إن الأطفال في كل أمة يشكلون نصف الحاضر وكل المستقبل. والأمة التي تستطيع أن تبني أطفالها وفق أهدافها وتطلعاتها، هي الأمة التي تستطيع أن تحمي وجودها وتتحكم في مستقبلها. ومن هنا ينصح علماء المستقبل بإعداد إنسان الغد، وتثقيفه ثقافة مستقبلية، وتطوير قدراته الإبداعية للتكيف مع عالم المستقبل سريع التغير، حتى تتناغم التغيرات في بنائه النفسي والعقلي مع التغيرات الخارجية، وإلا فإنه سوف يشعر بالاغتراب عن هذا العالم الجديد، حيث يقع فريسة لـ”صدمة المستقبل” على حد تعبير العالِم “توفلر”.
ويُعتبر الطفل هذا الكائن البشري البريء، النواة الأولى للإنسانية ورأسمال البشرية، ولهذا حض الإسلام الكبار على تربيته وتعليمه وتنشئته تنشئة صالحة، ليكون مواطنًا صالحًا تستفيد منه أسرته ومجتمعه. وترجع المسؤولية الكبرى في ذلك إلى الآباء باعتبارهم أولَ من يفتح الطفلُ عليه عينيه، وتأتي المدرسة في المرتبة الثانية باعتبارها تجربة جديدة في حياة الصبي، ففيها يؤسس الطفل لعلاقاته الأولى ولتجاربه خارج البيت، وتعد فترة التحاقه بالمدرسة للمرة الأولى من أهم الفترات في مساره الطفولي.
وإدراكًا لأهمية هذه المرحلة في حياة الطفل، فقد أولاها علماء النفس والتربية أهمية خاصة، لأنها مرحلة تأسيسية في بناء وتشكيل السمات الشخصية التي ستلازم الطفل طوال حياته. إن السنوات المبكرة من عمر الطفل، تمثل الفرصة الثمينة لتشكيل مكونات شخصيته وغرس بذور القدرات التي سيستمر في تكوينها طوال سنوات الدراسة، تلك الأسس التي ستصاحبه مدى الحياة. وإن النجاح الدراسي لا ينبئ به رصيد الطفل من المعارف، أو مقدرته المبكرة الناضجة على القراءة، بقدر ما تنبئ به المقاييس العاطفية والاجتماعية؛ تلك المقاييس المتمثلة في ثقته بنفسه، وأن يكون مهتمًّا، ويعرف طبيعة التصرفات المتوقعة، وكيف يكبح ميله إلى التصرف الخطأ، وأن يكون قادرًا على الترقب والانتظار والالتزام بالتوجيهات، واللجوء إلى مدرّسيه لمساعدته، والتعبير عن احتياجاته عندما يكون منسجمًا مع الأطفال الآخرين.
بصمات الطفولة في بناء الشخصية
تشكل طفولة الإنسان إحدى المحطات الرئيسة في مسيرة حياته، تاركةً عبر أحداثها وتجاربها وخبراتها وتفاعلاتها أعمق البصمات وأبعدها غورًا في بنيان شخصيته. تأسيسًا على ذلك يمكن احتساب تلك الخبرات والتفاعلات بمنزلة قطب الرحى في عملية تحديد سيرورة تطور تلك الشخصية، وترسّم مسارات تشكُّلها، فإما أن تجعل منه كائنًا اجتماعيًّا مستدخلاً معايير منظومته الثقافية متمثلاً أبجدياتها -الأمر الذي يتجسد عبر شخصية متكيفة مع المحيط متآلفة مع عناصره- وإما أن تغرس فيه بذور التنافر والتوتر والاختلال التي تتفاعل فيما بينها، مفضية إلى بناء شخصية مضطربة معقدة تتنازعها تيارات الانحراف والاعتلال.
في ضوء ذلك، ينبغي إيلاء تلك المرحلة أقصى درجات العناية والحماية، وإحاطة الأطفال خلالها بمناخات إيجابية صحية تضمن لهم النمو السليم المتكامل بمختلف أبعاده الجسمية والنفسية والعقلية والاجتماعية. إن الطفولة مرحلة نمو يتصف بها الأطفال بخصائص وعادات وتقاليد وميول، وأوجهِ نشاطٍ وأنماط سلوكٍ أخرى متميزة، ولهم في كل مجتمع مفردات لغوية متميزة، وعادات وقيم، وطرق خاصة في اللعب، وأساليب خاصة في التعبير عن أنفسهم وفي إشباع حاجاتهم، أي إن هناك ثقافة للأطفال يجب دائمًا تنميتها والعمل على ترقيتها.
