مرحبًا عزيزي الإنسان… كيف حال الجوّ عندك؟ فعندي الريح ينسم بلين… ها قد جاء دوري للدردشة معك… أريد أن أبدأ بالحديث عن إتقانِ الصنعة التي أبدعها خالقي في رقبتي الطويلة. ولكن أريد قبل ذلك أن أضعك أمام صور من الادعاءات التي قيلت حول استطالة
رقبتي… في الحقيقة إن “لامارك” هو أول من قدم نظرية عامة في التطور العضوي، وجاء مَن بعده مستخدمًا هذه النظرية في الإلحاد… وجعلني مثالاً بين عدة أمثال ضربها؛ حيث زعم أننا كنا حيواناتٍ صغيرة تشبه الماعز، ثم استطالت ونمت رقابنا وأيدينا نتيجة محاولة أجدادي المستمرة من أجل الوصول إلى غذائها من أوراق الشجر العالية، بعد أكلِ أوراق الفروع الأدنى منها(!) تلك هي قصتي المزعومة. فالقول بـ”تطور الأعضاء بالاستعمال، وضمورها بالإهمال” وفق هذه الرواية صحيحة نسبيًّا، ولكن هؤلاء لم يكتفوا بذلك وقاموا بتحريف الحقيقة وأسسوا قانونًا يجعل نشوء الأنواع عن بعضها بالتطور(!). وسبب قولي نسبيًّا هو أن الأعضاء التي يستخدمها أي كائنٍ حيٍّ ويعتمد عليها في حياته، تنمو أكثر من غيرها وتكون أقوى من الأعضاء المقابلة لها عند كائنٍ حيٍّ آخر لا يستعملها. إلا أن هذا التغيير لا ينتقلُ إلى المورِّثات الجينية. فابن حامل الأثقال، لن يغدو ربَّاعًا مثل أبيه بالكسل والتهاون، بل بالجدّ والتدريب.
تُرى لماذا لم يتغير -حتى الآن- طول أجداد المواعز التي عاشت مع الزرافات في تلك الآونة، وبقيت على حالها رغم أنها لم تتوقف يومًا عن تطاولها على الأشجار والشجيرات العالية وتنهش أغصانها نهشًا؟ لقد ظلّ هذا السؤال وأمثاله دون جواب. كما أن الدراسات والبحوث المختبرية التي أجريت فيما بعدُ، دحضت كل الادعاءات حول هذه الوراثات.. وبعد ظهور حقيقة أنّ الخصائص التي يتحلى بها كل كائن حي قد تم وضعها على شكل شيفراتٍ جينية في الخلايا من قِبل عالِمٍ لا يحاط علمه، وقدرةِ خبيرٍ لا تُحَدُّ قدرته؛ تبيَّن أنه لا يمكن أن تطول رقبَتي بإرادتي، أو بمحاولتي المستمرة للوصول إلى الأغصان العالية.
ولا يوجد أي دليلٍ يؤكد قول مَن قدَّم طولَ عنقي مثالاً للتكيّف البيولوجي وادعى أني تفوّقت على أقراني من الحيوانات بالتغذية الخاصة بي فقط. وبالتالي فكل الحيوانات النباتية تتغذى حسب الخصوصيات التي خُلقت عليها. وقد ميّزني خالقي عن غيري من الحيوانات، بنعمة الطول الذي يسهّل عليّ الوصول إلى أعالي الأشجار وتناول ثمارها وأوراقها الطازجة الطرية. لذلك بلسان حالي أشكره وأذكره على الدوام… فهو سبحانه أعطى كلَّ مخلوقٍ ميزة خاصة به، فلا داعي لأن يَغار مني أحد… فالكل ميسَّر لما خُلق له، وربي سبحانه جهّز كل كائنٍ بكل التدابير التي تلزمه في مواجهة الحياة والمعيشة.
