخم علـى أعلـى تقنيـة، يمنع هجمات قـوم يأجوج ومأجوج على هؤلاء القوم والبشر في كل زمان ويبقى أبـد الدهـر، لذا هتف فيهم قائلاً: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾.
8- القـــدرة على إدارة الاجتـماعــات
شـعــب خـائــف لا يكـاد يفقــه قــولاً، عدو لا طاقـة لأحـد عليــه… إنهـا أزمــة بحـق… فكيـف أدار ذو القرنين اجتمــاع شعـب في أزمــة؟ فلنرى كيف سارت الأمور…
• لقد استمع إلى القوم أولاً وهم يعرضـون عليه أزمتهـم. هم الذين تحدثوا أولاً: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾(الكهف:94).
• الموقف يستلزم تهدئة الحضور والسيطرة على زمـام الموقف، حتى يتهيأ الجميع لتلقي المهام. فما كان من ذي القرنين، إلا أن بدأ حديثه بالثناء على الله عز وجل وما منَّ عليه من إمكانيات كثيرة، فأشاع جـوا من الطمـأنينة: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾.
• احترام رأي الآخرين، فلم يوجـه إليهم نقدًا فيما أبدوه من حل لأزمتهم، حتى لـو كان فيه ما يثير حفيظتـه بقولهم له: ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾. إنه الممكّن في الأرض، ذو الجاه والسلطان، وهاهم يشترطون عليه أن يدفعوا له نظير قيامه بعمل لهم، ورغم ذلك لم يستدع ثورته ولم ينفعل، ولكن بهدوء قال لهم: ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾.
• ثم بدأ في جذب اهتمام الحضـور واستثـار عقولهـم فهتف فيهم: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾.
• القـدرة على إيجـاد حـل لمـا يعرض عليه من مشاكـل، واطلاع الحضور على المهمة المطلـوب منهم تنفيذها: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾.
• إجــادة التخاطــب؛ فالقوم لا يكادون يفقهون قولاً، وكان له في هذا عذر في عدم مساعدتهم، ولكن لابد أنه اجتهد في الوصول إلى وسيلة للتخاطب معهم والتأثير فيهم ببلاغـة منطقه وقـوة حجته، مبينًا لهم ما سيكون لهم من ثـمرة جهدهم ألا وهـو صنـاعة أمنهـم. وكان ذلك من خلال رسالة قويـة وبليغـة ومختصرة، جمع بها شتاتهـم ليحوّلهـم إلى قوة بشرية هائلة متحفزة، تنتظـر الأوامر الصادرة لها لتعمل بجد خلف قيادة مؤمنة وحكيمة. تلك هي القيادة التحويلية التي تحول الجموع المتكاسلة إلى قوة بشريـة هائلة تنفذ أكبر مشروع على الأرض.
9- القدرة على اتخاذ القرارات
وتلك القدرة تستلزم في فكر القائد مراحل مدروسة ومنطقية لصناعتها، وهي على النحو التالي كما تصورناها:
• تحديد المشكلة: في حالتنـا تلك هي إغـارة يأجوج ومأجوج على القوم والإفسـاد فيهم، والقوم لا يملكون سبل استثمار طاقتهم البشرية وثرواتهم، كما ظهر من حديث القوم لذي القرنين.
• جمع البيانات حول المشكلة: وفي هذه القصة القرآنية الجليلة، نرى -والله أعلى وأعلم- أنها جاءت من مصدرين:
المصدر الأول: قد يكون عِلم ذي القرنين بإفساد يأجوج ومأجوج في هذه المنطقة قد جـاءه من قبل الله عز وجل، وبكيفية لا نعلمها، فانطلق إليهـا.
المصدر الثاني: علمه بها جاء بمعاينته إفساد يأجوج ومأجوج عندما بلغ بين السدين أولاً، قبل أن يلتقي بالقوم دونهما وما يدلنا على قول الحق سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾(الكهف:93). والسياق القرآني في غاية البلاغة والدقة، وفي تدبره يعطي بحورًا من المعرفة والحكمة. فمن هذه الآيـة الكريمة يظهر لنا بجلاء أن ذا القرنين بلغ بين السدين أولاً، فعاين إفساد يأجوج ومأجوج، ثم انتقل إلى منطقة دونهما، أي بالقرب منهما، قال سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا﴾(الكهف:93)؛ هناك التقى بالقوم، فأخذوا يعرضون عليه أزمتهم، الأمر الذي وافق ما لديه من معرفة مسبقة “عن إفساد يأجوج ومأجوج” ما تحدث القوم عنهم وعن إفسادهم، لذا اتخذ القرار بإقامة ردم ضخم بينهم وبين يأجوج ومأجوج.