تقدم المجتمع مرهون بثقافة أطفاله
إن الثقافة ضرورية للطفل، بل إن تقدم المجتمع مرهون بثقافة أطفاله، وبقدرتهم على اكتساب المعارف الجديدة، والقيم الأخلاقية والاجتماعية والتربوية الأصيلة. فالطفولة هي أساس الأمة وعليها يقوم بنيانها وازدهارها أو ضياعها، لهذا اهتمت الأمم بالأطفال واعتنت بهم، وجعلتهم همها الدائم وشغلها الشاغل كي تبني شخصية الطفل ثقافيًّا. كما أن شخصية الطفل لن تكون متزنة وتامة إلا إذا أولينا فكره وعقله من العناية مقدار ما نولي جسمه حتى ينشأ متكاملاً معافى متزنًا.
من هنا تأتي أهمية الرؤية التربوية النبوية؛ فقد سبقت الرعاية النبوية للأطفال كل المواثيق والأعراف الدولية، والنظريات التي تتحدث عن تربية الأطفال وحقوقهم ورعايتهم بقرون طويلة، ولا تزال التقاليد والآداب الراسخة التي أرساها النبي الكريم محمد ، هي الأجدى والأنفع في بناء الإنسان السليم نفسيًّا وعاطفيًّا. فقد اهتم الإسلام بحقوق الطفل، حتى حقه في أن يختار الأبُ زوجة ذات دين أمًّا صالحة تحسن رعاية الأولاد وحضانتهم، حتى إنه من حق الطفل أن يختار له أبوه اسمًا لا يتأذى أو يخجل منه إذا كبُر، وحقه أيضًا في الرعاية والتدليل والختان إذا كان ولدًا.
لكن هذه الرؤية الإسلامية لا تتعارض مع التطورات العصرية في التربية؛ ففي عالم الانفجار المعرفي والسكاني حيث تزداد سرعة التغير، فإن حقائق الماضي -غالبًا- لا تكفي لحل مشكلات الحاضر والمستقبل، مما يستلزم من عالمنا المعاصر أن يبحث عن مداخل جديدة للخبرة، حيث يصبح للتفكير الإبداعي أهمية اجتماعية في هذا العالم. فإذا أراد الإنسان أن يحيا بالصورة التي يرضاها لنفسه في عالم الغد، فعليه أن ينشئ أطفاله على أن يحققوا إمكاناتهم الإبداعية إلى أقصى درجة ممكنة.
إن عصرًا سمتُه الأساسية أنه عصر العلم والتكنولوجيا، يصبح الإبداع فيه مطلبًا لا مناص منه لمن أراد أن يجد لنفسه موقعًا متميزًا على خريطة عالم يتقدم من خلال وثباتٍ علمية كيفية تتجاوز كل قدرة على التنبؤ -والإبداع في صميمه تجاوز للمألوف- وهذا التجاوز لا يتحقق إلا من خلال مسايرة التيارات الكوكبية التي تنشغل في كثير من الأحيان بتعليم الطفل، باعتباره حجر الزاوية في المجتمع الكوكبي الجديد، حيث الأطفال فيه، هم قادة المستقبل في إحداث التغيير المطلوب، ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق تعليمهم وتدريبهم على إنتاج المعرفة بدلاً من تدريبهم على أن يكونوا مستهلكين، وهو ما يقتضي إطلاقَ العنان لخيال أطفالنا، حيث إن “العلم ثمرة الخيال”؛ فعندما نسمح لأطفالنا بالدهشة التي هي جوهر الإبداع، ولا نقهر في داخلهم روح التساؤل، ولا نضع حدودًا لتعطشهم المعرفي، ولا نحبط داخلهم أي نزوع صوب البحث والتنقيب والاستكشاف… نكون قد بدأنا بوضع الجذور الجنينية لجيل بمقدوره أن يحدث التغيير الإبداعي المطلوب.
كما أنه لابد من تضمين ثقافة الطفل حقيقة العلم وقوة سلطان منهجه، وتوظيفه لخدمة الإنسانية العالمية التي تتجاوز الشعوب والأفراد والأمم، خاصة وأن العلم الذي نقل البشرية من طور إلى آخر، هو الذي يقوم حاليًّا بإيجاد عالم جديد ولحظة تاريخية مختلفة كل الاختلاف عن كل ما هو قائم حتى الآن. لقد تحول العلم والثورات العلمية إلى قوة من القوى الكاسحة التي تصوغ الأحداث، وتشكل المستقبل، وتعيد ترتيب أولويات الدول والمجتمعات والأفراد. فمن يمتلك هذه القوة ويحسن توظيفها، يمتلك أساسًا مصيره ويتمكن من التأثير في الآخرين، بما في ذلك القدرة على إدارة العالم سياسيًّا واقتصاديًّا وتوجيهه ثقافيًّا.
(*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر