(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا)(الفرقان:63-65).
قد لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن “رجال الخدمة” تعلّموا من “عباد الرحمن” ومن صفاتهم كما وردت في الآيات الكريمة الآنفة، حتى ليمكننا القول -دون مبالغة- إنهم امتداد لهم وانعكاس عنهم.
هونًا على الأرض تمشون.. مسالمون.. ملائكيّون.. ظهرَ الأرض لا تخدشون.. وترابَها لا تُوجِعون.. وأحدًا من خلق الله لا تؤْذون.. وحتى الهوام والدّواب أنْ تطأها أقدامكم تحاذرون.. وإذا خاطبكم الجاهلون، سلامًا تقولون.. كنسائم الفجر تهبّون، والنِّيام تنبّهون.. لا تعنفون ولا تصخبون.. على سهام الغدر عصيون، وعن قوارص الكلام تصمون.. عن هويتكم لا تنسلخون.. بأنفسكم تسمون.. وبأخلاقكم تتعالون.. واعون غير ساهين.. متيقظون لا تنامون.. تعلون، أبدًا ولا تسفلون..!
حتى إذا بكم الأخطار حاقت، ووجودكم تهدَّد، ولبقائكم يرادُ له الفناء؛ تحرَّك قلقكم، وتصارخت أرواحكم، وتحافزت قواكم، وعن سواعدكم شمَّرْتم، وعلى الحفاظ على شرفكم تداعيتم.. فاجتمعتْ السواعد، وتشابكتْ الأيدي، وتساندت الأكتاف، وتزاحمت المناكب، وتدفقت النخوات، واشتدت العزائم، وقويت الإرادات، وتفتحت ميازيب العقول، واجتمعتْ المدارك، ووقفتم على الثغور، تحرسون لا تنون، وتجهدون ألاّ تؤتَون، من حيثُ لا تعلمون..!
وأنفسكم من الفناء والزوال تحصنون، ليس خوفًا على أنفسكم فحسب، بل خوفًا على أمّتكم، هذه الأمة التي تشكلون فيها قوة دافعة إلى الأمام.. إنّهم روح الأمة الإبداعية، وعقلها المفكر.. فمن دونهم يخشى على الضمائر من الانحلال، وعلى العقول من الضياع، وعلى الأخلاقية العالية من التدهور والانحطاط.. لا أدري أين نجد العظمة الحقيقية في هذه الأمة إذا نحن شطبنا على وجودهم، وعملنا على انحلالهم وتفَكّكهم؟! فكيان هذه الأمة “روحي” سواء أردنا ذلك أم لم نرد، فهو واقع يكاد يفقأ كل عين لا تبصر هذه الحقيقة.. فهؤلاء أبناء الخدمة -رجالاً ونساءً وشبابًا وفتيانًا- انعكاس لهذا الكيان الروحي، وامتداد له، فإذا ما خلتْ الأمة من مرآة ينعكس عليها شيء من كيانها الأصيل اختفت ذاتها وضاعت هويتها، وذابت بين أمم الأرض.. فهذه “الخدمة” غدت اليوم قضية الأمة الأساس، وهي حريصة عليها حرصها على روحها، لأنها شيء انبثق من أعمق أعماق وجدانها، وهي تشكل بفكرها الرشيد عمودًا من أعمدة البناء الحضاري لهذا الوطن اليومَ وغدًا… إنها نبض الحقيقة المنساب صداه في قلب كل إنسان وفي قلب كل عالَمٍ من عوالم الأكوان.. فأقصى طاقات الحياة الإيمانية يمكن أن نجد ما يدل عليها في أبنائها وهم يمارسون أبسط أعمالهم المهنية والحرفية.
إنّ دلائل تبدل روحي نلمحه في أبناء هذا الوطن بفضل جهود هؤلاء الأبناء.. إنهم روح جَوّال يُظِلُّ الناس في أسواقهم ومكاتبهم ومدارسهم وجامعاتهم، وفي كل مكان من أرض الوطن.. إنهم يعيشون للخلود، ويعملون في سبيل الخلود، فلا يمكن لكل شرور الأرض مجتمعة أن تحرفهم عن هدفهم، أو تمنعهم حقهم في العمل من أجل ذلك.
اذهبوا يا “أبناء الخدمة” حيثما شئتم وأنتم محاطون بالنور والحكمة والعقل والبصيرة، فأنتم القوة التي ستوطد أركان الحقيقة الكبرى على هذه الأرض، حيث تتلاقى تخوم الأفكار جميعًا ثم تتجاوز حدود المتناقضات لتتحد بعد ذلك في فكر واحد هو الطريق إلى الخلود وإلى الله تعالى.
(*) كاتب وأديب عراقي.