تزويد وفق الحاجة
أعطاني خالقي قلبًا يساعدني في تغذية دماغي الذي يعلو عن الأرض بخمسة أمتار ونصف تقريبًا. وإذا كان ضغط الدم في الأوعية الدموية لديكم يبلغ 120 مم من الزئبق (الضغط العالي)، فقد زوّدني ربي بقلب يضغط الدم في الأوعية بقوة تبلغ 215 مم من الزئبق. وإذا قارنا المسافة العمودية بين القلب والمخ عند الزرافة -وهي حوالي ثلاثة أمتار- فلابد وأن يكون الضغط في الأوعية قويًّا جدًّا لكي يصل الدم إلى الدماغ. ولا ننسى أن هذا الضغط العالي في الأوعية خطرٌ يمكن أن يؤدي إلى تمزق الشرايين ونزف الدماء في الدماغ ثم الموت، وقد يمكن أن يرتفع ضغط الدم في القدمين إلى مستويات أعلى تحت تأثير الجاذبية الأرضية ويتسبب بانتفاخات الشعيرات الدموية ثم انفجارها. لكن لم يحدث كل ذلك، لأن الله سبحانه قدَّر كل شيء بعلمه المحيط فأحسن خلقه وتدبيره. فالشريان الأبهر الذي يحمل الدم من قلبي إلى جسمي، يفتح شريانًا سباتيًّا عبر العنق نحو الأعلى حتى يروي المخ بالدم الكافي. فالدماء التي تجري في الشريان السباتي نتيجة الضغط العالي، تجري -قبل وصولها إلى دماغي- في نظام عجيب عبر شبكةِ تصريفٍ معقدةٍ تسبب انخفاظ ضغط الدم في دماغي إلى 90 مم من الزئبق، وبذلك أتقي النزيف الدماغي أو تفجُّر الشعيرات الدموية في الأذن والعين. وهذه العملية تشبه ضخ المياه في شبكة المدينة من أجل توزيعها من الخط الرئيسي إلى عدد كبير من البيوت.
إن بديع الصنعة زوّد رِجليّ بآلية مختلفة متميزة، تطبّقونها أنتم البشر على طيّاري الطائرة النفاثة وعلى مرضى الدوالي. فالطيارون -إضافة إلى الجاذبية الأرضية- يتعرضون لجاذبيةٍ كبيرة جدًّا نتيجة الإقلاع السريع لطائراتهم النفاثة؛ حيث يتم اندفاع الدم الذي يجري في العروق نحو أقدامهم بقوة هائلة يمكن أن تتسبب بانتفاخات في عروق القدمين أو تمزقات فيها. لأجل حمايتهم من ذلك، يلبس الطيارون ملابس خاصة مصنوعة من أقمشة قاسية محكمة تمسك سيقانهم بقوة. كما أن الذين يضطرون إلى الوقوف الطويل دون حركة ومن ضمنهم مرضى الدوالي، يلبسون جوارب خاصة تضغط على أوردة أقدامهم. لعلكم عرفتم كل هذه الأمور بعد تجارب عديدة ودراسات طويلة، لكن ربي، بحكمته وعلمه، عندما خلقني جعل لساقَيّ أسفل الركبتين، جلدًا سميكًا قويًّا يحافظ على أوردتي من آثار ضغط الدم العالي.
وللحيلولة دون ارتفاعٍ كبيرٍ لضغط الدم في رأسي أثناء مَيلي به نحو الماء، أفتحُ قدمَيّ حتى يتدنّى مستوى قلبي، فيبقى الضغط في مستوىً يتحمله رأسي. وبما أنني أكون في هذا الوضع صيدًا سهلاً، تجدني في حذرٍ شديد عند شربي الماء. كما أن حاجتي إلى الماء قليلة أصلاً؛ حيث تحوي الأوراق الطرية في أغصان الأشجار العالية على 70% من الماء الذي يحتاجه جسمي. ولكن إذا عثرتُ على ماء نقي في مكان يخلو من الخطر، عندها فقط، أفتح قدمَيّ وأحني رأسي لتناوله.
وكما هو عند معظم الثدييات، تتشكل رقبتي الطويلة من سبع فقراتٍ، كما هو الحال عند الفأرة والقطة وذوات الرقاب القصيرة. ربما كنتم تعتقدون أنه إذا كانت الفأرة تتمتع بسبع فقرات في رقبتها، فإن هذا العدد لدى الزرافة، ينبغي أن يكون أكثر بكثير. لكننا إذا استثنينا عددًا قليلاً من أنواع الثدييات، فإن رقابها جميعًا تحتوي على سبع فقرات. وهذا يدل على الوحدة والتشابه في التصميم المعماري في خلق الثدييات على تنوعها، ويدل على وحدة الخالق المتفرّد في خلقها. ومع هذا التشابه قدَّر الباري عز وجل في كل نوع عددًا غير متناه من الخاصيات التي تُظهر بدائعَ صنعة الخالق الواحد الخبير، وعظيمَ قدرته وعلمَه اللامتناهي. تتكون الفقرات في رقبتي من عظام كبيرة مترابطة ببعضها البعض ذات ثقوب متساوية، وبذلك يتم وقاية أنبوب الجهاز التنفسي وجهاز الأكل.