المصدر الثالث: من القوم أنفسهم -كما ذكرنا آنفا- وقولهم: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾.
• الحكمة في الاختيار بين البدائل المتاحة: إن أحسن البدائـل في هذه الأزمة، هو إقامة مـانع حصين بالموارد المتاحة، بين القوم وبين يأجوج ومأجوج.
• رسم خطط التنفيذ: وهذه لابد أن يكون لها تصور كامـل في فكر القـائد؛ كيف يخطط، وكيف تكون البداية، وكيف يستثمر كل الإمكانيات، وما هي معدلات الأداء المطلوبة لإنهاء العمل على الوجه الأكمل وفي الموعد المحدد.
• مرحلة صياغة القرارات وإصدارها: وهي القرارات التي أصدرها ذو القرنين، والتي جاءت بقوة على النحـو التالي: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾، ﴿انْفُخُوا﴾، ﴿آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾(الكهف:96).
• متابعة تنفيذ القرارات: فلقد كان ذو القرنين بينهـم، يده بيدهم وهم يقيمون الردم، لهم مهام وله مهام ينفذها، وهو متواجد بينهم، ويتابع مراحل التنفيذ وهو بالقرب منهم. فالاتصالات الفعالة بين القائـد والتابعين، من أساسيات إدارة الأزمات، فلا هناك وقت يضاع.
10- إدارة الـوقت
المقولة تقول: “الوقت = نقود”، وفي الأزمات: “الوقت = حيـاة”.
والسياق القرآني الجليـل في هذه القصة، يلفت أنظارنـا إلى أهمية عامل الوقت والاستخـدام الأمثـل له، وذلك من خلال إشـارات لطيفـة في أثناء تنفيـذ الردم. فبعد عرض فكرتـه عليهم بـدأ في التنفيـذ على الفور بقوله: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾. فإذا انتهت مرحلة، بدأ بالمرحلة التي بعدها على الفور: ﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾.
وبدراسة مراحل تنفيذ “مشروع الردم” الذي أقامـه ذو القرنين بمعاونتهم له، نرى أن هناك عدة أنشطة قد بدأت معًا استثمارًا للوقت وعدم إضاعته؛ حتى إننا نستطيع أن نؤكد أن الشعب كله كان في حالة استنفار، وتوزعت المسؤوليات وأدى جميع أفراد المجتمع دوره بإتقـان وفي تسلسل متتـابع لمراحـل تنفيذ الردم.
11- القدرة على تكوين فِرَق العمل
القرآن الكريم أشار في هذه القصة الرائعة على أن هناك فِرَق عمـل تكونت لتنفيذ هذا العمل المعجـز، ولقد وزع ذو القرنين أدوارًا ومراحل للعمـل عليهم ونسق بينهم. ولقد ظهر هذا جليًّا من الآيات الكريمـة، فتكونت فِرَق العمل الآتية:
1- فريق لإحضار الحديد وتكون فور قولـه سبحانه وتعالى: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾، وما يستلزم هذه المهمة من التنقيب عن خام الحديد، والكشف عن مناجمه وإعداده على الصورة التي طلبها ذو القرنين، ونَقْله إليه عندما يطلبه.
2- فريـق للتجهيزات والمعاونة، وهذا الفريق يتولى تعبيد الطرق وإعدادها من مواقع الحديـد، ومواقع النحاس، وأفران صهره، حتى موقع الردم. كذا المعاونة فيما تستلزمه المساواة بين الصدفـين، والذي يتولاه ذو القرنين.
3- فريق لإيقاد النيران، وهذا الفريق يتولى إعداد مواد وخامات الاشتعال، كذا أدوات النفخ والبـدء في النفخ لإشعال النيران عندما يطلب ذلك ذو القرنين في الوقت المحدد.
4- فريــق لإعداد النحــاس المــذاب، وهذا الفريق يتـولى؛ اكتشاف خام النحاس، ونقله إلى أفران صهره، والتي يقيمونها، ثم صهر النحاس ونقله إلى موقع الردم عندما يطلبه ذو القرنين. وهذا كله قد وضح من قول ذي القرنين إجمالاً، دون الدخول في هذه التفاصيل بقوله سبحانه وتعالى: ﴿آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾.
