غزوة أحد… تلك التي كانت للمسلمين درسًا لا يُنسى، وعبرة لا يُشترى بها ملء الأرض ذهبًا؛ ذلك أنَّهم طعموا -فيها- مذاق الهزيمة، ونالهم منها شيء من ريح الانهزام… وحينها تيقّنوا أنَّ النصر ليس وعْدًا أبَديًّا، وأنه أسباب ومقدمات، وبواعث وتحضيرات إذا ما وفَوها حقّها ومستحقها نُصروا وغَلبوا، وإلا انكسروا وغُلبوا، وهذا فحوى قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ)(النساء:123).
ولقد كان لـ”تلّة الرُّماة” رمز ودلالة؛ ذلك أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بتخطيطه المحكم وبتكتيكه الملهم، أمر الرماة بملازمة التلة في جميع الظروف ومهما كانت تقلُّبات الحرب، بهذا تم الانتصار ابتداء للمسلمين، ولم يتمكّن الكفار وعلى رأسهم القائد الصعب المراس خالد بن الوليد، لم يتمكّنوا من مباغتة الجيش المجاهد من الخلف، فهرب جيش قريش ورجع القهقرى.
لكن في هذه اللحظة الصعبة تغير كلُّ شيء، وبخاصة حين بدأ الجنود يجمعون الغنائم ويحصدون المكاسب. لحظتها همَّ عدد من الرماة بالمغادرة، وكان الصحابي الجليل عبد الله بن جبير -رضي الله عنه- يذكّرهم بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنهم وإن لم يعصوا أمره -صلى الله عليه وسلم- غير أنهم أوَّلوه أنَّ الأمر لا يشمل نهاية المعركة وإنما أوانها فقط. فغادروا التلّة، وتركوا الظهر مكشوفًا، ومكّنوا لخالد ومَن تحت إمرته رقاب الجيش المسلم؛ فدارت الدائرة لصالح الكفار، ولولا أنَّ الله سلّم لكان ما كان من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام -رضي الله عنه-.
ما من شكٍّ أني لست بصدد ديباجة مقال عن السيرة النبوية، ولا في مقام استنباط العبر والمعاني اللامتناهية من هذا الحدث الخطير في تاريخ البشرية قاطبة، وإنما مقصدي هو البحث عن “تلّة الرماة” في الصراع الحضاري الذي تدور رحاه في عصرنا بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب، وبين الإيمان والجحود.
فأين هي تلة الرماة اليوم؟ ومن هم الرماة المكلفون بالصبر عليها؟ وهل سيتمكّنون من استنباط العبر، ومن ثم يلازمون التلة مهما كانت الظروف؟ أم أنهم يستعجلون ويلتحقون بصفوف المنتصرين رغبًا أو رهبًا؟.
أجزم أنَّ تلة الرماة اليوم هي “حقول التربية والتعليم”، وفي المستوى الأشمل هي “الخدمة ونفع الخلق”. ذلك أنَّ هذه التلة، ليس فيها مكاسب، ومن عليها لا يبدو أنه يحارب، ولا يقال عنه “بطل”، مثلما هو الحال مع “السياسي” و”الاقتصادي” و”المشاهير” من كلِّ فن وحقل… ثم إن النصر قد لا يُنسب لهم، وقد يعتقد الكثيرون أن هؤلاء لا ناقة لهم ولا جمل فيما يناله الناس من تقدم وإنجاز… وبالتالي، قد يُظلمون، وقد لا يفْهم أحد حقيقتهم، وقد يكونون مثار جدل.
ثم إن الصبر على تلة الرماة مهما كانت الظروف والأحوال، أمر عسير، ومرتقى صعب، لا يقدره إلا الفحول، ولا يستطيعه إلا المقرَّبون، ولا يملك الثبات عليه إلا المؤيَّدون الملهَمون الربّانيون ممن محق “أَنَاه” وسحقها، وانصهر في الجماعة صبرًا وعشقًا، والتزم الوعي الجمعي مذهبًا ومَسلكًا، ولم يكن في إشارته يحيل إلا إلى الله تعالى وحده، هو صاحب الأمر والملك والخلق، لا شيء يكون إلا بحكْمه وعلى مقتضى حِكمته.
على تلة الرماة اليوم يقف المعلِّمون الصادقون، والخدام المتفانون، والنافعون لخلق الله الأحمديّون… هم قلّة إذا قِيسوا بأهل المناصب والوظيف، وهم ثلّة يسيرة بين صفوف أهل المكاسب والرغيف، وهم “لا شيء” في عيونهم؛ إلا أنهم مصدر كل بركة ورحمة تنزّل من عند الله، سواء في ذلك عرفهم العارفون أم جهلهم الجاهلون أم جحدهم الجاحدون… لا فرق.
الخدمة ونفع العباد بلا مقابل ولا أجر -فيما نحسب، وفيما نرى، وبناء على الخيارات الشاقة والشديدة التي تخيرتها طواعية وإيمانًا- تقف اليوم على تلة الرماة، ذلك أنها اختارت التربية والتعليم، ونشر الخير والبر، وإدخال السرور على البشر من كل أصقاع العالم، وكشف الكرب عن المظلومين المقهورين من كلِّ جنس ولون، دون أن يبحثوا عن مقابل أو يتبجحوا بذواتهم، وإنما يتولون بذلك بقلوب مؤمنة، وأفئدة مطمئنة، وأرواح زكية، ونفوس مرضية… وهم يردّدون في كل وقت وحين: “فَدَاكَارْلِيق يا هو”(1)، “أَدَب يا هو”، “إيمان يا هو”، “يقين يا هو”، “قَبُول يا هو”.
هؤلاء ومَن كان على شاكلتهم، بغضّ النظر عن انتمائه وجغرافيته، وعن فصله وأصله… هؤلاء هم رماة هذه الأمة، وظنّنا بحول الله تعالى فيهم، أنهم سيثبتون، وأنهم سيصبرون، وأنَّ الإسلام بفضلهم سيعمّ الأكوان، وسيغمر العالمين… (وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(الرعد:31).
(*) مدير معهد المناهج، الجزائر العاصمة / الجزائر.
الهوامش
(1) “فَدَاكَارْلِيق” في اللغة التركية تعني العطاء والتضحية