بطول عنقي الذي يقارب ستة أمتارٍ تقريبًا، أكون أطول مخلوق يقوم بالاجترار ذات الحوافر المزدوجة وذات القرنين بين الثدييات. أما قروني بالنسبة إلى الحيوانات الأخرى، فقصيرة جدًّا ومكسوّة بجلد مخمليّ. كما أن هذين القرنين يوجدان في ذكورنا وإناثنا. مجرى التنفس عندي طويل يناسب طول عنقي، فالقصبات التي تصل فتحتي الفم والأنف بالرئتين يبلغ طولها مترًا ونصف متر، وقطر مقطعها 5 سم، وهذا يجعل الفراغ في القصبات والشعب الرئوية كبيرًا يكثر فيه الهواء (العادم) المستعمل في التنفس الناتج عن الزفير مع الهواء الآتي من الشهيق، وهذا أمرٌ غير ملائمٍ للتنفس، لكن ربي -جلت حكمته- زودني بقدرة عالية على التنفس. فأنتم تتنفسون ما بين 12-15 نفسا في الدقيقة، وأتنفس أنا أكثر من عشرين نفسًا يلبي حاجة جسمي إلى الهواء.
طعامي المفضل
أعيش في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية من إفريقيا، حيث تنتشر الواحات الخضراء من أعشاب السافانا الطويلة والأشجار العالية. أتغذى على النباتات الفلقية. وإن أفضل طعام عندي، هو أزهار أشجار الأكاسيا وأوراقها الغضة الطرية. كما أني آكل الأماكن المناسبة من البناتات الخشبية التي يتراوح عدد أنواعها في هذه المنطقة ما بين 40-60 نوعًا. إن فمي مهيَّؤٌ لتناول هذه الأنواع النباتية، حيث تقوم شفتاي المزوّدة بالمرونة والعضلات القوية، ولساني القوي الذي يبلغ طوله 46 سم؛ وهذا يمكنني من تجريد الأغصان الشوكية من أوراقها بسرعة وحساسية عاليتين. فالنتوءات الطبيعية المصنوعة من الكرياتين والتي تغطي سطح لساني، تقوم بدور المشط وتحميه من الأشواك الضارة. تتناول الإناث من النباتات كميات أزيد من الذكور، وهي مضطرة إلى ذلك، لأنها المسؤولة عن تربية صغارها وتلبية قوتهم من حليب وغيره من الغذاء.
حياتي الأسرية
إننا نتناول بين الحين والآخر التراب والعظام، لنؤمّن ما تحتاجه أجسامنا من العناصر المعدنية كالكالسيوم.
يمكن لذكورنا أن يصبحوا آباءًا وهم أبناء ثمانية أعوام، كما يمكن للإناث أن تكنْ أمهات وهم بناتُ خمسٍ. وإذا كانت مدة الحمل عندكم تمتد إلى تسعة أشهر، فإن الجنين عندنا يُتِم في بطن أمه خمسة عشر شهرًا. ولما كان الحمل يتجاوز العام، لم يكن لدينا موسم محدد للتكاثر، لأن في المناطق الاستوائية لا يحدث فرق موسمي كبير، بل يبقى كالربيع والصيف عندكم… كما تكون الأنثى جاهزة للحمل من جديد بعد خمسة أشهر من وضعها. ويمكن لها أن تحمل من 5 إلى 10 مرات طيلة عمرها الذي يبلغ وسطيًّا 25 عامًا.
تلد الأنثى صغارها وهي واقفة على قدميها، وعلى الرغم من سقوط المولود من ارتفاع يبلغ مترين، فإنه يبدأ بعد دقائق من الولادة، بالترنّح البسيط ثم الجري على قدميه بشكل طبيعي. يزداد طولاً بمعدل 8 سم في الشهر، ويرضع من أمه 18 شهرًا. وعلى الرغم من أننا نبدي حساسية بالغة في الدفاع عن صغارنا، فإننا مع الأسف نفقد 50% منها فريسة للأسود والنمور والضباع وغيرها من الحيوانات الوحشية. لذلك تتجول الصغار برفقة اثنين أو ثلاثة من الزرافات البالغة. وبالتالي نعتمد في توقع الهجوم على حواسنا المرهفة من السمع والشم ونتميز بحدة البصر. حيث نستطيع به تمييز أسد متقدم من مسافة كيلو مترٍ واحد ما لم يقم بإخفاء نفسه، بيد إني أنام ساعتين فقط في اليوم الواحد.