هذه بعض الفرق التي نستطيع أن نجزم أن هذا العمل قد تطلبها -وأكثر من تصورنا هذا قد حدث- لما يتطلبه هذا العمل الضخم من فرق لتنفيذه، حتى إننا نتخيل أنه لابد أن الشعب كـله قد عمل فيه، وذلك للحاجة إلى كثير من الأيـدي العامـلة لتنفيذه. ولا نستطيع أن نتخيل كيف شرح ذو القرنين وبيّن لكـل فريق عمله وواجباته وأن يؤدي كل فريق عمله على أكمل وأتم وجه.
ولا ننسى أن القوم لا يكادون يفقهون قولاً، وكيف تابع ذو القرنين المراحل البعيدة عن موقع الردم عندما كان يساوي بين الصدفين وهناك من يعمل بعيدًا عنه في الكشف عن عنصري الحديد والنحاس وتصنيعهما، ونقل الكميات المطلوبة منهما، كذا خامات ومواد الاشتعال… وكان لابد لهذه الفِرَق أن تتولى إدارة أنفسهم بأنفسهم.
وكأني بذي القرنين قد فوض بعضًا من مهامه الإشرافية لأفراد من الشعب. وهذا ما نطلق عليه في إدارة الأعمال “التفويض”، ولقد نجحوا في هذا. وتلك ما تنادي به النظريات الحديثة في “القيـادة”، و”إدارة الأعمال”.
12- القادة يجب أن يكونوا قادة تغيير إلى الأفضل
أراد ذلك ذو القرنين فحول هذه الأمة، من أمـة تشتري سلامتها إلى أمـة تصنع سلامتها. ومن شعب متكاسل إلى فِرَق عمـل متعاونة تسعى بجدٍّ لتحقيق أمنهـم، من خلال إنجـاز مشروعهم الضخـم. فأكسبهم قيمًا جديـدة تمثلت في حب العمل، الثقـــــة في النفس، إدارة أنفسهم وأعمالهم ذاتيا، الكشف عن مصادر ثرواتهم، اكتساب مهارات جديـدة، معرفة تكنولوجيـا جديـدة، تقدير قيمــــة الوقت، بث روح التعـــاون بينهم، اكتساب قيم وأخلاقيات جديـدة تنبع من إيمان هذا القائـد العظيـم.
13- إنكــار الـــذات والتــــواضــــــع
القادة يجب أن يعظموا أهداف المنظمة، وينكروا ذاتهم في سبيل الجماعة لينالوا ثقة الآخرين واحتـرام مرؤوسيهم لهم. ولقد ضرب لنا ذو القرنين المثل الأعلى في هذا بقوله: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾(الكهف:95).
وكأني به يقول لهم: لم آت إليكم من أجل المغنـم، ولكن جئت من أجلكم متطوعًا، أطلب العون منكم بقـوة، ساعدوني لأجعـل بينكم وبينهم ردمًا، يحميكم ويحمي ذرياتكم من بعدكم. ثم انظر إلى تواضعه الجم؛ وبعد أن أتم العمل الخالد والمعجز، رد الأمر إلى الله سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾(الكهف:98). إنه الممكّن في الأرض، يطلب العون ليبني الردم، وينصهر معه الشعب، ثم لا يغتر بعمله تواضعًا لله عز وجل.
14- وضع معايير عالية لتقويم الأداء
﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾(الكهف:97). إن القرآن الكريم، يعلمنا أن كل عمل يعمله الإنسان، لابد أن يكون مؤديًا للغرض الذي أقيم من أجله. فالردم الذي تم بنـاؤه بين يأجوج ومأجوج، والقوم المستضعفين، لابد أن يحقق هدفين؛ الأول، أن يكون من المتانة والقوة بحيث لا يمكن أن يحدثوا فيه ثقبًا ينفذون منه. والثاني، أنه عال جدًّا يصعب عليهم أن يتسلقوه، ولقد حقق تنفيذ الردم هذين الهدفين.
فعلى القادة حين يخططون لتنفيذ الأهداف، أن يضعوا نصب أعينهم أعلى المعايير لجـودة الأداء، ليصلـوا بفِرَقهم إلى أفضـل النتائـج، وعليهم أن يُقيّموا ما أتمـوه من عمـل على المعايير المطلوبة للعمل، فها هو ذو القرنين، وبعد أن تماسك الردم وتماسك معه الشعب وتم العمل، ينتقل إلى مرحلة اختبار العمل وكأنه يقول لهم: حاولوا أن تَظهروه… حاولوا أن تنقبوه… فلم يستطيعوا… ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾(الكهف:97-98).