فلسفة العيش في الحاضر
كانوا يقولون لنا ونحن صغار: «اعملوا لمستقبلكم»، فكبرنا ونحن نحمل هذه الكلمة كوصيّة مقدّسة، نؤجّل الضحكة إلى حين، ونؤخّر الراحة إلى غدٍ لا يأتي، كأن السعادة وعدٌ مؤجَّل في بريد الأيام. كنا نظن أن الحياة تنتظرنا خلف الأفق، وأن الفرح مؤجَّل إلى موسم قادم، فإذا بالحياة تمضي ونحن على رصيف الانتظار.
في المدرسة قالوا: اجتهد لتكون شيئًا في المستقبل.
وفي الشباب قالوا: تعب اليوم راحة الغد.
وفي العمل قالوا: اصبر الآن، فالثمر قادم.
وفي المرض قال الأطباء: نعالج لأجل المستقبل.
تكررت العبارة، وتبدلت الوجوه، وبقيت الكلمة ذاتها تلاحقنا كظلٍّ لا يغيب: المستقبل.
لكنَّ أحدًا لم يخبرنا أن المستقبل لا يسكن الغد، بل يقيم في صدر اللحظة التي نحياها، وأن من ضيّع اليوم طلبًا للغد، فقد خسر الاثنين معًا.
مضت الأيام، فإذا بالغد الذي سعينا إليه لم يكن إلا وجهًا آخر للأمس، وإذا بالحاضر الذي أهملناه هو الفردوس الذي كنا نبحث عنه.
كم من إنسان عاش يَعدّ الأيام بانتظار غده المشرق، فلما جاء الغد، جاء شاحبًا كوجه الأمل بعد السنين.
وكم من أبٍ أرجأ ضحكته مع أولاده إلى حين فراغٍ لم يأتِ، فكبر الأبناء وتفرّقوا، وبقيت الضحكة حبيسة الحلق.
وكم من محبٍّ أخَّر لقاءه حتى استحال اللقاء ذكرى على قبر.
إننا نؤجل الحياة حتى تغادرنا، ونحسب أننا نتهيّأ لها، فإذا بنا نودّعها على عتبة الغفلة.
روى أحد الحكماء أنه كان يُحدّث تلاميذه عن السر الأعظم في الوجود، فقال: “لا تقل سأفرح غدًا، فإن الغد يحمل همَّه كما يحمل سروره، افرح الآن، فهذه اللحظة وحدها هي عمرك كله”.
وصدق الشيخ؛ فما نملكه حقًّا ليس الغد ولا الأمس، بل هذه اللحظة التي بين أنفاسنا.
إنها الومضة التي تزن الدهر كله، والبرهة التي تختصر فيها معاني العمر الطويل.
رأيت شيخًا طاعنًا في السن يجلس كل صباح على مقعد في الحديقة، يتأمل المارّة بابتسامة شاردة. سألته يومًا: ما الذي يجعلك تأتي كل يوم؟
قال بصوت متعب كأجنحة المساء: “كنت أؤجل كل شيء للغد، حتى صرت اليوم بلا غد، كنت أقول: حين أرتاح أزور أصدقائي، حين أفرغ أرى أبنائي، حين أستقر أضحك، حين أطمئن أعيش. وها قد جاء الاستقرار، لكن بلا وقت، وجاء الاطمئنان، لكن بلا حياة. فما بقي لي إلا هذه الساعة، أعيشها كما لم أعش غيرها”.
كان كلامه درسًا من دروس القدر، كأن الأيام نفسها كانت تنطق على لسانه.
الحياة ليست وعدًا ننتظر تحققه، بل هي لحظة نحسن التقاطها.
وليس الفرح في الوصول إلى المستقبل، بل في أن نعي أننا نعيش فيه الآن.
فكل دقيقة نحياها بوعي وامتنان، هي مستقبل تحقّق، وغدٌ وُلِد قبل أوانه.
إن الذين يعيشون للحظة لا يخسرون شيئًا، لأنهم يعيشون حقًّا.
أما الذين يعيشون في تأجيل دائم، فهم كمن يركضون خلف ظلٍّ لا يُدرك.
لقد أغرقتنا المدنية الحديثة في وهم التخطيط حتى نسينا فنّ العيش.
صرنا نَعدّ الأيام كأرقام في جدول، لا كأنفاس في قلب.
نكدّس المال ونضيع المعنى، نشيّد البيوت ونهدم الطمأنينة، نطارد المستقبل حتى يصبح الحاضر غريبًا في أوطاننا.
فيا للعجب! نعيش نفكر في الغد، ونموت ونحن نحلم بالأمس.
إن العيش في اللحظة لا يعني ترك العمل أو نبذ الغايات، بل أن نشرك الروح فيما نصنع، أن نكون حاضرين في أفعالنا، شاعرين بجمال ما نملك، شاكرين لأنفاسنا التي لا تُشترى.
أن ندرك أن الحاضر ليس ممرًّا عابرًا، بل هو الحياة نفسها.
انظر إلى الزهرة وهي تتفتح في فجرها، لا تفكر في ذبول الغد، بل تعطي عطرها للحظة.
واسمع صوت العصفور، لا يغني لأجل موسم قادم، بل لأن قلبه امتلأ غناء الآن.
فما أحوجنا أن نتعلم من الزهور والعصافير معنى الحضور.
قال الحسن البصري رحمه الله: “يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك”.
وقال جلال الدين الرومي: “في اللحظة التي أنت فيها، يوجد كل ما تحتاج إليه”.
أجل، فالحياة لا تنقصها الأيام، بل ينقصها الوعي باليوم.
ومن وعى يومه، ملك دهره.
إن كل لحظة تُمنح لنا هي رسالة من السماء تقول: “كن هنا، فإن الغد ليس مضمونًا”.
فلتكن لحظتك صلاة، وابتسامتك عبادة، ووجودك شكرًا على نعمة الوجود.
ابتسم، وقل الحمد لله، وامنح قلبك فسحةً من الحضور.
فرُبّ لحظة صادقة، تفتح لك أبواب الدهر المغلقة.
ورُبّ يوم واحد، يكون أثمن من عمر بأكمله.
وها أنا أقولها بعد كل تلك الأصوات التي مرّت في العمر: لا تعمل للمستقبل وحده، بل اعمل فيه، فهو هذا اليوم الذي بين يديك.
فحين نؤجّل الحياة للغد، يشيخ الغد في مهد اليوم، وتموت اللحظة وهي تبحث عمّن يعيشها.
فكن ابن الآن، فإن الساعة التي تحياها بامتنان هي أبدك الحقيقي.
وما عداها، سرابُ عمر مؤجَّل في دفتر الغياب.