وإذا كان الصراع يكثر بين الذكور من ذوات الحوافر من الحيوانات في مواسم التكاثر، فإنه يندر بيننا. فإذا ما دخلنا في صراع، فإن رؤوسنا تشتبك بضربات تبلغ قوتها 1500 كغ، وربما ينتج عنها تحطّم القرون أو الفكين أو تؤدي إلى فقدان العيون. فماذا نفعل؟ إنها فطرتنا التي فطرنا الله عليها. ولذلك فإن عظام الرؤوس عند ذكورنا تكون غليظة قوية، ووزن الرأس يزداد بمعدل واحد كغ كل عام، حتى يبلغ قرابة 30 كغ لذكرٍ في العشرين من عمره.
أثناء فراري من الأسد
تجري الاتصالات بيننا عمومًا بالحركات والإشارات، فإذا أحسسنا بخطر قادم، نبهنا بعضنا بالأصوات. وبالتالي يمكننا الاتصال فيما بيننا على مسافات بعيدة، معتمدين على أطوالنا العالية وبصرنا الحاد. فإذا رأيت مجموعة منا (من 5 إلى 10 زَرافات) تنظر باتجاه واحدٍ مشنِّفة آذانها، فاعلم أن عدوًّا ما يقترب منا في خبْث وغدْر. حينها نأخذ وضعيَّة الاستعداد للركل والقتال، أو نلجأ إلى حِرْزٍ مناسب. يحاول الأسد -وهو عدوّنا الأكبر- مطاردتنا إلى بقعة وعرة وأرض غير مستوية، فإذا دبَّ الذُّعْرُ في صفوفنا وبدأنا بالفرار ثم صادفتنا أرض وعرة، فقدنا ميزة ارتفاعنا عن متناول الأسد، أو فقدنا التوازن وتدحرجنا، وأصبحت أعناقنا في قبضة الأسد وكنا صيدًا سهلاً له. هذا ما يدفعنا إلى الاتجاه دومًا نحو الواحات السهلة المنبسطة لنجري فيها بسهولة وتوازن. إنه قدَرُنا جميعًا نحن الكائنات الحية، لنا أماكننا المحددة في الدورة الغذائية ودورة الحياة… تكاثرٌ متوازن في عالم الكائنات الحية، يؤمِّن للصيّاد غذاءه وللفريسة استمرار نسلها في الحياة… حكمة بالغة تمضي في ظلالها الحياة ترجمانًا رائعًا لأسمائه الحسنى.
حلقة أخرى في حياتي
علاقة خاصة جدًّا تربطني بشجرة الأكاسيا التي هي طعامي المفضل. أتناول من أوراقها العالية الغضة وبراعمها الجديدة الطرية دون تعريض هذه الشجرة للجفاف والهلاك. لا أعرف كيف ينظّم ربي هذا الأمر، حيث يجعل الشجرة -بعد فترة- تفرز مرارة في أوراقها مما يمنعني من استمرار الأكل، فلا يكون طعامي عندئذ، إلا بمثابة تقليم تحتاجه الشجرة في نموها. ولكن لابد أن ننوه إلى المنفعة التي تحدث بيني وبين تلك الشجرة.
عندما أمد رأسي لأتناول الطعام من قمم الأشجار العالية، يعْلَق في شعيرات عنقي غبارُ الطَّلْع من أزهارها، وأثناء تنقّلي من شجرة لأخرى يتم عن طريق هذا الغبار التلقيح بين أزهار هذه الأشجار. ففي اليوم الواحد أقوم بتلقيح ما يزيد على مئة شجرةٍ تنتشر على امتداد عشرين كيلومتر مربع، تمامًا كما تساهم الحشرات في تلقيح الأزهار. ولابد من أن أعترف لكم، بأني أفعل ذلك دون علمٍ مني، بل أقوم بذلك في ظل تقدير إلهي (ويسميه بعضكم غريزة)، فأُشبع بطني وأساهم في تلقيح الأشجار وتكاثرها. أشكر ربي وأحمده حمدًا كثيرًا أنْ منحني فرصة إظهار قدرته وتقديم صنعته البديعة في خلقتي.